مختارات

العلّامة محمد أحمد الدالي والكامل للمبرد

كلَّما مَرَّ بي كِتاب (الكامِل) للإمام أبي العبَّاس محمَّد بن يزيد المُبَرِّد = أتذكَّر المحقِّقَ الجليل الدُّكتور محمَّد أحمد الدَّالي رحمه الله.

حُقِّقَ (الكامِل) غيرَ مرَّة، ولكنَّني لم أُقبِلْ إلَّا على النَّشرة التي حقَّقَها العلَّامةُ الجَليلُ محمَّد أحمد الدَّالي وعلَّقَ حواشيَها وصنعَ فهارسَها!

شيءٌ ما شدَّني إلى تلك النَّشرة! أَرُدُّهُ، اليومَ، إلى تحيُّري كلَّما طالعتُ نشرةً قديمةً لذلك الكِتابِ الذي عَدَّه ابنُ خَلدون مِن أُصُول فنِّ الأدبِ وأركانه عند العرب.

راعَني جمالُ الطَّبعة وأناقتُها، وتلك مَزِيَّةٌ في الكُتُب التي تنشُرها مؤسَّسة الرِّسالة، ولا تزال الطَّبعة الثَّانية على تقادُمها (١٤١٣هـ = ١٩٩٣م) أنيقةً جميلة! فاقتنيتُها، ولَذَّ لي ما في الكِتاب مِن أدبٍ، ولُغةٍ، ونَحْوٍ، ونوادرَ، وأخبارٍ، هي جِماعُ عُلُوم العرب، ومَجْلَى عَبقريَّتهم.

وأدركتُ أنَّني إزاءَ محقِّقٍ جليل، وعالِمٍ مقتدِر، وداخَلَني شُعُورٌ أنَّني أُطالِع لونًا طريفًا مِنَ التَّحقيق؛ ذلك أنَّ الأصلَ في تحقيق التُّراث هو صِحَّة القراءة – ما أمكنَ – لا كثرة الشُّرُوح والتَّعليقات، مهما كانت مهمَّةً، لكنَّ المحقِّقَ، وما كُنْتُ أعرف اسْمَه، مِن قَبلُ جَمَعَ الحُسنَيَين؛ سلامةَ المَتن، ما استطاعَ إلى ذلك سبيلًا، وجودةَ الشَّرح والتَّحشية، حتَّى كأنَّه مُحَشٍّ، فكانت عيني تقرأُ المَتْنَ، ثُمَّ لا تلبَثُ أن تطالعَ الحاشِية، فأفهَم، وأذوق، وأتلذَّذ!

واستجلبَ نظري – أوَّلَ اتِّصالي بهذه النَّشرة القَشِيبة – حِرصُ المحقِّق الدَّالي على أسانيد الكِتاب، ولم أُدرِكْ غايتَه إلَّا بعد سنواتٍ تعقُبها سنوات، عَناني مِن أمرِ الكُتُب العربيَّة اتِّصالُها بمؤلِّفيها، وتَحَوُّلها مِن ناحيةٍ إلى أُخرى، وقادَني ذلك إلى ثقافةٍ بديعةٍ تَحُفُّ بالكِتاب وتُحيطُ به، وكُنتُ مَشغوفًا، وما زِلتُ، بأصُول التَّأليف في ثقافتنا، وتَعَرُّف شَجَرَة الكُتُب؛ فللكُتُبِ أنسابٌ مثلما للبشَرِ مشجَّراتٌ وأنساب! وفي الكُتُب ما يُعَدُّ رأسَ قبيلةٍ، ولها أصلٌ وفَصْل؛ فاتَّخذتُ مِن شجَرة رُواة (الكامل) تلك التي صَنَعَها العلَّامة الجليل محمَّد الدَّالي سَبيلي لفَهْم كلامٍ متشعِّبٍ طويلٍ كُنتُ ألقاه في كُتُب الشُّيوخ والفهارس والبرامج والأثبات.

كان كِتاب (الكامِل) طريقي إلى هذا المحقِّق الكبير، وبِتُّ أتتبَّعُ محقَّقاته، وظَفِرتُ مِنهنَّ بـ (أدب الكاتِب) لابن قُتَيبة – وهو مِنْ أصُول فنِّ الأدبِ عند ابن خَلدون – ثُمَّ مجموعِه الطَّريف (الحصائل في عُلُوم العربيَّة وتراثها) في ثلاثة أجزاء.

كان العلَّامة محمَّد أحمد الدَّالي رحمه الله، مَجْلَى العبقريَّة الشَّاميَّة في حُبِّ العربيَّة وعُلُومها. كان خُلاصةَ أشياخها الكِبار، أولئك الذين جادَ الزَّمانُ بهم ثُمَّ أمسك؛ (طاهر الجزائريّ، محمَّد كُرْد

عَليّ، عِزّ الدِّين التَّنوخيّ، سعيد الأفغانيّ، أحمد راتب النَّفَّاخ، شاكر الفحَّام، مازن المبارك).

قرأتُ، اليومَ، كلمتَه الفخمة في شيخه الجليل العلَّامة أحمد راتب النَّفَّاخ رحمهما الله، فغبطتُه ورُبَّما حَسَدتُّه؛ فلا حَسَدَ إلَّا في اثنتَين….!

قرأ الدَّالي على شيخه النَّفَّاخ، في السَّنة الأُولى بكُلِّيَّة الآداب بجامِعة دِمَشق: عِلْم العَروض، والمكتبة العربيَّة، والأدب القديم.

ودَرَّسَهُم في السَّنة الثَّانية نُصوصًا مِن كِتاب (الكامل) لأبي العبَّاس المُبَرِّد “ولم يكنْ في محاضَراته دُونَ صاحِبه المُبرِّد عِلمًا باللُّغة والعربيَّة والأخبار وغيرها… ولم تكُنْ مادَّةُ النُّصوص عنده غايةً في ذاتها بل كانت وسيلةً إلى بيان أصُول النَّظَر في كلام المتقدِّمين وأمَّهات مصادر التُّراث العربيّ الإسلاميّ”.

ثُمَّ دَرَّسَهُم في السَّنة الثَّالثة (مغني اللَّبيب) لابن هشام الأنصاريّ “وما كانت مادَّةُ المُغْني وحدَها هي ما عُنِيَ به الأستاذ، بل كان أَعْنَى ببيان منهج فَهْم كلام المتقدِّمين، والقراءة النَّاقدة البصيرة بكلامِهم، وعدَم الاطمِئنان إلى النَّظْرة العَجْلَى فيه، ولا إلى الرَّأي الذي يبدو لك مِنْ قراءته أوَّلَ مَرَّة”.

ودرَّسهم في الدِّراسات العُليا أبوابًا مِنَ (الخصائص) لابن جِنِّي، وأملَى “عليهم شيئًا مِمَّا انتَهَى إليه في القِراءات القُرآنيَّة. وبسَطَ خلالَ ذلك أصُولًا مِن أصُول عِلْم العربيَّة وعِلم القِراءات… وبسَطَ لنا أصُولَ تحقيق نُصُوص التُّراث العربيّ الإسلاميّ”! رحم الله محمَّد أحمد الدَّالي وغفر له!

المصدر: شبكة الألوكة/ الكاتب: حسين بافقيه



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى