غير مصنف

الهجوم على السنة النبوية

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب


السُّنَّة هى المصدر الثانى بعد القرآن للدين كله لا للتشريع فقط. ‏نعم ليست السنة المصدر الثانى للتشريع فحسب بل للعقيدة ‏والأخلاق والسلوك والذوق أيضا. ذلك أن الرسول لم يكن يتناول فى ‏أحاديثه أمور التشريع وحدها بل كان يدعو معها إلى الأخلاق ‏الكريمة والتصرفات القويمة والذوق الراقى والعقيدة السليمة وما إلى ‏هذا. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ألا وإنِّى أوتيتُ الكتابَ ‏ومثلَهُ معه”. فمِثْلُ الكتاب هو السنة الشريفة. وهذا أمر طبيعى، ‏فليس من المعقول أن يكون الرسول مجرد حامل للوحى لا يصنع شيئا ‏آخر غير تبليغه دون مبالاة بعجز الناس عن فهم القرآن، أو حيرتهم ‏أمام النص لا يدرون كيف يطبقونه أو كيف يُنَزِّلون الواقعة التى ‏أمامهم على المبادئ العامة التى يتضمنها مثلا. فمن الطبيعى أن يتكلم ‏الرسول فى هذه الحالات وأشباهها. ولا بد أن يكون كلام الرسول فى ‏الدين صحيحا ما دام القرآن لم ينزل بتصحيحه، وإلا فمن يكون ‏كلامه صحيحا يا ترى؟ ‏
أما إذا نزل القرآن يخالف ما قاله الرسول أو عمله فهذا أمر ‏استثنائى، وأما سائر كلامه فى الدين فصحيح. وبالمناسبة فإن الأمور ‏التى عاتبه القرآن فيها إنما تدل على حبه صلى الله عليه وسلم لدعوته ‏وحرصه على خدمتها بكل ما يستطيع وميله للتيسير على العباد ‏واجتهاده فى راحتهم، لكن الوحى قد ينزل رغم ذلك أحيانا مبينا له ‏أن خلاف ما صنع هو الأولى، إذ فوق كل ذى علم عليم هو الله ‏سبحانه، الذى يعرف مصلحة العباد أفضل من أى إنسان حتى لو كان ‏ذلك الإنسان نبيا رسولا. ‏
الرسول إذن ليس مجرد مبلغ للقرآن عن ربه، بل يتكلم ويحكم ‏ويُفْتىِ ويشرع ويوجه الأخلاق والسلوك ويرقّى الذوق ويصحح العقيدة ‏ويهدى الضمير. وعلى هذا فإن أحاديثه جزء أساسى من الدين. وقد ‏حذر عليه السلام المسلمين إنكار السنة بحجة أن فى كتاب الله ‏الكفاية: “ألا هل عسى رجلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عنى وهو مُتَّكِئٌ‎ ‎على ‏أريكَتِهِ، فيقولُ: “بينَنَا وبينَكم كتابُ اللهِ: فما وجدْنا فيه حلالًا ‏استحلَلْنَاه، وما وجدْنا فيه حرامًا حَرَّمناه”. وإِنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ ‏صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كما حرمَ الله”، “لا أُلْفِيَنَّ أحدَكُم مُتَّكِئًا‎ ‎على ‏أريكَتهِ يأتيهِ الأمرُ من أمرى ممَّا أمرتُ بهِ أو نّهَيْتُ عنهُ، فيقول: ‏‏”بيننا وبينكُم هذا القرآنُ. فما وجدنا فيه من حلالٍ أحللناهُ، وما ‏وجدنا فيهِ من حرامٍ حَرَّمْناهُ”. ألا وإنِّى أُوتِيتُ الكتابَ ومثلَهُ معه”‏‎.‎‏ ‏
والواقع أنه بدون الحديث يمكن أن يقع كثير من الناس فى ‏أخطاء شنيعة، فيشربوا الخمر مثلا اعتمادا على الآية التالية: “ليس ‏على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُنَاحٌ فيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوْا ‏وآمَنوا وعملوا الصالحات ثم اتَّقَوْا وآمَنوا ثم اتَّقَوْا وأحسَنوا”. فالآية فى ‏ظاهرها تقول إن المهم الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وليس هناك ‏أى بأس بعد ذلك فى أن يأكل الإنسان ويشرب ما يشاء. إلا أن هناك ‏فئة تنتسب إلى الإسلام ظهرت فى العصر الحديث تنكر الأحاديث ولا ‏ترى سوى القرآن، وترفض ما أُثِر عن الرسول من قول أو فعل أو ‏تقرير، ولا تجد له قيمة. بل إن بعضهم ينفى أن يكون الرسول قد نطق ‏بشىء آخر سوى القرآن، وكأنه جهاز تسجيل وليس إنسانا ذا عقل ‏وقلب وضمير وشعور بالمسؤولية وقدرة على الشرح والتوضيح ‏والتطبيق والحكم والتوجيه. وهذه الفئة تسمى: القرآنيين. ‏
ولتلك الطائفة بذرة قديمة، فقد ذكر ابن تيمية فى “رسالة ‏الفرقان بين الحق والباطل” عن الخوارج أن “أصل مذهبهم تعظيم ‏القرآن وطلب اتِّباعه، لكنْ خرجوا عن السنة والجماعة، فهم لا ‏يَرَوْن اتِّباع السنة التى يظنون أنها تخالف القرآن كالرجم ونصاب ‏السرقة وغير ذلك”. وبالمثل نراهم لا يوافقون على المسح على الخفين ‏لأنه ليس مذكورا فى كتاب الله. كذلك فإن النجدات أضافت إلى ‏ذلك إسقاط حد الخمر لعدم وروده فى القرآن. وكان بعض المعتزلة على ‏الأقل لا يَرَوْن فى الحديث المتواتر حجية، لجواز دخول الكذب عليه. ‏كما كان النظّام يَعُدّ أبا هريرة أكذب الناس. وفى كتاب “الأم” يورد ‏الشافعى حوارا بينه وبين أحد منكرى السنة فى عصره أواخر القرن ‏الثانى الهجرى. ‏
ومن الذين يقولون بذلك فى العصر الحديث طائفة من أهل الهند ‏ظهرت فى أواخر القرن التاسع عشر منها مولوى عبد الله جكرالوى ‏ومولوى أحمد الدين أمرتسرى ومولانا أسلم جراجبورى وغلام أحمد ‏برويز على ما وضح د. خادم بخش فى كتابه القيم: “القرآنيون وشبهاتهم ‏حول السنة”. وقد انتشرت تلك الدعوة حتى وجدنا من أولئك ‏القرآنيين عددا من المصريين يتزعمهم د. أحمد صبحى منصور المدرس ‏السابق بجامعة الأزهر، والمقيم حاليا فى أمريكا. فهو، فى كتابه: ‏‏”القرآن وكفى مصدرا للتشريع” المملوء بالأخطاء الإملائية والنحوية ‏والصرفية، يهاجم بشراسةٍ بالغةٍ الأحاديثَ وجامعى الحديث. ومما قاله ‏فى هذا الصدد أن كل واحد من أصحاب كُتُب الحديث النبوى ‏الشريف قد انتخل أحاديث كتابه من عشرات آلاف الأحاديث مما ‏يدل، كما يقول، على أن الغش كان قد استشرى فى ذلك الباب. والواقع ‏أن هذا دليل ضده لا له، إذ لو كان المحدِّثون قد اخترعوا الأحاديث ‏التى تضمها كتبهم حسبما يقول فلِمَ أتعبوا أنفسهم فى الغربلة ‏والنخل؟ نعم لماذا لم يأخذوا كل حديث قابلهم وضمَّنوه كتبَهم ما دام ‏الأمر تدليسا فى تدليس؟ إن هذا فى الواقع برهان على أن علماء ‏الحديث، رضوان الله عليهم، كانوا يطبقون منهجا علميا محكما ولا ‏يقبلون الأشياء على علاتها، وإلا فلو كانوا قد اخترعوا الأحاديث ‏النبوية للإساءة إلى الإسلام كما يدعى فلم يا ترى كانوا يتعبون ‏أنفسهم ويعيدون النظر فيما اخترعوه وزيّفوه لينتقوا منه أشياء ‏ويحذفوا منه أشياء؟ ‏
أما قوله إن الإسلام لم ينتظر البخارى ومسلم وبقية علماء ‏الحديث حتى يؤلفوا كتبهم تلك، بل كان المسلمون يمارسون دينهم ‏قبل هؤلاء بقرون فالرد عليه من أسهل الأشياء. فقد كان المسلمون ‏يستعينون طوال تلك القرون بالأحاديث النبوية أيضا، وكل ما فعله ‏علماء الحديث أنهم أرادوا غربلة الأحاديث المنسوبة للنبى وتبويبها ‏بحيث يجد القضاة والمفتون وأصحاب المذاهب الفقهية مجموعات ‏الأحاديث بين أيديهم منظمةً جاهزةً لا تحوجهم كل مرة إلى تقويمها ‏والتثبت من صحتها. وليس معنى هذا أن الأحاديث التى جمعها أهل ‏الحديث هى فوق النقد، فما هم فى نهاية المطاف إلا بشر يصيبون ‏ويخطئون، شأنهم شأن أى عالم آخر فى أى ميدان من ميادين العلم. ‏لكنهم قد بذلوا مع ذلك جهودا عبقرية فى الفحص والتقويم ‏والتصنيف!‏
كذلك يزعم أحمد صبحى منصور أن الأحاديث النبوية تناقض ‏القرآن وتحاربه. وهذا كلام خاطئ، إذ متى كانت أحاديث الرسول ‏مناقضة للقرآن؟ إن ذلك لو حدث فمعناه أن تلك الروايات ليست من ‏كلام النبى عليه الصلاة والسلام، وهذا قليلٌ جِدُّ قليلٍ فى كتب ‏الحديث المعتمدة كما يعرفه كل من له خبرة فى هذا المجال، اللهم إلا ‏إذا ثبت أن التناقض المزعوم ليس تناقضا بل هو تخصيص لحكم عام ‏مثلا، أو استثناء لحالة من الحالات التى لها ظروف مختلفة، أو حكم ‏وقتى انتهى العمل به وبقى الحديث الذى يتناوله لم يندثر… وما إلى ‏ذلك.‏
ومما استند إليه منصور أيضا فى محاربة السنة النبوية زعمه بأن ‏وظيفة النبى محمد فى القرآن تنحصر فى التبليغ، والتبليغ وحده ليس ‏غير. أى أنه عليه السلام لم يكن أكثر من جهاز تسجيل. والرسول ‏عليه السلام لا يحق له، بمقتضى مزاعم منصور، أن يفتح فمه برأى أو ‏اجتهاد أو تفسير أو فتوى أو تنزيل للحكم القرآنى على هذه الحالة أو ‏تلك من الحالات الفردية… ترى ألم يحدث قط أن سأل أحد الصحابة ‏النبى عليه السلام عن معنى آية قرآنية استعصى فهمها عليه، أو جاءه ‏أحد المسلمين يستفتيه فى حالة خاصة لا يعرف كيف يطبق عليها ‏الحكم القرآنى العام، أو تحركت نفسه الشريفة لوعظ أصحابه ‏بكلام من عنده يستوحى فيه القرآن؟ كذلك كان الرسول الكريم ‏حاكما وقائدا عسكريا وقاضيا، إلى جانب كونه نبيا مبلغا للوحى. ‏وهو ما يعنى أنه عليه السلام قد ترك لنا تراثا من الأحاديث غاليا ‏ينبغى أن نتمسك به حتى نفهم الإسلام فهما سليما. ولا يكتفى أحمد ‏صبحى منصور بذلك بل يشتط فيدعى أن النبى عليه السلام خطب ‏الجمعة أكثر من خمسائة مرة، ومع ذلك لم تحفظ له خطبة جمعة ‏واحدة، إذ كان يخطب الجمعة بالقرآن. ‏
إن القرآن بوجه عام إنما يمثل دستور المسلمين، فإذا قلنا إننا ‏محتاجون إلى صوغ قوانين تنظم حياتنا، أيمكن أن يقول لنا قائل إن ‏محاولة صياغة هذه القوانين تتناقض مع وجود القرآن؟ إن القرآن ‏يكتفى فى كثير من الأحيان بالنص على الخطوط التشريعية العريضة ‏والمبادئ الأخلاقية العامة، ثم يأتى الحديث النبوى فيقدم لنا الفتاوى ‏والأحكام التفصيلية التى تستوحى تلك المبادئ العامة وتحولها إلى ‏تطبيقات عملية يومية. والحق أن القرآن والسنة النبوية يشبهان كتابا ‏ذا هوامشَ وحواشٍ: القرآن فيه يمثل المتن، والحديث يقوم بدور ‏الشرح، ولا تعارض البتة بين الاثنين. وكلام الرسول وأفعاله هى جزء ‏من الوحى، إلا إذا اجتهد الرسول عليه السلام من عند نفسه ولم ‏توافقه السماء على ما اجتهد، فعندئذ ينزل القرآن منبها إياه بوجوب ‏العدول عن هذا أو باستحسانه على الأقل: “عَبَسَ وتولَّى * أنْ جاءه ‏الأعمى * وما يدريك؟ لعله يَزَّكَّى * أو يَذَّكَّرُ فتنفعَه الذكرى * أما مَنِ ‏استغنى * فأنت له تَصَدَّى * وما عليك أَلَّا يَزَّكَّى * وأما من جاءك يسعى ‏‏* وهو يخشى * فأنت عنه تَلَهَّى * كلا، إنها تذكِرة”، “يا أيها النبى، لِمَ ‏تحرِّم ما أَحَلَّ اللهُ لك تبتغى مرضاةَ أزواجك، والله غفور رحيم؟”، “وإذا ‏قيل لهم: تَعَالَوْا يستغفرْ لكم رسولُ الله لَوَّوْا رؤوسَهم ورأيتَهم يَصُدّون ‏وهم مستكبرون * سواءٌ عليهم أَسْتغْفَرْتَ لهم أم لم تستغفرْ لهم. لن ‏يغفر الله لهم، والله لا يَهْدِى القومَ الفاسقين”.‏
وهناك رُؤًى رآها صلى الله عليه وسلم فى المنام وحدّث بها مَنْ ‏حوله، وحوارات دارت بينه وبين المؤمنين أو مجادلات قامت بينه وبين ‏الكافرين. وهناك أيضا حُكْم النبى وقضاؤه بين المتخاصمين، وهذا ‏طبعا غير القرآن. وهناك تصرفات تصرفها النبى ووافقه القرآن فيها أو ‏عاتبه عليها. وهناك رأى ارتآه النبى من عند نفسه… إلخ. وهذا كله ‏برهان على أن ما يصور به أحمد صبحى منصور رسولَ الله عليه الصلاة ‏والسلام من أنه لم يكن أكثر من آلة تسجيل ليس فيها إلا أشرطة ‏للقرآن الكريم هو ضلال فى ضلال! ‏
فإذا أضفنا إلى ما مرّ أن فى القرآن أحكاما كثيرة أتت مجملة ‏عامة، وتحتاج عند التطبيق إلى النظر فيها لاستخراج الحكم فى هذه ‏الواقعة الخاصة أو تلك لتنزيلها عليها، تبيّن لنا على نحو يقينى أنه صلى ‏الله عليه وسلم لم يكن مجرد مبلغ لنصوص القرآن ليس إلا. مثال ‏ذلك آية السرقة فى سورة “المائدة”، التى لا بد أن تثير عند قراءتها ‏الأسئلة التالية: ما قيمة المبلغ الذى تُقْطَع عنده يد السارق؟ وهل ‏تُقْطَع فى كل الأحوال أم هل هناك ظروف وشروط معينة لا بد من ‏توفرها حتى يتم القطع؟ وكيف ينفَّذ هذا القطع؟ بل ما معنى القطع؟ ‏كذلك عندنا الزكاة، ولكن كيف يخرج المسلم زكاته؟ وما نِصَابُها؟ ‏وما نسبتها إلى ماله؟ وهل الزَّكَوَات كلها شىء واحد أم هل تختلف ‏حسب نوع المال المزكَّى عنه؟ وهل لا بد من إخراجها عَيْنًا أم هل من ‏الجائز أن نخرجها نَقْدًا؟ وهكذا يرى القارئ أن هناك، إلى جانب ‏القرآن الكريم، مندوحةً واسعةً للمساهمات النبوية من خلال القول ‏والسلوك والتطبيق والحُكْم… إلخ. ‏
أما بالنسبة لما قاله أحمد صبحى منصور عن الصلاة وأنها إنما ‏وردت لنا من أيام إبراهيم عليه السلام ولم تَرِدْ عن طريق السنة ‏النبوية فيا ترى كيف وصلت إلى العرب على أيام النبى؟ أترى العرب ‏فى الجاهلية كانوا يصلون على النحو الذى كان يصلى عليه إبراهيم ‏طوال كل هاتيك القرون منذ عصر أبى الأنبياء حتى عصر محمد؟ أم ‏هل وصلتنا فى كتاب من كتب إبراهيم؟ فأين يا ترى ذلك الكتاب؟ ‏وهل كانت صلاة إبراهيم تتضمن مثلا “الفاتحة” وآيات القرآن، التى ‏لم تكن قد نزلت بعد، أم ماذا؟ ثم كيف يسكت القرآن فلا يذكر أن ‏صلاة النبى محمد وأتباعه ليست شيئا آخر غير صلاة إبراهيم عليه ‏السلام وسائر الأنبياء؟ الواقع أنه ليس أمامه إلا الإقرار بأنها إنما ‏وصلت إلينا من خلال سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحدها. ‏وبالمناسبة فأحمد صبحى منصور يصلى صلاة تختلف تماما عن صلاتنا ‏فى مواعيدها وركعاتها وأقوالها وطريقة تأديتها. فكيف، وهو يقول إن ‏مسألة كهذه لا يمكن أن يقع فيها الاختلاف؟ ثم ماذا كان يمكن ‏أن تكون النتيجة لو لم تكن هناك أحاديث تضبط تلك المسألة؟ لا ‏ريب أن الاختلاف سيكون فى تلك الحالة أشد وأزعج. وعلى ذلك ‏فَقِسْ كل أمور الدين والحياة بالنسبة للمسلمين، إذ العلماء والفقهاء ‏والمفتون مختلفون الآن رغم وجود الأحاديث، التى تضبط فهمنا ‏للقرآن، وإن كان اختلافهم محدودا، فماذا يحدث إن لم تكن هناك ‏أحاديث؟ يقينا لسوف تزداد شقة ذلك الخلاف ازديادا فاحشا يثمر ‏فتنة لا تبقى ولا تذر، ويتفتت المسلمون ويصيرون شَذَرَ مَذَر!‏
وأما بالنسبة لخُطَبه صلى الله عليه وسلم فى الجمعة وغيرها فقد ‏كانت كل خطبة من تلك الخطب تتكون من كلامه هو، وإن لم يمنع ‏هذا من الاستشهاد أحيانا ببعض الآيات الكريمة. ومن بين تلك ‏الخطب خطبته مثلا يوم أُحُد. وهذا نصها: “أيها الناس، أوصيكم بما ‏أوصانى الله فى كتابه من العمل بطاعته والتناهى عن محارمه. ثم ‏إنكم بمنزلِ أجرٍ وذخرٍ لمن ذكر الذى عليه ثم وَطَّن نفسه على الصبر ‏واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديدٌ كَرْبُه، قليلٌ من يصبر ‏عليه، إلا من عزم له على رشده. إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان ‏مع من عصاه، فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا ‏بذلك ما وعدكم الله. وعليكم بالذى أمركم به، فإنى حريص على ‏رشدكم. إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف، ‏وهو مما لا يحبه الله، ولا يعطى عليه النصر. أيها الناس، إنه قُذِف فى ‏قلبى أن من كان على حرامٍ فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر له ذنبه. ‏ومن صلى على محمد صلى الله عليه وملائكته عشرا، ومن أحسن ‏وَقَع أجرُه على الله فى عاجل دنياه أو فى آجل آخرته. ومن كان يؤمن ‏بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو ‏مريضا أو عبدا مملوكا. ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غنى ‏حميد. ما أعلم مِنْ عَمَلٍ يقرّبكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا ‏أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه. وإنه قد نفث ‏الروحُ الأمينُ فى رُوعِى أنه لن تموت نفس حتى تستوفى أقصى رزقها لا ‏ينقص منه شىء، وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله ربكم وأَجْمِلوا فى طلب ‏الرزق، ولا يحملنَّكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا ‏يُقْدَر على ما عنده إلا بطاعته. قد بُيِّن لكم الحلال والحرام، غير أن ‏بينهما شُبَهًا من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا مَنْ عَصَمَ. فمن ‏تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعى إلى جنب الحِمَى ‏أوشك أن يقع فيه. وليس مَلِكٌ إلا وله حِمًى. ألا وإن حِمَى الله محارمه. ‏والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد: إذا اشتكى تداعى إليه سائر ‏جسده. والسلام عليكم”.‏
وهو أيضا يهاجم من يعدون سنة البخارى وغيره مصدرا من ‏مصادر التشريع فى الاسلام متسائلا: هل يعقل أن تظل مصادر ‏التشريع فى الإسلام ناقصة الى أن يأتى البخارى وغيره بعد موت النبى ‏بقرون ليكملوها؟ وماذا نفعل بقوله تعالى: “اليوم أكملتُ لكم ‏دينَكم، وأتممتُ عليكم نعمتى، ورَضِيتُ لكم الاسلام دينا”؟ ‏فعنده أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للتشريع، إلا أن المسلمين ‏أضافوا له مصادر أخرى توسعت بها الفجوة بينهم وبين الاسلام. ومن ‏بين تلك المصادر الأحاديث والسنن، وكلهم مختلفون فيها جزئيا وكليا. ‏وعنده أن تلك الأحاديث ليست جزءا من الإسلام. وأولئك الذين ‏يعدونها من الإسلام إنما يتهمون النبى عليه السلام بأنه لم يبلغ الدين ‏كاملا وبأنه فرَّط فى تبليغ هذا الجزء. ‏
هذا ما قاله أحمد صبحى منصور. والواقع أنه يتلاعب هنا ‏بالكلمات، فنحن لا نؤمن بسنة البخارى ولا غير البخارى بل بسنة ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم، التى جمعها ودونها هؤلاء الأفذاذ. ‏وكانت تلك السنة موجودة منذ أيام النبى، ودوَّن بعض الصحابة أشياء ‏منها، وكان المسلمون يحفظونها، ويلجأون إليها فى تشريعاتهم حين لا ‏يجدون فى القرآن مبتغاهم وجودا مباشرا مثلما كانوا ولا يزالون ‏يستخدمون عقولهم واستنتاجاتهم وقياساتهم عندما لا يجدون فى ‏القرآن والحديث مبتغاهم وجودا مباشرا. وكل ما صنعه أصحاب كتب ‏الحديث هو أنهم نقلوا أحاديث النبى من الصدور والأفواه والصحف ‏إلى كتب ألفوها هم وبَوَّبُوها حتى تكون تحت يد من يريد فلا يضيع ‏وقته فى البحث عنها ولا فى التحقق منها بدءا من نقطة الصفر. ترى ‏هل يصح أن نقول إن الناس لم تكن تتنفس إلى أن صنف العلماء ‏والأطباء كتبا فى الجهاز التنفسى والشهيق والزفير وشرحوا عملية ‏التنفس؟ فكذلك الحال فى كتب الحديث.‏
أما قوله إن المسلمين يعدون ما كتبه البخارى وغيره هو السنة ‏النبوية، ويدّعون أنها وحى من السماء رغم أن ذلك الوحى قد امتنع ‏عن كتابته الرسول والخلفاء الراشدون وغير الراشدين إلى أن جاء ‏بعض الناس كالبخارى وغيره فتطوعوا بدافع شخصى لتدوين تلك ‏السنة، بما يعنى أن الإسلام ظل ناقصا إلى أن تقدم البخارى وغيره ‏لإكماله فى عصور الفتن والاستبداد والانحلال، أما قوله هذا فهو قول ‏متهافت لا يصمد أمام النظر العقلى. فأى دافع شخصى بعث البخارى ‏أو غيره على تأليف “صحيحه” أو “مسنده” يا ترى؟ هل كان يريد ملكا ‏أو مالا أو جاها؟ فكيف؟ إننا لا نقول إن كل ما جمعه البخارى أو غير ‏البخارى فى كتابه صحيح مائة فى المائة، بل نقول إنهم قد بذلوا فى تلك ‏السبيل جهودا عبقرية نبيلة نرجو أن يجازيهم الله عليها خير الجزاء. ‏وهم لم يأتوا بتلك النصوص من عندياتهم بل جمعوا ما كان متداولا ‏على الألسن أو محفوظا فى القلوب أو مثبتا فى الصحف ويعمل به ‏المسلمون فى تصريف شؤونهم التشريعية والأخلاقية والسلوكية ‏والعقيدية. إنهم، كما قلنا ونقول، لم ينشئوها من العدم، بل كانت ‏موجودة، وكل ما صنعوه هو أنهم جمعوها وتحققوا من صحتها وبَوَّبُوها ‏حتى يكون استعمالها سهلا ميسورا لمن يريد. ‏
وهنا نراه يلجأ إلى اتهام البخارى بأنه أساء بأحاديثه تلك إلى ‏مقام النبى الكريم، موردا حديثا يقرؤه بطريقته المريبة، زاعما أن ‏البخارى يصور فيه الرسول عليه الصلاة والسلام بصورة من يريد ‏اغتصاب امرأة من النساء، مع أن الحديث إنما يتكلم عن سيدة كان ‏النبى قد خطبها وعقد عليها لكنه لم يكن قد دخل بها. وتصادف أن ‏وصلت الزوجة المذكورة إلى النبى وهو فى بعض الطريق مع صحابته، ‏وأُنْزِلَتْ فى بستان، فترك النبى أصحابه ليرى زوجته الجديدة، فما كان ‏منها حين رأته يمد يده إليها إلا أن استعاذت بالله ظنا منها أن ذلك ‏سيجعلها أحظى عنده حسبما أفهمها بعض زوجاته. فكان أن أجابها ‏الرسول عليه الصلاة والسلام قائلا: عُذْتِ بمعاذ. أى أنت الآن فى ‏حماية الله ما دمت قد استعذت به. ثم سرَّحها إلى أهلها تسريحا جميلا ‏وأكرمها وأعطاها بعض المال تطييبا لخاطرها رغم انخداعها بما ‏سمعت وتنفيذها له بالحرف مما لا يجعلها أهلا لأن تكون زوجة ‏النبى. إن الحديث الذى استشهد به أحمد صبحى منصور على صحة ‏اتهامه للبخارى هو حديث موجز لا يعطى الصورة كاملة كما شرحتها ‏هنا، بيد أن الرجوع إلى روايات الحديث الأخرى من شأنه أن يجلِّى ‏الصورة تجلية تامة ويوضح ما أراد منصور التعمية عليه ليصدّق ‏القراء المتعجلون اتهامه المجحف للبخارى رضى الله عنه. ‏
ومن الحجج التى يلجأ إليها أحمد صبحى منصور فى محاربته ‏للحديث النبوى الشريف تفسيره العامى لقوله تعالى شأنه: “ما فرَّطنا فى ‏الكتاب من شىء”، ولقوله سبحانه: “ونزَّلنا عليك‎ ‎الكتاب تبيانًا لكل ‏شىء”، متصورا أنه يمكنه الاستدلال به على وجوب استغناء المسلم ‏بالقرآن عن كل شىء آخر. والحق أنه لو كان صادقا فى هذا الذى يقول ‏لكان أولى به أن يمزق كتبه ومقالاته أيضا. أليس القرآن قد ذكر كل ‏شىء، وبيّن كل شىء، ولم يفرط فى أى شىء؟ وهذا يذكِّرنى بالسؤال ‏الذى كنا نسمعه فى صبانا من بعض العامة حولنا:‏‎ ‎‏”إذا كان القرآن فيه ‏تبيان كل شىء فكيف لم يذكر عدد الأرغفة التى تنتجها أفران مصر ‏على سبيل المثال؟”. إننا لا نشاحّ فى أن القرآن قد بيّن كل شىء ولم ‏يفرِّط فى ذكر أى‎ ‎شىء، ولكن بمعنى غير هذا المعنى العامى الساذج. ‏إن القرآن كثيرا ما يكتفى برسم الخطوط العامة ثم يتركنا‎ ‎نستخلص ‏منها ما نعالج به مشاكلنا التى تتجدد مع الأيام. ‏
وقد كان الرسول هو أول من قام بتطبيق مبادئ القرآن ‏واستخراج الأحكام التفصيلية من مبادئه وتشريعاته العامة‎ ‎وتطبيقها ‏على الوقائع التى تستجد كل يوم، فكيف يُطْلَب منا أن نهمل ما تركه ‏لنا الرسول الكريم على اعتبار أنه يتناقض مع إيماننا بالقرآن؟ أما قوله‎ ‎إن “النبى يوم القيامة سيعلن براءته من أولئك الذين تركوا كتاب الله ‏وهجروه جريا وراء مصادر أخرى ومعتقدات ما أنزل الله بها من ‏سلطان: “وقال الرسول: يا ربِّ، إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا * ‏وكذلك جعلنا لكل نبى عدوًّا من المجرمين، وكفى بربك هاديا ونصيرا” ‏فهو تكرير للاتهامات الظالمة التى لا‎ ‎يَكِلّ ولا يَمَلّ من توجيهها ‏لعلماء الحديث خاصة، والمسلمين عامة، إذ لا يوجد مسلم‎ ‎يستعيض ‏بكتب الحديث عن كتاب الله، بل كل ما هناك أنها تساعدنا على فهم ‏القرآن‎ ‎وتطبيقه على أحسن وجه ممكن بدلا من الانفلات فى أجواز ‏الفضاء دون ضابط ولا رابط كما يفعل هو نفسه ومن على شاكلته. ثم ‏هل يمكن أن يعلن النبىُّ براءتَه ممن يشهد له صلى الله عليه وسلم ‏بالنبوة والرسالة، ويقف مع من يكفِّر الذى يقول: “أشهد ألا إله إلا ‏الله، وأن محمدا رسول الله”؟ وإذا كانت الشهادة لمحمد بالنبوة والرسالة ‏كفرا وشركا وإثما، فما هى الشهادة يا ترى التى تُرْضِى اللهَ ورسولَه؟
وهو يؤكد، ونحن أيضا نؤكد معه، أن النبى صلى الله عليه وسلم ‏هو المثال الأعلى فى الخلق والسلوك والعقل والفصاحة والدعوة ‏والتخطيط والقيادة العسكرية والزعامة السياسية. لكننا نتساءل: ترى ‏كيف تواتى المسلمَ الحقَّ نفسُه على إهمال ذلك التراث النبوى العظيم ‏والبدء كل مرة من جديد دون محاولة الاستفادة من هذا التراث الذى ‏يقول فيه منصور قصائد وَلْهَى ليستدير فيفاجئنا بأن علينا نبذه‎ ‎تماما، وإلا كنا مشركين كافرين؟ ثم إذا كان الوحى قد عاتبه عليه ‏السلام فيما لم‎ ‎يوافقه عليه، وفى ذات الوقت لم يعترض على شىء مما ‏وصلنا من أحاديثه وتصرفاته الشريفة الأخرى، أفلا يحق لنا أن نفهم ‏أن هذه الأحاديث والتصرفات تحظى من القرآن‎ ‎بالرضا والقبول؟ ألا ‏يرى القارئ أن منصور يتخبط تخبطا عنيفا ولا يستطيع أن يهتدى‎ ‎إلى الخروج من المأزق الذى أوقع نفسه فيه سبيلا؟ ‏
كذلك نراه يقول إن ما وصلنا من روايات الأحاديث النبوية فيه‎ ‎الصواب والخطأ. وتعليقنا عليه هو أن علماء الحديث، كما هو ‏معروف، لم يقبلوا كل ما وصلهم من كلام أو فعل منسوب للرسول ‏صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أنهم قد بذلوا جهودا جبارة فى ‏تمحيص سنته الكريمة، وإن كنا لا نستطيع الزعم بأن هذه الجهود‎ ‎العبقرية لا يخرّ منها الماء: فهناك أحاديث منسوبة للنبى ردها بعض ‏العلماء، وهناك أحاديث أخرى لا يطمئن إليها القلب، بل منها ما لا ‏يقتنع به العقل، لكن ذلك قليل بوجه عام. أما منصور فقد غالى فى ‏الرفض مغالاة رهيبة ودعا إلى اطّراح الأحاديث النبوية جملة ‏وتفصيلا. ‏
والغريب أنه فى الوقت الذى يهاجم المحدّثين والأحاديث التى ‏يروونها هجوما شديدا لا يُبْقِى ولا يَذَر نراه يعتمد عليهم ويصدّق ‏رواياتهم تمام التصديق كلما ظن أنه يستطيع توظيفها فى الهجوم ‏عليهم. ومن ذلك قوله: “ويؤكد أن النبى نَهَى عن كتابة غير القرآن أن ‏الخلفاء الراشدين بعده ساروا على طريقه فنَهَوْا عن كتابة الأحاديث ‏وعن روايتها: فأبو بكر الصدّيق جمع الناس بعد وفاة‎ ‎النبى فقال: ‏‏”إنكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس ‏بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا. فمن سألكم ‏فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحِلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه”، ‏وهذا ما يرويه الذهبى فى تذكرة الحفاظ. ويروى ابن عبد البر والبيهقى ‏أن عُمَر الفاروق قال: “إنى كنت أريد أن أكتب السنن،‎ ‎وإنى ذكرت ‏قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى‎ ‎والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبدا. ورواية البيهقى: “لا أَلْبِس كتاب ‏الله بشىء أبدا”. وروى ابن عساكر قال: ما مات عمر بن الخطاب حتى ‏بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق، فقال: ما هذه ‏الأحاديث التى أفشيتم عن رسول الله فى الآفاق؟ أقيموا عندى. لا ‏والله لا تفارقونى ما عشت. فما فارقوه حتى مات”. ‏
ومنه كذلك قوله: “وعلماء الحديث يتفقون على صحة حديث ‏‏”من كذب علىَّ فليتبوأ مقعده من النار”، وبعضهم‎ ‎يضيف إليه كلمة ‏‏”متعمدا”: “من كذب علىّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النار”. وهم‎ ‎يجعلون هذا الحديث من المتواتر، وعدد الحديث المتواتر لا يصل إلى ‏بضعة أحاديث عند أكثر المتفائلين. والمهم أنهم، بإقرارهم بصحة هذا ‏الحديث، يثبتون أن الكذب على‎ ‎النبى بدأ فى حياة النبى نفسه، وإلا ما ‏قال النبى هذا الحديث يحذّر من الكذب عليه”. ‏
ومنه أيضا قوله: “وأكثرَ أبو هريرة من الحديث بعد وفاة عمر، إذ ‏أصبح لا يخشى أحدا. وكان أبو هريرة يقول: إنى أحدثكم بأحاديث لو ‏حدّثتُ بها زمن عمر لضربنى بالدِّرّة (وفى رواية: “لَشَجَّ رأسى”). ويروى ‏الزهرى أن أبا هريرة كان يقول: ما كنا نستطيع‎ ‎أن نقول: “قال رسول ‏الله” حتى قُبِض عمر. ثم يقول أبو هريرة: أفكنتُ محدِّثَكم بهذه ‏الأحاديث، وعُمَرُ حَى؟ أما والله إذن لأيقنت أن المِخْفَقَة (العصا) ‏ستباشر ظهرى، فإن‏‎ ‎عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن، فإن القرآن ‏كلام الله”. والآن ما دام ينكر الأحاديث فلماذا يستعين بها لتعضيد ‏رأيه، وهى مزيفة فى نظره ليس لها حقيقة؟
كما أنه، فى تفسيره‎ ‎للقرآن، لا يستطيع أن يقول شيئا ذا بال دون ‏الاستعانة بالحديث. ولنأخذ مثلا ما قاله‏‎ ‎فى أخلاق النبى عليه السلام ‏إذ وصفه المولى سبحانه بقوله: “وإنك لعلى خلق عظيم”،‎ ‎فقد أضاف ‏أنه صلى الله عليه وسلم “كان خلقه القرآن”. وهذا الكلام لم يرد فى ‏القرآن، بل هو من كلام عائشة رضى الله عنها، وقد أوردته لنا ‏الأحاديث النبوية. ومن ذلك أيضا ما كتبه بشأن زينب بنت جحش ‏وزيد بن حارثة، إذ يقول: “والنبى كان عليه أن ينفذ سُنّة الله، أى ‏شرع الله وأوامره، حتى لو كان فيها حرج. وقد نزلت آية “ما‎ ‎كان على ‏النبى من حرج فيما فرض الله له. سُنّةَ الله فى الذين خَلَوْا من قبل، ‏وكان أمر الله قدرا مقدورا” فى موضوع زيد بن حارثة وزواجه وطلاقه ‏من زوجته…”. والسؤال‎ ‎هو: كيف عرف منصور أن الكلام فى الآية عن ‏زينب، وأن زيدا هو زيد بن حارثة، وليس زيدا آخر؟ ذلك أن الآية لم ‏تذكر إلا اسم “زيد” وحده دون اسم أبيه، وكذلك دون اسم‎ ‎زوجته التى ‏أصبحت طليقته. الواقع أنْ ليس هناك من مصدر لهذا إلا الأحاديث، ‏فكيف أصبحت الأحاديث هنا شيئا موثوقا به بعد أن قال فيها ما ‏قال؟ ‏
قد يقول إن‎ ‎القرآن يحدد زيدا بأنه من “أدعيائكم”، لكنْ مرة ‏أخرى: من أين نعرف أن زيدا كان‏‎ ‎دَعِىّ النبى عليه السلام (أى ابنه ‏بالتَّبَنِّى) إلا من الأحاديث النبوية؟ قد‎ ‎يقول: لكن هذا تاريخ، ونحن ‏نُعْمِل عقولنا فى روايات التاريخ فنقبل ما تطمئن إليه‎ ‎ونرد ما سواه. ‏وهذا هو ما أريد أن أُفْهِمه إياه من الصبح: أن نُعْمِل عقولنا فى ‏الأحاديث، لكن بشرط أن نحترم منطق العقل ومنهج العلم وأن ‏نقلّب الأمر على كل وجوهه وأن نتريث قبل إصدار الأحكام وأن ننظر ‏جيدا فيما يقوله الآخرون، وبخاصةٍ من يخالفوننا فى الرأى، وهو ما لم ‏يدخر فيه المحدّثون وسعا، وإن لم يمنع هذا من وجوب إضافة المزيد ‏من الجهود فى هذا السبيل. أما نبذ الأحاديث جملة وتفصيلا عن جهل ‏واندفاع فهو‎ ‎عمل أخرق. ‏
وهذا مثال آخر على أن منصور نفسه، رغم كل الطنطنات ‏والتطاولات على المحدّثين والأحاديث، لا يستطيع أن يتقدم فِتْرًا فى ‏تفسير القرآن دون الاستعانة بها وبهم، مع أنه يؤكد أننا، فى فهمنا ‏للقرآن، لسنا بحاجة على‎ ‎الإطلاق إلى الاستعانة بالحديث أو بغيره، فقد ‏كتب فى تفسير الآيات 105- 113 من سورة “النساء” ما يلى: “وباعتبار ‏النبى بشرا فقد استطاع بعض المنافقين أن يخدعه. حدث ذلك حين ‏سرق أحدهم درعا، وشاع بين الناس أمره، وأحس أهل اللص بالعار ‏مما ارتكبه ابنهم فتآمروا بالليل على أن يضعوا الدرع المسروق فى بيت ‏شخص يهودى برىء. وفى الصباح جاءوا للنبى يبرئون ساحة ابنهم ‏المظلوم. وانخدع النبى وصدّقهم ودافع عن ابنهم،‎ ‎وبذلك أصبح اللص ‏بريئا، وأصبح البرىء لصا. وهى قصة تتكرر فى كل زمان ومكان ‏مُوجَزها أن ينجو المجرم صاحب النفوذ وأن يدخل البرىء السجن ‏ظلما. والقرآن الكريم‎ ‎ذكر القصة وحوّلها من حادثة تاريخية محددة ‏بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية‎ ‎إنسانية عامة تتكرر فى كل ‏عصر. وفى البداية عاتب الله تعالى النبى ووجّه نظره إلى‎ ‎أن يحكم ‏بالكتاب وحذّره من أن يكون مدافعا عن الخائنين: “إنا أنزلنا إليك ‏الكتاب‎ ‎بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين ‏خصيما”. أى أنزل الكتاب الحق ليحكم بين الناس بما أراه الله فى ‏ذلك الكتاب، فالاحتكام للكتاب. ولأنه نسى فقد جاء الأمر ‏بالاستغفار: “واستغفر الله، إن الله كان غفورا رحيما”، ثم جاءه‎ ‎النهى ‏عن الدفاع عن أولئك الخونة الذين تآمروا لتبرئة المجرم واتهام ‏البرىء: “ولا تجادلْ عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من ‏كان خوانًا أثيما * يَسْتَخْفُون من الناس ولا يَسْتَخْفُون من الله وهو ‏معهم، إذ يبيّتون ما لا يَرْضَى من القول. وكان‎ ‎الله بما يعملون محيطا”. ‏
والسؤال هو: من أين له بأن الآيات نزلت فى أحد اللصوص، وأن ‏هذا اللص قد سرق درعا، وأن أهله لما أحسوا أن أمره سينفضح ذهبوا ‏فوضعوا الدرع فى‎ ‎بيت يهودى… إلخ؟ ترى هل هناك من مصدر آخر ‏اعتمد عليه أحمد صبحى منصور هنا عدا الحديث؟ أما‎ ‎قوله إننا، فى ‏فهمنا للقرآن الكريم، لا نحتاج إلى أى شىء آخر خارج نصوصه، وإن ‏‏”كتاب الله هو الكتاب المبين بذاته، وآياته موصوفة بالبينات، أى التى ‏لا تحتاج فى تبيينها إلا لمجرد القراءة والتلاوة والتفكر والتدبر فيها. ‏والذى جعل الكتاب مبينا وجعل آياته بينات هو رب العزة القائل: ‏‏”بعدما بيَّنّاه للناس فى الكتاب”، والقائل‎ ‎عن كتابه: “ولقد يَسَّرْنا ‏القرآن للذِّكْر، فهل من مُدَّكِر؟”، “فإنما يسَّرناه‎ ‎بلسانك لتبشِّر به ‏المتقين وتُنْذِر به قومًا لُدًّا، “فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون”، أما ‏قوله هذا فجهل فاحش، فمعروف أن أى نص يحتاج إلى وسائل تعين ‏على فهمه، كالمعرفة باللغة التى ينتمى إليها، والمعرفة بالمعجم الخاص به، ‏والمعرفة‎ ‎بالظروف التى كُتِب أو سُجِّل أو أُوحِىَ فيها، والمعرفة بالمصدر ‏الذى جاء‎ ‎منه… إلخ. والقول بغير هذا هو كلام لا يستحق أن نصغى ‏آذاننا له. ولقد رأينا كيف أن منصور نفسه لم يستطع أن يفهم الآيات ‏القرآنية إلا بالاستعانة بأسباب النزول، وهى جزء من الأحاديث ‏النبوية.‏
وهو يرى أن أحاديث رسول الله وتصرفاته إنما هى انعكاس ‏لثقافات عصره وبيئته يمكن ألا تتفق مع القرآن ولا ينبغى أن نُولِيَها ‏أى اعتبار، وهو ما كنت سمعته من مستشرق أمريكى أتى إلى كلية ‏الآداب‎ ‎بجامعة عين شمس فى ثمانينات القرن المنصرم، ودار بينى ‏وبينه حوار على الماشى قبل الندوة‎ ‎التى حاضر فيها الطلابَ فى أحد ‏المدرجات. وهذا نص ما قاله منصور: “ونحن، وإن كنا‎ ‎نعتبر القرآن هو ‏المصدر الوحيد لسنة النبى وشريعة الرحمن ودين الله الأعلى، فإننا نضع ‏تلك الروايات الحديثية موضعها الصحيح، وهى أنها تاريخ بشرى للنبى ‏وللمسلمين‎ ‎وصدًى لثقافتهم وأفكارهم سواء اتفقت أم لم تتفق مع ‏القرآن”. معنى ذلك ببساطة أن كلامه هو التفسير الصحيح للقرآن، ‏ولا يمكن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته، أما فهم الرسول ‏للقرآن فمن الممكن ألا‎ ‎يتفق مع كتاب الله لأنه لا يزيد عن أن ‏يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته! ومن هنا نراه يقول إنه لا ينبغى ‏أن نتأسى بالرسول إلا فى كتاب الله، وكأن الرسول‎ ‎يمكن أن يتصرف ‏أو يقول شيئا يخالف فيه كتاب الله! وهذا نص كلامه: “إن الاقتداء‎ ‎والتأسى يعنى الاتِّباع، ولا يكون الاقتداء والتأسى على إطلاقه إلا ‏بكتاب الله. والله تعالى كما أمرنا بالتأسى برسول الله محمد فى موقف ‏معين فإنه أمر النبى نفسه بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين فقال: ‏‏”أولئك الذين هدى اللهُ فبِهُداهُم اقْتَدِهْ”، فلم يقل تعالى: “فبِهِم اقْتَدِهْ”، ‏وإنما قال: فبِهُدَاهم اقْتَدِهْ”.‏
أما الصلاة والزكاة والصيام، وهذه‎ ‎الشعائر مجرد أمثلة، فإن أحدا ‏لا يستطيع أن يؤديها دون الاستعانة بالسنة النبوية المشرفة. لنأخذ ‏مثلا نسبة الزكاة فى الإسلام، فهى لم ترد فى القرآن بل فى الأحاديث ‏الشريفة. كما زعم أن الصلاة على النحو الذى نؤديها به الآن فى ‏الإسلام قد انحدرت إلينا من‎ ‎ديانة إبراهيم. يريد أن يقول إنه ليس ‏للسُّنّة المحمدية فضل فى هذا. لكن لو كان الأمر كما يقول لكان ‏معناه أن الجاهليين كانوا يصلّون بصلاتنا ويقرأون فيها بقرآننا ‏ويصلّون على نبينا قبل أن ينزل القرآن من السماء ويُبْعَث محمد عليه ‏السلام بدين جديد. فهل هذا مما يعقله العاقلون؟ هل كان إبراهيم ‏عليه السلام مثلا يقرأ الفاتحة وآيات القرآن مثلما نفعل الآن… إلخ؟ ‏بل هل كان العرب الجاهليون يعرفون الصلاة أصلا بهذا المعنى؟ لقد ‏كانت‎ ‎الصلاة فى حياة العرب آنذاك تعنى الدعاء مطلقا، أما الأفعال ‏والأقوال على تلك‎ ‎الهيئة المخصوصة التى نطلق عليها فى دين محمد: ‏‏”الصلاة” فلم يكونوا يعرفونها، وإلا‎ ‎لجاءت فى الشِّعْر الجاهلى بهذا ‏المعنى. ‏
ثم إن هناك آيات قرآنية لا يمكن فهمها، أو لا يمكن فهمها ‏فهما سليما أو دقيقا، إلا إذا عُرِفَ سبب نزولها مما‎ ‎ذكرته الأحاديث، ‏وإن لم ندّع لهذه الروايات العصمة دائما. ونضرب على ما نقول الأمثلة ‏التالية، وقد اعتمدتُ فيها على كتاب “أسباب النزول” للواحدى ‏النيسابورى: ففى الآية 104 من سورة “البقرة” نقرأ قوله تعالى: “يا أيها ‏الذين آمنوا، لا تقولوا: راعِنَا، وقولوا: انْظُرْنا…”، فكيف يا ترى يمكن ‏أن نفهم ما فيها من الأمر والنهى دون أن نعرف ما‎ ‎جاء فى سبب ‏نزولها مما هو مرتبط بسيرة النبى عليه السلام وأحاديثه؟ “قال ابن ‏عباس فى رواية عطاء: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها (أى ‏يستعملون فى تخاطبهم كلمة “راعنا”)، فلما سمعتهم اليهود يقولونها ‏للنبى صلى الله عليه وسلم أعجبهم ذلك، وكان “رَاعِنَا” فى كلام اليهود ‏سبًّا قبيحًا، فقالوا: إنا كنا نسبّ محمدًا سرًّا. فالآن أَعْلِنوا السبّ لمحمد ‏لأنه من كلامهم. فكانوا يأتون نبى الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا ‏محمد، رَاعِنَا. ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن ‏عبادة، وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله! ‏والذى نفس محمد بيده‎ ‎لئن سمعتها من رجل منكم لأضربن عنقه. ‏فقالوا: ألستم تقولونها له؟ فأنـزل الله‎ ‎تعالى: يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا لا ‏تَقولوا: رَاعِنَا… الآية”. ولزيادة الأمر‎ ‎إيضاحا أذكر أنى قرأت منذ فترة ‏أن الكلمة فى العبرية مأخوذة من “الرعونة”. ومن هنا نهى الله سبحانه ‏المسلمين عن استعمالها فى خطابهم لسيد الأنبياء والمرسلين حتى لا ‏يعطوا الأوغاد فرصة للسخرية منه ومنهم بخباثتهم وقلة أدبهم ‏المعروفة عنهم. ‏
كذلك كيف يمكن فهم قوله تعالى فى الآية 187 من ذات ‏السورة: “وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط ‏الأسود من الفجر” دون أن نطلع على الرواية الخاصة بسبب نزولها حتى‎ ‎لا نصنع كما كان بعض الصحابة يصنعون فى البداية؟ وهذا نصها: ‏‏”أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد قال: أخبرنا جدى قال: أخبرنا أبو عمرو ‏الحيرى قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا ابن أبى مريم قال: ‏أخبرنا أبو غسان قال: حدثنى أبو حازم عن سهل بن سعد قال: نـزلت ‏هذه الآية: “وَكلوا وَاشْرَبوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكم الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ ‏الأَسْوَد”ِ ولم ينزل “مِنَ الْفَجْرِ”. وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط ‏أحدهم فى رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ‏ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد ذلك “مِنَ الْفَجْرِ”، ‏فعلموا أنه أنما يعنى بذلك‎ ‎الليل والنهار. رواه البخارى عن ابن أبى ‏مريم، ورواه مسلم عن محمد بن سهل عن أبى مريم”.‏
وبالمثل كيف يمكن فهم قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا، لا يحلّ ‏لكم أن ترثوا النساء كَرْهًا…” (النساء/ 19) دون أن نعرف أن الميراث ‏هنا ليس أن نرث ما‎ ‎تركه هؤلاء النسوة من مال، بل أن يرثهن الرجل ‏أنفسهن كأنهن متاع حسبما وضّحت الرواية التالية؟ “قال المفسرون: ‏كان أهل المدينة فى الجاهلية وفى أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة ‏جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه‎ ‎على تلك المرأة، ‏فصار أحق بها من نفسها ومن غيره. فإن شاء أن يتزوّجها بغير صداق ‏إلا الصداق الذى أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ‏ولم يعطها شيئًا،‎ ‎وإن شاء عَضَلها وضارّها لتفتدى منه بما ورثت من ‏الميت أو تموت هى فيرثها. فتوفى أبو قيس بن الأسلت الأنصارى وترك ‏امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن له من‎ ‎غيرها يقال له: ‏حصن (وقال مقاتل: اسمه قيس بن أبى قيس)، فطرح ثوبه عليها ‏فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها: يضارّها لتفتدى ‏منه بمالها. فأتت كبيشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا ‏رسول الله، إن أبا قيس توفى، وورث ابنه‎ ‎نكاحى. وقد أضرّ بى وطوَّل ‏على، فلا هو ينفق على ولا يدخل بى ولا هو يخلِّى سبيلى. فقال لها رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم: اقعدى فى بيتك حتى يأتى فيك أمر الله. قال: ‏فانصرفتْ وسمعت بذلك النساء فى المدينة، فأتين رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم وقلن: ما نحن إلا كهيئة كبيشة، غير أنه لم ينكحنا ‏الأبناء، ونَكَحَنا بنو العم. فأنزل‎ ‎الله تعالى هذه الآية”.‏
وإلى القارئ هذا المثال كذلك من رواية “جونتانامو” للدكتور ‏يوسف زيدان، إذ يفسر قوله تعالى: “وإن خفتم ألا تُقْسِطوا فى اليتامى ‏فانْكِحوا ما طاب لكم من النساء مَثْنَى وثُلَاثَ ورُبَاع…” على أساس ‏أن المقصود هو أمر الله لكافل اليتيمات بالزواج من واحدة منهن إلى ‏أربع، متجاهلا سبب نزول الآية، الذى يبين أن معناها هو العكس ‏تماما مما يقول: فعن “عروة بن الزبير أنه سأل عائشة زوج النبى صلى ‏الله عليه وسلم عن قول الله تبارك وتعالى: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فى ‏الْيَتَامَى فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ…”. قالت: يا ابن أختى، ‏هذه اليتيمة تكون فـى حجر وليها تشاركه فـى ماله، فـيعجبه مالها ‏وجمالها، فـيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقْسِط فـى صداقها فيعطيها ‏مثل ما يعطيها غيره، فنُهُوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا ‏بهنّ أعلى سُنَّتِهنّ فـى الصداق، وأُمِرُوا أن ينكحوا ما طاب لهم من ‏النساء سواهن”، بمعنى “اتركوهنّ، فقد أحللت لكم أربعا من ‏غيرهن”. ولو كان المعنى كما زعم د. زيدان لقال سبحانه: “فانكحوا ‏ما طاب لكم منهن (أى من اليتيمات) مثنى وثلاث ورباع”. ذلك أن ‏الله أراد أن يبعد الكفلاء عن اليتيمات اللاتى كانوا يكفلونهن ‏ويطمعون فى أموالهن، ومن ثم يريدون الزواج منهن حتى تكون تلك ‏الأموال تحت تصرفهم وحتى لا يدفعوا فيهن مهرا كبيرا، لا أنه يريد ‏منهم أن يتزوجوهن. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما يدعو إليه بعض ‏النقاد الحداثيين من الدخول إلى النص مباشرة دون أن نلقى بالا لأى ‏شىء خارجه من حياة صاحبه أو ظروفه أو السياق الذى كتب فيه ما ‏كتب، وبالنسبة للقرآن ألا نرجع إلى أسباب النزول ولغة العرب ‏وأسلوب الكتاب العزيز وتفسيرات المفسرين… إلخ بحيث يستطيع ‏الكاتب أن يقول ما يريد تمريره من أفكار خطيرة دون معقِّب. كذلك ‏فمقتضى كلام زيدان أنه، لو كان فى كفالة الرجل أربع يتيمات أخوات، ‏وهذا طبعا ممكن جدا، فمن حقه التزوج بهن جميعا. وهذا يناقض ما ‏يقول به الإسلام، الذى يحرم الجمع بين أختين اثنتين، فما بالنا بأربع؟
ثم ما الذى فى الأحاديث التى قالها النبى صلى الله‎ ‎عليه وسلم ‏فعلا مما يمكن أن يكون مناقضا للقرآن أو يؤدى بمن يصدّقه ‏ويعمل على احتذائه إلى البوار؟ ترى ماذا فى الحديث الذى ينص على‎ ‎أن ‏العلماء هم ورثة الأنبياء، أو الحديث الذى يؤكد أن فضل العالم على ‏العابد كفضل البدر على سائر الكواكب، أو الحديث الذى يقول إن ‏مداد العلماء يُوزَن بدماء الشهداء، أو ذلك الذى ينبئنا بأن إماطة ‏الأذى عن الطريق أو أن تبسُّم الواحد منا فى‎ ‎وجه أخيه صدقة، أو ‏ذلك الذى يستحثنا على التفكير المستقل القائم على أساس المنطق ‏والعقل والإحاطة بالموضوع من كل أطرافه والتعمق فيه، ويبشّرنا بما ‏لا وجود له فى أى نظام تربوى أو فلسفى أو سياسى من أن المجتهد ‏مأجور حتى لو أخطأ فى اجتهاده، أو الذى‎ ‎ينبهنا فيه عليه السلام إلى ‏أن الصدقة فى السر تطفئ غضب الرب، أو أن اليد الخشنة من‎ ‎أثر ‏العمل والكدّ هى يد يحبها الله ورسوله، أو أن العين التى بكتْ من ‏خشية الله أو باتت تحرس فى سبيل الله لا تَمَسّها النار أبدا، أو أن من ‏رُزِق من البنات ولو بواحدة فأحسن تربيتها وزوّجها دخل الجنة، أو أن ‏الله فى عون العبد ما كان العبد فى‎ ‎عون أخيه، أو أن السِّقْط يأخذ بيد ‏أبويه فى موقف الحساب ويراغم ربه حتى‎ ‎يُدْخِلهما الجنة، أو أن أحق ‏الناس بصحبة الابن هى أمه ثم أمه ثم أمه ثم أبوه، أو أن معاشرة ‏الرجل لزوجته حسنة من الحسنات يُؤْجَر عليها من الله وليست مجرد ‏شهوة‎ ‎تُشْبَع، أو أن إتباع السيئة الحسنة يمحوها فلا يحاسَب الإنسان ‏عليها، أو أنه سبحانه قد رفع عنا السهو والنسيان وما استُكْرِهْنا ‏عليه، أو أن الله قد خلق لكل داءٍ دواء، أو قول الرسول الكريم لرجل ‏أخذه الخوف منه: هَوِّنْ عليك، إنما أنا ابن‎ ‎امرأة من قريش كانت ‏تأكل القديد بمكة، أو قوله: لا تُطْرُونى كما أَطْرَتِ النصارى‎ ‎عيسى ‏بن مريم، أو قوله: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان: ‏سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أو تسبِّحون وتحمِّدون ‏وتكبِّرون دُبُرَ كل صلاة ثلاثا وثلاثين، أو من آذى ذِمّيًّا فأنا خصيمه ‏يوم القيامة، أو إن من الذنوب ذنوبا لا يكفِّرها إلا العمل، أو ادرأوا ‏الحدود بالشبهات، أو إنما الصبر عند الصدمة الأولى، أو اسْتَوْصُوا ‏بالنساء خيرا، أو خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى، أو ليس ‏الإيمان بالتمنى، ولكنْ ما وَقَر فى القلب وصدّقه العمل، أو إنما ‏الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، أو إن الشيطان‏‎ ‎لَيَجْرِى من ‏ابن آدم مجرى الدم فى العروق، أو إن الحياء من الإيمان، أو إذا كنتم‎ ‎ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون الثالث، أو إذا لم تستح فاصنع ما شئت، أو ‏إذا بُلِيتم فاستتروا، أو إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ‏ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، أو إن ذا الوجهين يُكْتَب عند الله ‏كذابا، أو اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعْمِل عليكم عبدٌ‎ ‎حبشىٌّ كأن ‏رأسه زبيبة، أو إن النظافة من الإيمان، أو إن الله جميل يحب الجمال، ‏أو‎ ‎مالكم تدخلون علىَّ قُلْحًا؟ استاكوا، أو إن الله يحب أن يرى أثر ‏نعمته على عبده، أو نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، ‏أو ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شَرًّا من بطنه، أو رَضِينا بالله ربًّا وبالإسلام ‏دينًا وبمحمدٍ نبيًّا ورسولا، أو اللهم أسلمتُ وجهى إليك، وفوَّضْتُ ‏أمرى إليك، وألجأتُ ظهرى إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا مَلْجَأَ ولا ‏مَنْجَى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذى أنزلتَ، ونبيّك الذى ‏أرسلتَ، أو لا‎ ‎رهبانية فى الإسلام، أو أَنْفِقْ ولا تخش من ذى العرش ‏إقلالا، أو تَعِسَ عبدُ‎ ‎الدينار! تَعِسَ عبدُ الدرهم! أو ما نقص مالٌ من ‏صدقة، أو إن طَلَب العلمِ فريضةٌ على‎ ‎كل مسلم ومسلمة، أو اطلبوا ‏العلم من المهد إلى اللحد، أو إنَّ من خَرَجَ فى طلب العلم‎ ‎فهو فى سبيل ‏الله حتى يرجع، أو إنَّ مَنْ فرّج عن مسلمٍ كُرْبة من كُرَب الدنيا فرّج ‏الله‎ ‎عنه كُرْبة من كُرَب يوم القيامة، أو سبعةٌ يُظِلّهم الله فى ظلّه يوم ‏لا ظل إلا‎ ‎ظله: إمام عادل، وشابٌّ نشأ فى عبادة الله، ورجل دعته امرأةٌ ‏ذات منصب وجمال فقال: إنى أخاف الله…، أو إن الله لَيُمْلِى للظالم ‏حتى إذا أخذه لم يُفْلِته، أو من لا‎ ‎يشكر الناس لا يشكر الله، أو ‏دخلت امرأةٌ النار فى هِرّة حَبَسَتْها: لا هى أطعمتْها ولا هى تركتْها تأكل ‏من خَشَاش الأرض، أو اتّقُوا النار ولو بشِقّ تمرة، أو إن المنبتّ لا أرضًا ‏قطع ولا ظَهْرًا أبقَى، أو من بات كالًّا مِنْ عمل يده بات‏‎ ‎مغفورًا له، أو ‏إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يُتْقِنه، أو إذا قامت القيامة‎ ‎وفى يد أحدكم فَسِيلَةٌ فلْيَغْرِسْها، أو أَلْقِ السلام على من تعرف ومن ‏لا تعرف، أو لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، أو اطلبوا الرزق ‏بعزة الأنفس، أو إن الغِنَى غِنَى النفس، أو لا ينبغى للمؤمن أن يُذِلّ ‏نفسه، أو ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد من يملك نفسه عند ‏الغضب، أو قوله عليه السلام لشاب خطب فتاة: انظر إليها، فإنه ‏أَحْرَى أن يُؤْدَم بينكما، أو قوله: لا تُنْكَح البِكْر حتى تُسْتَاْذَن ولا الأيِّم ‏حتى تُسْتَأْمَر، أو ادرأوا الحدود بالشبهات، أو يسِّروا ولا تعسِّروا، أو من ‏أَمّ فى الصلاة فلْيخفِّف، فإن منكم الضعيف وذا الحاجة، أو أَحِبّ ‏لأخيك ما تحبّ لنفسك،‎ ‎أو إخوانكم خَوَلكم جعلهم الله تحت ‏أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فلْيُطْعِمْه مما‎ ‎يَطْعَم، وليُلْبِسْه مما ‏يلبس، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم، أو اتقوا ‏الله فى الضعيفين: النساء وما ملكت أيمانكم، أو رفقًا أَنْجَشَةُ ‏بالقوارير، أو… أو… أو… إلخ مما لا يكاد ينتهى من التوجيهات ‏والتشريعات والأدعية النبوية العبقرية التى أكرمنا الله بها والتى ‏ذكرتُ ما ذكرتُه منها من محفوظ الذاكرة منذ الصبا، وبالمعنى فى بعض ‏الأحيان، وأرجو ألا أكون قد أخطأتُ فى شىء منه؟
وبالمثل يتصور أحمد صبحى منصور أن ثم تناقضا بين أمر القرآن ‏لزوجات الرسول بالقرار فى بيوتهن واصطحاب الرسول لهن فى غزواته. ‏وهو يوضح ذلك بقوله إنه فى غزوة الأحزاب مثلا فى‎ ‎العام الخامس من ‏الهجرة نزلت سورة “الأحزاب”، وفيها الأمر لنساء النبى بأن يمكثن فى ‏البيت ولا يخرجن منه: “وقَرْنَ فى بيوتكن، ولا‎ ‎تَبَرَّجْنَ تبرُّج الجاهلية ‏الأولى، وأَقِمْن الصلاة وآتِين الزكاة، وأَطِعْن الله‏‎ ‎ورسوله. إنما يريد الله ‏لِيُذْهِب عنكم الرِّجْسَ أهلَ البيت ويطهِّركم تطهيرا”، متسائلا: ‏‏”كيف يأمرهن الله بالبقاء فى البيت، ويأتى النبى فيصطحبهن فى غزوة‎ ‎بنى المصطلق فيما بعد؟ لقد كان ترك النساء فى المدينة بعيدا عن ‏الغزوات عادة‎ ‎إسلامية حرص عليها النبى والمسلمون بحيث لم يكن ‏يتخلف عن الغزو إلا النساء والأطفال والشيوخ غير القادرين. وحين ‏تخلف المنافقون عن الخروج مع النبى فى احدى معاركه الدفاعية نزل ‏القرآن يعيّرهم ويسخر منهم بأنهم رَضُوا بأن يتخلفوا مع النساء‎ ‎والصبيان: “رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالف”. فهل من المعقول أن ‏يصطحب النبى زوجاته معه عرضة لخطر الحرب بينما تبقى بقية ‏النساء آمنات فى المدينة؟”.‏
وردا على ذلك نقول: ليس معنى أمر القرآن نساء النبى ‏بالاستقرار فى بيوتهن أنه ينبغى عليهن ألا يخرجن البتة منها، وإلا كان ‏معناه أنه‎ ‎لا يجوز لهن الذهاب للمساجد أو لزيارة أهليهن أو للمشاركة ‏فى أى واجب اجتماعى كالعزاء والأفراح وما إلى ذلك. ولقد كان ‏الرسول عليه السلام كريما سمحا مع زوجاته كما هو مع الناس ‏أجمعين، فلا يُعْقَل أن يتعامل معهن بمنطق العامة الذى يقول إن المرأة ‏لا تخرج من‎ ‎بيت زوجها إلا إلى القبر! إن كل ما هنالك أن‎ ‎القرآن يريد ‏لزوجات المصطفى أن يبتعدن بقدر الإمكان عن زحام الحياة حتى ‏يَظْلَلْن‎ ‎فى مكانهن الرفيع ولا يخوض الناس فى أحاديثهن وأخبارهن ‏كما يفعلون مع كثير من النساء فى قيلهم وقالهم، لا ألّا يخرجن من ‏بيوتهن بتاتا! ومن ثَمَّ فإذا صحبهن الرسول فى غزواته صحبهن على ‏نفس الوضع الذى يصونهن عن العيون والألسنة. ‏
ولقد كان النساء يشاركن فى الغزوات، فيسقين الجند ويضمدن ‏المجروحين وما إلى ذلك. فعن أنس بن مالك: “كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ ‏عليه وسلَّم يغزو بأمِّ سُلَيْمٍ ونسوةٍ معها من الأنصارِ يَسْقِين‎ ‎الماءَ ‏ويُداوين‎ ‎الجرحَى”، وعن ابن عباس: “كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ ‏وسلَّمَ يغزو بالنِّساءِ فيُداوينَ‎ ‎الجَرْحى،‎ ‎ولم يَكُن يضربُ لَهُنَّ بسَهْمٍ، ‏ولَكِن يُحْذَيْنَ مِنَ الغَنِيمةِ”، وعن الربيّع بنت معوذ بن عفراء: “كُنَّا ‏نغزو مع النبى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فنَسْقِى القومَ ونَخْدُمهم ونَرُدُّ ‏الجرحى‎ ‎والقتلى إلى المدينةِ”، وعن أم عطية نسيبة الأنصارية: “غزوتُ ‏مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سبعَ غزواتٍ أخلفهم فى رِحَالِهم، ‏فأصنع لهم الطعامَ وأُداوى الجَرْحى وأقوم على المَرْضى”، وعن أم زياد ‏الأشجعية: “خرجتُ مع رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فى غزوة خيبر ‏سادس ست نسوة، فبلغ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبعث إلينا، ‏فجئنا فرأينا فيه الغضب، فقال: مع من خرجتن؟ وبإذن من خرجتن؟ ‏فقلنا: يا رسول اللهِ، خرجنا نغزل الشعر ونعين به فى سبيل الله، ومعنا ‏دواء‎ ‎الجرحى، ونناول السهام ونسقى السويق. فقال: قُمْنَ. حتى إذا فتح ‏الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال. قال: قلت لها: يا جدة، وما ‏كان ذلك؟ قالت: تمرا”. ومعنى هذا أن أحمد صبحى منصور يحشر أنفه ‏فيما لا يحسن، ويخترع من عنده الأحاديث اختراعا، ثم يستدير بكل ‏جرأة فيتهم البخارى ومسلما وغيرهما من جامعى الأحاديث بدائه ‏هذا العياء.‏
كذلك يرى أحمد صبحى منصور أن هناك تناقضا بين الأحاديث ‏التى تحضّ على‎ ‎التبكير فى الذهاب للمسجد يوم الجمعة وتلك التى ‏تنصح المسلم بألا يهرول عندئذ حتى لو كان متأخرا بعض الشىء. وهو ‏تناقض غير موجود إلا فى مخيلته. قال: “وتأتى أحاديث كثيرة تحض على ‏سرعة التبكير بالذهاب لصلاة الجمعة، وتملأ هذه الأحاديث صفحات ‏من البخارى، ثم يتبعها حديث ينقضها جميعا يقول: “إذا أُقِيمَت ‏الصلاة فلا تأتوها تسعَوْن، وأْتُوها تمشون عليكم السكينة، فما ‏أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا” (البخارى/ الجزء الثانى/ ص3، 4، ‏‏8، 9)”. والحق أن المعنى فى هذه الأحاديث واضح تمام الوضوح، وهو ‏أفضلية التبكير. لكن ما العمل لو حدث أنْ تأخَّر المصلى لسبب أو ‏لآخر فى الذهاب إلى صلاة الجمعة؟ أيجرى فى الشارع فيظن الناس به ‏الظنون أم يسير فى احترام واطمئنان على النحو الذى يليق بالشعيرة ‏الكريمة؟
‏ وإذا كان منصور يزعم أن ثم تناقضا بين الأحاديث التى تدور ‏حول ذات الموضوع فإنه فى الفقرة التالية يدعى وجود تناقض بين ‏بعض الأحاديث وبعض آيات القرآن المجيد. يقول: “عموما فكل ‏الأحاديث التى رواها البخارى وغيره، وفيها ينسبون للنبى أقاويل عن ‏علامات الساعة وأحداثها والشفاعة وأحوال القيامة، كلها أحاديث ‏تناقض القرآن صراحة. فالقرآن يؤكد فى أكثر من موضع بأن النبى لا ‏يعلم الغيب، ولا يعلم شيئا عن الساعة وموعدها وتفصيلاتها. وقد ‏عرضنا لذلك فيما سبق،‎ ‎وأتينا بالآيات الكثيرة فى هذا الموضوع، ‏ويكفينا منها قوله تعالى للنبى: “قل: ما‎ ‎كنتُ بِدْعًا من الرسل، وما ‏أدرى ما يُفْعَل بى ولا بكم. إنْ أتَّبِعُ إلا ما يُوحَى إلىَّ”. وإذا كان النبى لا ‏يعلم ماذا سيحدث له أو لغيره فكيف ننتظر منه أن يتحدث عن ‏أحوال القيامة وشفاعته أو عدم شفاعته؟ ثم ألا يكفينا قوله تعالى فى‎ ‎عدم علم النبى بالغيب: “قل: لا أقول لكم: عندى خزائن الله، ولا ‏أعلم الغيب”، “قل: لا أملك لنفسى نفعا ولا ضَرًّا إلا ما شاء الله، ولو ‏كنتُ‎ ‎أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مَسَّنِىَ السوء. إنْ أنا إلا ‏نذير وبشير لقوم يؤمنون”…”؟ ‏
والواقع أنى لا أدرى وجه التناقض بين الحديث والقرآن فى ‏الموضوعات المذكورة: فليس فى الأحاديث أن النبى يعلم الغيب أبدا، ‏وإن كان لله سبحانه متى أراد، ولا رادَّ لإرادته تعالى، أن يكشف ستر ‏الغيب لرسوله لحكمة يعلمها جل‎ ‎شأنه. وقد يكون ذلك فى القرآن ‏كالإخبار بأن الروم ستنتصر على الفرس فى بضع سنين بعد أن لاقت ‏الهزيمة المرة على أيديهم لتوّها، وكالتنبؤ بأن الجمع سيُهْزَمون ويُوَلُّون ‏الدُّبُر، وهو ما تحقق فى بدر، وكإطلاعه نبيَّه فى غزوة الحديبية على أنه‎ ‎سيدخل مكة هو والمسلمون لأداء العمرة، مما تحقق العام الذى تلا ‏ذلك… فهذه آيات قرآنية لا يستطيع كويتبنا أن يكذّبها البتة. أما فى ‏الأحاديث فهناك نبوءةُ غزوةِ الأحزاب الخاصّةُ بفتح فارس والروم، ‏وهناك النبوءة الخاصة بفتح القسطنطينة، وهناك النبوءة الخاصة ‏بتداعى الأمم على المسلمين كما تتداعى الأَكَلَة إلى قصعتها، لا من‎ ‎قلة ‏بل من ذلة… وكل هذا قد تحقق كما أنبأ به النبى العظيم. مرة أخرى ‏نحن لا نقول‎ ‎إنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم الغيب، بل نقول إن ‏الله قد يطلعه على بعض أمور ذلك‎ ‎الغيب لحكمة من الحكم، وهو ما ‏ضربنا له الأمثلة لتوِّنا من كتاب الله وسنة رسول‎ ‎الله. وفى القرآن ‏الكريم نقرأ الآيات التالية: “ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك”، “تلك ‏من أنباء الغيب نوحيها إليك. ما كنتَ تعلمها‎ ‎أنت ولا قومك من قبل ‏هذا”، “عالِمُ الغيب فلا يُظْهِر على غيبه أحدا * إلا مَنِ ارتضى من ‏رسول”، وهى من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى أى تعليق. وإذن فليس ‏من تناقض بين الأمرين كما يعمل أحمد صبحى منصور على إيهام ‏القراء ليُفْقِدهم الثقة‎ ‎فى أحاديث النبى الكريم! ثم إن الرسول لم يحدد ‏للساعة موعدا، بل ساق علامات عامة، وهذه العلامات قد تستغرق ‏قرونا فلا يعرف الناس وقتئذ متى تقوم الساعة، ولكن يمكن ‏العقلاءَ منهم أن يعتبروا ويصلحوا من فسادهم قبل فوات الأوان، ‏فلعلهم ينجون. ‏
ولا تقتصر أهمية الحديث على ما ذكرنا، إذ كثيرا ما تعالج ‏الأحاديثُ النبويةُ أمورًا لم يتطرق إليها القرآنُ كالسواك وتمشيط ‏الشعر وغُسْل الجمعة وخطبتها وإماطة الأذى عن الطريق وشفاعته ‏صلى الله عليه وسلم هو بالذات لا الشفاعة بوجه عام واكتساب ‏المسلم أجرا لمعاشرته زوجته والسبعة الذين يظلهم الله فى ظله يوم لا ‏ظل إلا ظله وشروط استجابة الدعاء، وأفراد الأعداء الذين ينبغى ‏تركهم فى حالهم دون التعرض لهم بحال أثناء الحرب، والطرق التى يجب ‏تجنبها فى البيع والشراء… وما إلى ذلك، وهو غزير. وإلى جانب هذا ‏هناك أمور كثيرة تناولها القرآن تناولا مجردا ثم تابعت الأحاديث ‏وصفها وتصويرها بقلم الواقعية كما هو الحال فى كلام القرآن عن ‏العلماء: “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات”، ‏‏”قل: هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟”، “وقل: رب، زدنى ‏علما”، وكلام الأحاديث فى هذا الصدد كقول الرسول: “العلماء ورثة ‏الأنبياء”، “فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب”، ‏‏”مَنْ خَرَج فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع”، “طلب العلم ‏فريضة على كل مسلم ومسلمة”، “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”، ‏‏”إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع” وإشارته ‏إلى أن الحيتان فى البحر تستغفر لطالب العلم… إلخ. ‏
ثم كيف نعرف شخصية النبى العقلية والنفسية والخلقية ‏تفصيلا لو لم تكن هناك أحاديث؟ الواقع أننا لو أهملنا الأحاديث ‏كما يريد منا أحمد صبحى منصور لم نجد فى القرآن مادة كافية ‏تساعدنا على أن نبصر صورة النبى عليه السلام خلال حياته اليومية: ‏فى البيت وفى السفر ومع أصحابه وفى الحرب وفى الصلاة وفى الصيام ‏وعند تناول الطعام وفى تعامله مع الأطفال والنساء وفى نومه وفى ‏استيقاظه وبالنسبة للأطعمة التى يحبها وتلك التى لا يقبل عليها وفى ‏تعليقه على الأحداث وفى توجيهه لهذا الصحابى أو ذاك وفى كلامه عن ‏إخوانه الأنبياء السابقين وفى تفرقته بين شريعته وشرائعهم وفى ردود ‏أفعاله تجاه الوقائع التى تحدث حوله… مما لا نجد له أثرا فى القرآن، الذى ‏يكتفى بالخطوط العامة دون إيراد تفاصيل، علاوة على أن هناك ‏أشياء لم يقترب منها القرآن قط. ثم ألم يعلن منصور أن الرسول هو ‏المثل الأعلى؟ أليس من الطبيعى إذن أن يحرص أتباع أى مثل أعلى على ‏معرفته ومعرفة كل ما يتعلق به؟ فكيف يستطيعون ذلك إذا ألغينا ‏الأحاديث؟ بل إن وصف ملامح الرسول مثلا وطريقته فى الكلام ‏والمشى والنوم وأداء العبادات ليس لها وجود فى كتاب الله، لكنها ‏متاحة فى الحديث.‏
إن رجال الحديث إنما صنعوا ما صنعوه من جمعهم لكلام رسول ‏الله وأوصافه ورواية أفعاله بدافع الحب له صلى الله عليه وسلم ‏والإعجاب به والحرص على معرفة الكيفية التى نفهم بها الدين ‏ونطبقه، بخلاف من يكرهه صلى الله عليه وسلم ويكره دينه ‏ويتظاهر بأنه إنما يريد تنقية التوحيد مما شابَهُ من خَبَث الأحاديث ‏النبوية، أستغفر الله. الواقع أن مثل هذا المنطق هو منطق الشياطين. ‏ترى هل هناك من يكره أن يعرف رسولَه عن قرب ويعرف ماذا قال ‏وماذا فعل؟ إن المحب ليحرص على أن يستعيد كل كلمة قالها محبوبه ‏وكل تصرف أتاه وكل موقف اتخذه. وما من أمة فى الأرض إلا وتتفانى ‏فى تخليد ذكرى عظمائها. وعلى هذا النهج تسير كل الأمم منذ كانت ‏هناك أمم. فما بالنا إذا كان هذا العظيم هو نبيها؟ وبالله إذا لم نحرص ‏على أحاديث رسول الله فعلى أحاديث مَنْ نحرص؟ ‏
نخرج من هذا بأننا لو هدمنا السنة النبوية هدمنا شطرا كبيرا ‏من الإسلام. إنها ليست شيئا إضافيا أو كماليا، بل هى جزء أصيل من ‏الدين. وفى أقل القليل هى الصورة التطبيقية للإسلام فى العصر الأول ‏يهتدى بها المسلمون على مدى الدهر ويَرَوْن كيف واجه الرسول ‏مشاكل عصره ومجتمعه، فنتصرف كما تصرف، ونفكر كما فكر، ‏وننحو كما نحا… وهكذا. ومَنْ أَوْلَى مِنْ محمد بأن نتخذ منه قدوتنا ‏وأسوتنا، وهو الرسول الذى تلقى الوحى وأُمِر بتبليغ الدين، وكانت ‏السماء ترعاه وتراعيه وتصوبه وتباركه، فضلا عن أنها قد أمدته ‏بمواهب عظيمة لا تتاح للبشر العاديين ولا حتى لكثير من النبيين ‏والمرسلين؟
‏ ونحن لو نظرنا مثلا فى سيرة النبى عليه الصلاة والسلام لنرى ‏موقفه العملى من العلم فلسوف نقف ذاهلين أمام ما صنعه، وهو ‏الأُمِّى، عقب الانتصار فى غزوة بدر حين وقع فى يد المسلمين عشرات ‏الأسرى من كفار قريش، إذ عرض عليهم أن يطلق سراح كل من ‏يقوم منهم بتعليم عشرة من صبيان المسلمين فى المدينة القراءة ‏والكتابة. وقد كان هذا الصنيع نقطة الانطلاق إلى نشر التعليم بين ‏المسلمين، إذ كان عدد القارئين والكاتبين فى المجتمع الجاهلى جِدَّ ‏ضئيلٍ كما هو معروف. وجدير بنا أن نتوقف نحن بدورنا إزاء هذا ‏العمل العبقرى من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ذلك العمل الذى ‏كان وراء انتشار حركة التعليم بين أفراد الأمة الناشئة، إلى جانب ‏إلحاحه صلى الله عليه وسلم على أن طلب العلم فريضة على كل ‏مسلمة ومسلمة، وهو ما يتميز به عن سائر الأنبياء. ‏
ووجه العبرة فى هذا أن العرب، رغم انتشار الأمية بينهم فى ‏الجاهلية انتشارا واسعا، سرعان ما تخلصوا منها وقَضَوْا عليها وأَضْحَوُا ‏الأمة الأولى للعلم والثقافة والفكر فى العالم أوانذاك رغم ضعف ‏الإمكانات. إنه، عليه الصلاة والسلام، لم يؤلف اللجان ولم يخصص ‏الميزانيات ولم يستكثر من بناء المدارس والجامعات لهذا الغرض، إذ ‏كان ذلك صعب التنفيذ فى تلك الظروف بل مستحيله، فاكتفى من ثم ‏بالمتاح بين يديه، وهو أقل من القليل. ومع ذلك فإن هذا القليل الذى ‏يكاد يقرب من حد العدم قد أتى بتلك الثمار المدهشة، وهى ثمار لا ‏يمكن المقارنة بينها وبين ما تحقق من نتائج فى ذلك الميدان بطول ‏البلاد العربية وعرضها منذ عصر النهضة الحديثة التى بدأت قبل ‏أكثر من قرنين من الزمان مع توفر الإمكانات الهائلة التى لم يكن ‏الصحابة يحلمون بواحد على المليون منها. لقد كانوا يتلقَّوْن تعليمهم ‏مثلا فى المسجد، والمساجد لا تكلف الدولة شيئا يذكر. ولم يستقدم ‏عليه الصلاة والسلام لصبيان المدينة خبراء تربويين ولا مدرسين من ‏الخارج بالعملة الصعبة، بل اعتمد على الأسرى الذين لو كان قد ‏استبقاهم عنده دون عمل لكلفوه أموالا طائلة، لكنه بثاقب نظره ‏وإلهامه العظيم افترع هذا الحل العبقرى الذى أتى بأعظم النتائج دون ‏أن يدفع فيه شيئا على الإطلاق. ‏
وللبروفسير ن. ستيفن (‏Prof. N. Stephen‏) كتاب بعنوان ‏‏”‏Muhammad and Learning‏” تحدث فيه مشدوها عن أحاديث ‏الرسول الكريم ودوره فى مجال التعليم، مستغربا أن يتنبه رجل مثله ‏يعتزى إلى أمةٍ باديةٍ أُمِّيّةٍ تعيش فى القرن السابع الميلادى إلى هذا ‏الجانب من جوانب الحياة وأن يكون له تلك الآراء التقدمية ‏والمواقف المذهلة التى تعكسها آيات القرآن والأحاديث الشريفة، ‏وبخاصة أن الأديان الأخرى كانت تضع التعلم تحت الرقابة وتجعله ‏حكرا على الكهنة والطبقة الحاكمة ليس إلا، إن لم تعاقب على إفشاء ‏العلم بين العامّة، فضلا عن إحراق الكتب، الذى يؤكد أنه سيظل إلى ‏الأبد وصمة عار فى جبين من اجترحوه، وفى جبين الكنيسة أيضا ‏لارتضائها ومباركتها هذا العمل المخزى، على عكس محمد، الذى دعا ‏البشر جميعا على اختلاف طبقاتهم ومهنهم وظروفهم إلى السعى حثيثا ‏فى طلب العلم رجالا ونساء من المهد إلى اللحد، بل أوجبه عليهم غير ‏مكتفٍ بجعله حقا من حقوقهم يمكنهم أن يأخذوه أو يهملوه، وجَعَله ‏بابا إلى الجنة، وساواه فى الفضل بالاستشهاد فى سبيل الله، بل فضّل ‏العلماء على العبّاد المنعزلين عن تيار الحياة وميادين الجهاد بمثل ما ‏يَفْضُل به البدرُ سائرَ الكواكب. ومع هذا يجدّ أحمد صبحى منصور فى ‏محاولة هدم الأحاديث النبوية التى يقف أمامها البروفسير ستيفن ‏مشدوها مما فيها من عبقرية سبقت الأزمان بمسافات شاسعة.‏
وفى مجال آخر من مجالات العبقرية النبوية التى ما كنا لنعرفها، ‏فضلا عن أن نقدرها حق قدرها، لولا أحاديث النبى صلى الله عليه ‏وسلم التى سجلت مظاهر تلك العبقرية والتى يريد أحمد صبحى ‏منصور ومن على شاكلته أن يدمروها بحجة الحفاظ على الإسلام من ‏الزيف والبهتان والتشويه والضلال، كتبت فرنشيسكا دو شاتل، وهى ‏صحفية وأنثروبولوجية هولندية، بحثا بديعا أبدت فيه انبهارها بموقف ‏النبى الكريم من الطبيعة حتى لقد عدته رائد الحفاظ على البيئة ‏وجعلته سابقا لعصره بل سابقا للعصور الحديثة بأشواط. قالت فى ‏الفقرتين الأوليين من ذلك البحث: “جاء فى الحديث النبوى: “ما‎ ‎من‎ ‎مسلم‎ ‎يغرس غرسا‏ ‏أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة ‏إلا كان له به ‏‏صدقة”. الواقع أن القول بأن محمدا رائد من رواد الحفاظ ‏على البيئة سوف يقع فى آذان الكثيرين فى البداية موقعا غريبا، إذ لا ‏شك أن مصطلح “الحفاظ على البيئة” وما يرتبط به من مفاهيم مثل ‏‏”البيئة” و”الوعى البيئى” و”ترشيد الاستهلاك” هى ألفاظ من اختراع ‏العصر الحديث، أىْ مصطلحات صيغت لتواجه الاهتمامات المتزايدة ‏بالوضع الراهن لعالم الطبيعة من حولنا. ومع ذلك فإن قراءة الأحاديث ‏النبوية عن قرب، أى تلك الروايات المتعلقة بالأحداث الهامة فى حياة ‏محمد، لَتُرِينا أنه كان واحدا من أشد المنادين بحماية البيئة. بل يمكننا ‏القول إنه كان فى نصرته للبيئة سابقا لعصره، أى رائدا فى مجال ‏المحافظة على البيئة والتطور الرشيد والإدارة الحكيمة للموارد ‏الطبيعية، وواحدا من الذين يَسْعَوْن لإقامة توازن متناسق بين الإنسان ‏والطبيعة. وبالاستناد إلى ما أوردته لنا الأحاديث من أعماله وأقواله ‏يمكننا القول بأن محمدا كان يتمتع باحترام عميق لعالم النباتات ‏والأزهار وأنه كان على صلة حميمة بعناصر الطبيعة الأربعة: التراب ‏والماء والنار والهواء”. ‏
وهناك أستاذ جامعى أمريكى، هو البروفسير جيفرى لانج، ‏اعتنق الإسلام أواخر القرن الماضى وأصدر عدة كتب منها كتاب ‏‏”‏Struggle to Surrender‏”، الذى خصص جزءا كبيرا من فصله ‏الثالث للكلام عن الحديث النبوى. وأشار لانج إلى أن الحديث النبوى ‏كان هدفا للنقد الاستشراقى، وأعلن عن رغبته فى أن يكون هناك ردٌّ ‏فعّالٌ على هذا النقد من جانب المسلمين الموجودين فى الغرب المعادى ‏للإسلام معاداة راديكالية حسب وصفه. كما أشاد بعلم الحديث ‏وبرجاله وتقواهم ومنهجيتهم الصارمة الدقيقة، وأثنى على كتبهم ثناء ‏كبيرا، وبخاصة كتب الصحاح الستة المعروفة، إذ قاموا بغربلة الآلاف ‏المؤلفة من أحاديث الرسول تمييزا لصحيحها عن سقيمها، وهو ما ‏اقتضاهم مجهودا ضخما يحمد لهم. وبلغ من دقتهم، حسبما يقول، أنهم ‏كثيرا ما يقبلون حديثا معينا ثم يرفضون حديثا آخر له نفس المتن ‏دون أدنى خلاف، بسبب أن رواة هذا معدَّلون، ورواة ذاك مجرَّحون، مما ‏يدل على مدى صرامة الطريقة التى اتبعوها فى توثيق كلام النبى عليه ‏الصلاة والسلام. ثم ينقل كلام شبرنجر عن علم توثيق الرواة ‏وتضعيفهم بأنه مفخرة للفكر الإسلامى. لكنه يشكو فى نفس الوقت ‏من وجود أحاديث منسوبة للنبى عليه الصلاة والسلام لا تتفق وما ‏يتطلع إليه المرء عند نبى من أنبياء الله أو تسوّغ أشياء لا يقبلها العقل ‏والمنطق. ‏
وأنا أتفق معه إلى حد بعيد، إذ أقول دائما إن علماء الحديث قد ‏بذلوا جهودا عبقرية فى جمع الأحاديث وتمحيصها وتبويبها، فحفظوا ‏للمسلمين ذخيرة لا تقدر بثمن، ولا يمكن أن يثيبهم عليها سوى ‏رب العباد سبحانه. إلا أن هذا لا يعنى أن كل ما أوردوه من حديث هو ‏صحيح حتما. لقد استفرغوا وسعهم ولم يَأْلُوا، والباقى علينا. وكما ‏اجتهدوا هم نجتهد نحن. وقد نصيب نحن بدورنا، وقد نخطئ. والله قد ‏تكفل لنا، كرما منه وتفضلا، بأن يجزينا فى الحالين الجزاء الحسن. ‏فمِمَّ الخوف؟ وفيم التحرج؟ وأرى أنه إذا بدا لمسلم أن حديثا من ‏الأحاديث لا يقنع عقله فلا ضرر على إيمانه ما دام يبحث عن الحق ‏ويقدم المسوغات لما يقول. ‏
إن المسلمين عموما يؤمنون بأن البخارى هو أصح كتاب بعد ‏الله، لكنْ يُلاحَظ فى ذات الوقت أنهم لا يفرقون بين هذا الحكم ‏على صحيح البخارى وبين كونه كتابا معصوما. إن الكتاب المعصوم ‏هو كتاب الله، وما دام البخارى يأتى بعده فهو ليس بمعصوم، لأن ‏العصمة ليست درجات، بل درجة واحدة. وعلى هذا فإما أن يكون ‏الكتاب معصوما أو لا يكون، وما دام كتابٌ ما يأتى بعد كتاب آخر ‏معصوم فمعناه أنه أقل منه، ومن ثم ليس معصوما مثله. إنه أوثق من ‏غيره من الكتب، نعم. لكنه ليس معصوما. على أن هذا لا يعنى أبدا ‏أن كل من هب ودب يمكنه، تحت هذه الحجة، أن يشرع فى الهجوم على ‏كتب الصحيح بحجة أنها غير معصومة. بل عليه أن يكون على ‏مستوى الأمر ويبحث ويحقق ويدقق ويقدم مبررات عدم اقتناعه ‏بهذا الحديث أو ذاك، واضعا فى ذهنه قبل كل شىء أنه مجرد مجتهد، ‏وأن ما يقوله قابل للصواب والخطإ، وأن علماء الحديث قد بذلوا ‏جهودا جبارة لا يمكن شطبها بجرة قلم من جانب أى فَسْل لا قيمة ‏له فى دنيا العلم والعلماء. ‏
إن علماءنا الكرام قد خدموا السنة النبوية خدمة جُلَّى، وبذلوا ‏جهودا عظيمة فى التحقق من عدالة الرواة وضبطهم. ولكن هذا لا ‏يمنع أبدا أن نبدأ خدمة السنة من حيث انْتَهَوْا، فننظر فى مضمون ‏الأحاديث ونتحقق من صحتها ودقتها مراعين ألا تناقض القرآن فى ‏شىء أو تتعارض والروح العامة للإسلام ومبادؤه وقيمه العليا ‏وعقائده المتفق عليها أو تخالف الحقائق العلمية المقطوع بها أو تدابر ‏التاريخ القطعى وأحداثه وأرقامه أو تعاكس الطبيعة البشرية التى ‏نعرفها على مدى الأحقاب أو أوضاع المجتمعات أو نفسية الجماهير أو ‏سنن الله فى الكون أو المنطق العقلى العام… إلخ. كما ينبغى أن نغلِّب ‏الجوهريات على الشكليات، والمتون على الهوامش، والواجبات على ‏النوافل، والأهم على المهم… وهلم جرا. وعندنا أيضا التحقق الأسلوبى. ‏فلا شك أن من تمرس بأحاديث النبى وخطبه وحواراته يتشكل لديه ‏انطباع عن أسلوبه اللغوى. فلو وجد المحقق أن فى الحديث الذى ‏ينظر فيه لفظا أو تعبيرا أو تصويرا أو تركيبا لم يكن يستعمله النبى: ‏إما لأنه لم يكن من استخدامات عصره ومجتمعه أو لم يكن من ‏استعمالاته هو الشخصية كان هذا سببا معضدا لعدم اطمئنان ضميره ‏لذلك الحديث.‏
وليس فى الأمر ما يدعو إلى الحرج من جانب المتحقق ولا إلى ‏الغضب من جانب العلماء الآخرين، فقد كان الصحابة ينتقد بعضهم ‏بعضا ويرد بعضهم رواية بعض أو يطالبه بالدليل على صحة حديث أو ‏بالإتيان بشاهد آخر. فمثلا تقول عائشة فى حديث لها: “من زَعَم أنَّ ‏محمَّدًا صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ رأَى ربَّهُ فقد‎ ‎أعظَم‎ ‎الفِرْيَةَ‎ ‎على اللهِ تعالى، ‏ولكنَّهُ رأى جِبريلَ مرَّتينِ فى صورتِه وخَلْقه سادًّا ما بين الأُفُقِ”. ومعنى ‏هذا أنه كان هناك من يقول ذلك، فانتقدته عائشة أيما انتقاد، ولم ‏يمنعها من هذا الانتقاد الشديد بل التكذيب العنيف أى اعتبار. ‏ويقول أبو سعيد الخدرى: “كنتُ جالسًا بالمدينةِ فى مجلسِ الأنصارِ، ‏فأتانا‎ ‎أبو موسى‎ ‎فزِعًا أو مذعورًا. قلنا: ما شأنُك؟ قال: إنَّ‎ ‎عمرَ‎ ‎أرسل ‏إلى أن آتيَه، فأتيتُ بابَه فسَلَّمْتُ‎ ‎ثلاثًا،‎ ‎فلم يَرُدَّ على، فرجعتُ، فقال: ما ‏منعك أن تأتيَنا؟ فقلتُ: إنى أتيتُ فسلَّمْتُ على بابِك ثلاثًا، فلم يَرُدُّوا ‏على، فرجعتُ. وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إذا استأذن ‏أحدُكم‎ ‎ثلاثًا‎ ‎فلم يُؤْذَنْ له فلْيَرْجِعْ. فقال‎ ‎عمرُ:‏‎ ‎أقِمْ عليه البيِّنَةَ، وإلا ‏أوجعتُكَ. فقال أُبَى بنُ كعبٍ: لا يقوم معه إلا أصغرُ القومِ. ‏قال‎ ‎أبو‎ ‎سعيدٍ: قلتُ: أنا أصغرُ القومِ. قال: فاذهبْ به”.‏‎ ‎و”جاءت‎ ‎جدة‎ ‎إلى‎ ‎أبى بكر‎ ‎فقالت:‏‎ ‎إن‎ ‎لى حقًّا‎ ‎فى مال‎ ‎ابن‎ ‎ابن‎ ‎مات.‏‎ ‎قال: ما‎ ‎علمت ‏لك‎ ‎فى كتاب‎ ‎لله‎ ‎حقًّا‎ ‎ولا‎ ‎سمعت‎ ‎من‎ ‎رسول‎ ‎الله‎ ‎صلى‎ ‎الله‎ ‎عليه‎ ‎وسلم‎ ‎فيه‎ ‎شيئًا.‏‎ ‎وسأل،‎ ‎فشهد‎ ‎المغيرة بن‎ ‎شعبة‎ ‎أن‎ ‎رسول‎ ‎لله‎ ‎أعطاها‎ ‎السدس.‏‎ ‎قال: ومن‎ ‎سمع‎ ‎ذلك‎ ‎معك؟‎ ‎فشهد‎ ‎محمد‎ ‎بن مَسْلَمةَ،‎ ‎فأعطاها‎ ‎أبو‎ ‎بكر‎ ‎السدس”. ‏
ومن هذا البابِ أيضا الحديثُ التالى عن عبادة بن الصامت: ‏‏”كنتُ بالشَّامِ فى حلقةٍ فيها مسلمُ بنُ يسارٍ، فجاء أبو الأشعثِ ‏الصَّنْعانى، فأرسل له القومُ فقالوا: أبو الأشعثِ، أبو الأشعثِ! فقلتُ: يا ‏أبا الأشعثِ، حدِّثْ أخاك حديثَ عبادةَ بنِ الصَّامتِ. فقال: كنَّا ‏مع‎ ‎معاويةَ‎ ‎فى غَزاةٍ فغنِمنا غنائمَ كثيرةً، فكان فيها آنيةٌ من فِضَّةٍ، ‏فأمر‎ ‎معاويةُ‎ ‎رجلًا ببيعِها من النَّاسِ فى أُعْطِيّاتِهم، فبلغ ذلك عبادةَ، ‏فقام فقال: إنِّى سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينهَى عن بيعِ ‏الذَّهبِ بالذَّهبِ، والوَرِقِ بالوَرِقِ، والبُرِّ بالبُرِّ، والشَّعيرِ بالشَّعيرِ، والتَّمرِ ‏بالتَّمرِ، والملحِ بالملحِ إلَّا سواءً بسواءٍ، مثلًا بمثلٍ، عينًا بعينٍ. فمن زاد ‏أو استزاد فقد أَرْبَى. فرَدَّ النَّاسُ ما كانوا أخذوا، فذهب رجلٌ ‏إلى‎ ‎معاويةَ‎ ‎وأخبره الخبرَ، فقام خطيبًا فقال: ما بالُ أقوامٍ يُحدِّثون عن ‏رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحاديثَ قد صَحِبْناهُ ورأيناه فما ‏سمِعناها منه؟ فقام عبادةُ بنُ الصَّامتِ فأعاد الحديثَ وقال: واللهِ ‏لنُحَدِّثنَّ بما سمِعنا من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن ‏زعم‎ ‎معاوية (أو قال: وإن كرِه‎ ‎معاويةُ). واللهِ ما أُبالى أنِّى لا أصحبُه فى ‏حياتى ليلةً سوداءَ”.‏
كذلك “ذُكِر عند عائشةَ قولُ ابنُ عمرَ: الميتُ‎ ‎يُعذَّبُ‎ ‎ببكاءِ‎ ‎أهلِه‎ ‎عليهِ. فقالت: رحم اللهُ أبا عبدِ الرحمنِ. سمع شيئًا فلم يحفظْه. إنما ‏مرت على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ جنازةُ يهودى، وهم يبكون ‏عليهِ، فقال: “أنتم تبكون، وإنَّهُ لَيُعذَّب”. وهناك حديث آخر فى ذات ‏الموضوع عن عبد الله بن أبى مليكة هذا نصه: “توفيت ابنة لعثمان ‏رضى الله عنه بمكة، وجئنا لنشهدها، قال: وحضرها ابن عمر وابن ‏عباس، وإنى لجالس بينهما (أو قال: جلست إلى أحدهما، ثم جاء ‏الآخر فجلس إلى جنبي)، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا ‏تنهى النساء عن البكاء؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن ‏الميت لَيُعَذَّب ببكاء‎ ‎أهله‎ ‎عليه. فقال ابن عباس: قد كان عمر رضى ‏الله عنه يقول بعض ذلك، ثم حدَّث قال: صدرتُ مع عمر من مكة ‏حتى كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل سَمُرَة، فقال: اذهب وانظر إلى ‏هؤلاء الركب. قال: فنظرت، فإذا هو صهيب، فأخبرته. قال: ادعه لى، ‏فرجعت إلى صهيب. فقلت: ارتحل، فالحق أمير المؤمنين. فلما أصيب ‏عمر دخل صهيب رضى الله عنهما يبكى يقول: وا أخاه! وا صاحباه! ‏فقال عمر رضى الله عنه: يا صهيب، أتبكى علىَّ، وقد قال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: إن الميت ليعذَّب ببعض بكاء‎ ‎أهله‎ ‎عليه؟ قال ‏ابن عباس: فلما مات عمر رضى الله عنه ذكرتُ ذلك لعائشة رضى ‏الله عنها، فقالت: رحم الله عمر. والله ما حدَّث رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم أن الله يعذب‎ ‎المؤمن‎ ‎ببكاء ‏‎ ‎أهله عليه، ولكن قال رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليزيد الكافر عذابا‎ ‎ببكاء‎ ‎أهله‎ ‎عليه. ‏قال: وقالت عائشة: حَسْبُكم القرآن: “ولا تزر وازرة وزر أخرى”. قال: ‏وقال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكى. قال ابن أبى مليكة: ‏فوالله ما قال ابن عمر شيئا”.‏
وكان بعض الصحابة يضيق بكثرة رواية أبى هريرة لأحاديث ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدافع عن نفسه بأنه كان ملازما ‏لرسول الله عليه السلام فى حين كانوا هم مشغولين بأمور حياتهم عن ‏الالتصاق بالنبى التصاقه به. ومن ذلك الحديث التالى: “قيل لعائشةَ: ‏إنَّ أبا هريرةَ يقول: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: الشُّؤْمُ‎ ‎فى ‏ثلاثٍ: فى الدَّارِ والمرأةِ والفرسِ. فقالت عائشةُ: لم يحفظْ أبو هريرةَ لأنه ‏دخل ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: قاتَل اللهُ اليهودَ! يقولون ‏إنَّ “الشؤمَ فى الدَّارِ والمرأةِ والفَرَسِ”، فسمع آخِرَ الحديثِ، ولم يسمع ‏أَوَّلَه”. و”قالَتْ عائشةُ لأبى هريرةَ: إنَّكَ لتُحدِّثُ‎ ‎عنِ‎ ‎النبى صلَّى اللهُ ‏عليْهِ وسلَّمَ حديثًا ما سمعتُه منه. قال:‏‎ ‎شَغَلَكِ‎ ‎عنه، يا أُمَّه، المرآةُ ‏والمُكْحُلةُ، وما كان يَشْغَلُنى عنه شىء”. وعن أبى هريرة: “مَن تبِع ‏جنازةً فصلَّى عليها فله قيراطٌ، فإن شهِد دفَنها فله قيراطانِ، والقيراطُ ‏أعظمُ مِن أُحُدٍ. فقال له ابنُ‎ ‎عُمرَ:‏‎ ‎يا أبا‎ ‎هريرة، انظُرْ ما تحدّثُ به عن ‏رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقام إليه‎ ‎أبو‎ ‎هريرةَ‎ ‎فأخَذ بيدِه حتى ‏انطَلَق به إلى عائشةَ، فقال لها‎ ‎أبو‎ ‎هريرة: أَنْشُدُك باللهِ هل سمعتِ ‏رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: مَن تبِع جنازةً فصلَّى عليها فله ‏قيراطٌ، فإن شهِد دَفْنَها فله قيراطانِ، القيراطُ أعظمُ مِن أُحُدٍ؟ فقالتْ: ‏اللهم نعَم. فقال‎ ‎أبو‎ ‎هريرةَ:‏‎ ‎إنه لم يكُنْ يشغَلُنى عن رسولِ اللهِ صلَّى ‏اللهُ عليه وسلَّم غرسٌ. إنما كنتُ ألزمُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ‏لكلمةٍ يُعَلِّمُنيها أو لقمةٍ يُطْعِمُنيها”.‏
ومعروفٌ الخلاف الحاد الذى نشب بين عمر وأحد الصحابة ‏حول الطريقة التى يقرأ بها كل منهما القرآن، وإسراعهما إلى الرسول ‏ليتأكدا أيهما المصيب. ولو كان هناك مثل ذلك التحرج الذى نظنه ‏لقد كان كلاهما حريًّا أن يصدّق الآخر ولا يرفعا الأمر إلى رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم. كما أن الأقضية التى كانت ترفع إلى رسول الله ‏دليل آخر على أنهم لم يكونوا يَرَوْن فى اختلافهم أى حرج، وإلا ما ‏كان أحدٌ قاضَى أحدا، فإنّ خصمه صحابى لا يصح القدح فيه أو ‏الاختلاف معه. ثم عندنا حديث الإفك، ألم يخض فيه بعض ‏الصحابة؟ وفوق هذا ألم يزن هذا ويسرق هذا من معاصرى النبى ممن ‏شاهدوه وتحدث إليهم وتحدثوا إليه؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى