مقالات

قراءة هادئة في ملف صاخب 2 من 2

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب


كان الخميني يعرف جيدا أن للتدين العراقي خصوصية نادرة، وربما لا يشبه أي تدين آخر فالعراقيون مُغالون في الولاء والبراء، والناس تتمسك بالفروع وترفعها إلى مستوى من التقديس يفوق ما للأصول من قدسية، بل وتركن الأصول جانبا، وتطغى الطقوس عند العراقيين على المقدسات، كما أن الخميني الذي عاش عَقداً من الزمان ونصف في العراق، حرص على توظيف ما عرفه من تناقض عند العراقيين، ونجح في تسخير ما يسمى بعقدة المظلومية، لأغراض سياسية، فانتقل من كتب الفقه إلى الشارع السياسي.
انكب خميني على دراسة طبيعة المجتمع العراقي بصمت، أكثر من انشغاله في التفرغ للبحث في الأمور الدينية، التي يُفترض به أن يشغل نفسه بها للحصول على معارفها، وربما كان هذا من أسباب العزلة التي كان يستشعرها في مجتمع النجف المتعدد الاهتمامات الدراسية والثقافية، وفي نهاية المطاف توصل إلى نتيجة قاطعة، بأن العراقيين شعب مدني لا ديني في جوهره، وهذا ما يسهل مهمة ترويضه، إذا ما امتلك المفاتيح المناسبة لهذا الغرض.
إن العراقي إن تعصب لفكرة سياسية أو دينية، فإنه يمضي بها إلى نهاية الشوط غير مبالٍ بالتضحيات والخسائر، ولهذا ركز الخميني على امتلاك المفاتيح القادرة على فتح المغاليق العراقية مهما كلفه ذلك من جهد.
ولكن الخميني اصطدم خلال وجوده في النجف بعقبتين، أولا سلطة سياسية قوية في العراق، لا سيما بعد 17 تموز 1968، أو بمرجعية نجفية تناصبه العداء، وتعده رجل سياسة، تربطه بالبحوث الدينية خيوط واهنة، فلا يُعرف للخميني كتاب فقهي استحق عليه لقب آية الله، أما كتاب “تحرير الوسيلة” فهو إعادة لصياغة كتاب “وسيلة النجاة لعبد الواسع بن محمّد علّامي توني كاشاني” وله كتاب سياسي هو “الحكومة الإسلامية”.
إن العزلة التي عانى منها خميني خلال وجوده في النجف أثرت كثيرا على سلوكه، فحولته إلى رجل متطرف في كل شيء، فقد كان يحتقر حزب الدعوة الإسلامية، لأن الشاه السابق هو الذي أسسه ودعمه سياسيا وماليا وبالتالي يعتبره صنيعة شاهنشاهية يجب النظر إليها بنفس العين التي تنظر للشاه، وكذلك الحال مع محسن الطباطبائي الحكيم، فقد كان متهما أيضا من قبل خميني وأتباعه، بأنه أحد رجال الشاه في العراق.
بسبب أفكار خميني التي تخلط الطين بالعجين، وتحاول إلباس الأصول لباساً على مقاساته الخاصة، وخاصة في بدعة نائب الإمام الغائب أي الولي الفقيه، فقد أحدث اضطرابا في البيئة الشيعية التي كانت على يقين راسخ بأنها لا يمكن أن تقطع أمرا دون ظهوره في آخر الزمان، لا سيما لدى المرجعية والحوزة، انعكس على شكل انقسام عمودي بين مرجعيتي النجف في العراق وقم بعد أن انتقل الخميني من لاجئ سياسي في النجف إلى حاكم مطلق يملك السلطتين الدينية والدنيوية، وأضاف هذا الانقسام بعدا جديدا يتعلق بالإيمان بنظرية ولاية الفقيه الذي أصبح حقيقة مفروضة بقوة السلطة التي يمتلكها الولي الفقيه في إيران دينيا وسياسيا.
من المعروف أن الإسلام دين التسامح، ولكن القوة الرئيسة المتحكمة بسلوك الخميني، كانت نزعة الانتقام التي أعمت بصره وبصيرته، فلم يكن عنده شيء أهم من الانتقام لنفسه من الشاه، ليس لأسباب وطنية وإنما لأحقاد شخصية، هذا الحقد الذي فاق الحدود المعقولة، ومن المعروف أن موقف خميني من نظام حكم الشاه وخاصة بعد إقرار قانون الإصلاح الزراعي في ايران، كاد أن يقوده إلى منصة الإعدام، ولم يتوقف الشاه عن ملاحقته في منفاه، فقتل السافاك ابنَه مصطفى، مما سد كل الطرق المؤدية إلى تحكيم العقل في تفكيره، ولكن هذا الحقد على ما فيه من نزعة انتقامية، لم تدفع الخميني إلى التعاون مع العراق ضد بلاده، أذكر أن العراق حاول توظيف وجود الخميني في النجف أثناء حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، لأخذ تصريح إذاعي ضد إسرائيل، ومحاولة الضغط على نظام الشاه لعدم عرقلة توجه الجيش العراقي إلى الجبهة السورية، فتم تكليف السيد عبد الأمير قاسم مدير الإذاعة الفارسية من بغداد، للتوجه إلى النجف والحصول على تصريح بهذا المعنى، فماذا حصل؟
رفض مكتب الخميني في النجف إجراء مقابلة مع إذاعة بغداد باللغة الفارسية، وتم إبلاغ عبد الأمير قاسم، إن الخميني لا يخوض معركته مع الشاه لصالح العراق، وإنما يخوضها لأنها حربه الخاصة.
والآن لننظر ماذا فعلت قيادات عسكرية وسياسية سابقة وكبيرة جدا، على مستوى الجيش العراقي أو قيادات في حزب البعث العربي الاشتراكي عندما كان الشهيد صدام حسين نصيرا في الحزب، ولكنها فقدت انتماءها القومي وانحرفت عن جادة الصواب وطنياً ومبدئياً، لأن الحقد الأعمى على نبوغ صدام حسين وقدراته القيادية أفقدها أي انتماء سابق فحولت الحقد الشخصي إلى حقد على الوطن، زار نفر ضال من هؤلاء أثناء حرب الثماني سنوات، طهران وأعربوا عن تأييدهم القاطع للنظام المعتدي في طهران، ومساعيه لإسقاط نظام البعث، وخلال وجودهم في إيران زاروا جبهات الحرب، وباركوا للمقاتلين “انتصاراتهم المزعومة” على الجيش العراقي، وأعلن الإعلام الرسمي الإيراني عن ذلك في محاولة للتأثير عن معنويات المقاتلين في الجبهات، وعلى صمود الأسرى في المعسكرات التي استعصت على محاولات الترويض والتسقيط، وأسماء أولئك الخونة معروفة من قبل الأسرى.
الخميني كان يحمل نزعة أخرى مضادة لكل ما كان سائدا في العراق وفي النجف خاصة، ولكنها لا تقل عن الحقد على الشاه، وهي الحقد على كل المراجع الشيعية الذين لا يحترمون مكانته العلمية ويتجنبون مجالسته، وينظرون إليه كسياسي أخطأ الهدف، فعثر على البغلة التي تحقق هدفه، فلبس العمامة ونصب نفسه نائبا للإمام المهدي المنتظر، ويمكننا أن نكتشف عقدته على من هو أعلم منه، عندما قرر بعد مدة وجيزة من تحوله إلى الإمام الآمر الناهي، فرض الإقامة الجبرية على “آية الله العظمى كاظم شريعتمداري” في منزله إلى وافته المنية، بتهمة رعاية مؤامرة قلب نظام الحكم التي اُتهم بها صادق قطب زادة وزير الخارجية ومجموعة كبيرة من الضباط الآذريين، متنكرا لشريعتمداري فضله في انقاذه من حبل المشنقة عندما منحه لقب آية الله من دون أن يستحق ذلك فعلا.
في ظل ظروف الاضطراب السياسي الذي عاشته إيران الشاه، تهيأت الفرصة للخميني للقفز إلى سلطة الحكم في إيران بعد أحداث الشغب التي شهدتها المدن الإيرانية في خريف عام 1978، وبدأت مرحلة الاضطراب المدروس أمريكيا والمسيطر على نهاياته المدببة من جانب الدول الكبرى، فخرجت من تحت الرماد شعارات نارية هائلة غطت سماء الشرق الأوسط بدخانها الأسود، فكان العراق أول ساحة أراد أن ينفخ الخميني نيرانه عليها ليجرب حظ مشروعه، فإن حقق نجاحا فسيواصل الدفع به باتجاه الجوار العربي، رافعا شعاراته الرنانة عن طريق القدس الذي كان يغير مساره تبعا للظروف المستجدة، فتارة يقول إنه يمر عبر كربلاء، وتارة تصبح بغداد هي أقصر طرق جيوش كذبه نحو القدس.
ليست هناك معارضة وطنية في العراق، المعارضة هي التي تعارض نظام الحكم في بلد ما، ولديها ملاحظات على أساليب إدارته للحكم، ولكن تاريخ العراق يؤشر أن جميع من ادعى المعارضة، وقف مواقف فيها تفريط بمصالح العراق وبما يخدم أطرافا خارجية.
لكن ما يسمى بالمعارضات الإسلامية “كل الفصائل الشيعية” مثل حزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، تراصفت مع إيران بمواقف متطابقة بعد وصول الخميني إلى الحكم عام 1979، ونبذت خلافاتها البينية العميقة، وتماهت مع ولاية الفقيه وجندت قواها البشرية كمتطوعين للقتال مع الحرس الثوري ضد العراق في حرب الثماني سنوات، أو جندت مهاراتها الإعلامية في عمل ثقافي وإعلامي منسق في الصحافة التي كانت إيران تمولها وتشرف عليها والموجهة ضد العراق، فهل يمكن أن نطلق على هذه القوى اسم معارضة، ولا يقل الحزب الإسلامي الذي أسسه نعمان عبد الرزاق السامرائي عام 1960 بإجازة من حكومة اللواء الركن عبد الكريم قاسم، ثم تناوب على زعامة الحزب المذكور أشخاص لم يتصرفوا يوما واحدا كمعارضة وطنية، بل كانوا على الدوام جزءً من مشروع تدمير العراق، وآخر محطات الحزب ضلوعه في مخطط غزو العراق واحتلاله من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، بحيث شارك الحزب بفعالية في مؤتمر لندن على الرغم من أنه يحاول أن يغسل يديه مما لحق به من عار من تلك المشاركة المشينة، وحاول أن يلقي بتبعاتها على إياد صالح مهدي السامرائي، الذي ظل متفاخراً بعلاقة الحزب المتصلة مع إيران.
لم يعرف العالم معارضة عاشت التجربة التي عاشتها ما تسمى بالمعارضة العراقية، عندما كانت تتصدى بقوة لأية فكرة لتخفيف الحصار الظالم الذي عاش العراق تحت وطأته نحو 13 عاما، وكانت تجاهر بذلك وتفاخر به، لتقدمه عربون صدق ووفاء للمخابرات الدولية التي تعمل بأمرتها، كانت رموزها تجوب الدول وتحذر من أن أي تخفيف للحصار الخانق، سيؤدي إلى كسر “عزلة نظام صدام حسين”، فهل أخطأنا في تعاملنا كنظام وطني مع تلك المعارضة العميلة؟ وخاصة في مجال إصدار قرارات العفو السياسي المتتالية، والتي أساء العملاء تفسير دوافعها، بأنها دليل على الضعف وليس الاقتدار السياسي.
غالب الظن، أننا كنا بأمس الحاجة لإعادة نظر شاملة بالمناهج التربوية؟ التي يجب أن تركز على بناء الإنسان على أسس قوية جديدة، كي نبني مجتمعا واعياً يعرف حقوقه وواجباته، والحدود الفاصلة بينهما، ويمّيز بين نظام الحكم والوطن، وعلى استعداد للتضحية من أجل وطنه، ولا يسأل هل هو على خطأ أم على صواب، مع تأكيد مركزي أن الوطن على حق على الدوام.
وأخيرا، هل يمكن أن نقارن بين هذه المعارضة التي لا يليق بها إلا وصف العميلة، كما وصفها الاستاذ طارق عزيز ذات مرة، وبين المعارضة الإيرانية التي تنتشر في كثير من بلدان الغرب لاسيما في الولايات المتحدة؟ بحجة أنهم من أتباع نظام الشاه، وأنهم مضطهدون في بلدهم لأنهم ضد نظام الحكم الحالي في طهران، وربما في هذا الوصف كثير من الصحة، لكن هؤلاء يستميتون في خدمة الدولة الإيرانية بصرف النظر عمن يحكم فيها، وعن موقفهم المعلن من نظام الحكم فيها، ولعل في كثير من الصفقات التي تورط فيها إيرانيون في الولايات المتحدة وأوربا، وخاصة لتصدير معدات تخدم تطوير المشروع النووي الإيراني، مما عرّضهم للمساءلة القانونية، ما يصلح أن يكون درسا تربويا لكل من يحاول أن يركب موجة معارضة نظام الحكم القائم في بلده.
وفي ختام المقال أذكّر بأن نابليون عندما استقبل الضابط النمساوي الذي ساعد الجيش الفرنسي في احتلال النمسا، رفض مصافحته وألقى إليه بكيس الدراهم ثمنا لخيانته.
وهناك مقولة مشهورة لهتلر يقول فيها ….
أحقر الناس عندي من ساعدني على احتلال بلاده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى