مقالات

الفكر والفيزياء كأداتين وآلتين للتغيير الحضاري

د. محمد القطاونة

أستاذ العقيدة والفلسفة
عرض مقالات الكاتب


قبل الحديث عن فيزياء الفكر علينا أن نطرح سؤالاً كمقدمة في الفكر والفيزياء ونقول لماذا فيزيائية الفكر والحاجة الى استدعاءاها كأده من أدوات المعرفة وتداولها، وهذا السؤال يقودنا الى تفكيك تلك العلاقة بين الفيزياء من جانب وبين الفكر من جانب آخر وانعكاس كل منها على الآخر. وإذا اتينا على الفيزياء نجد أن نشأة الفيزياء هي نتيجة تساؤلات (ومحاولات تفكير) بدأ الانسان في طرحها حول ظواهر الكون وتفسيراته، ولكن ليس بالطريقة التي اعتاد عليها الإنسان حين يُسلم بإجابات سهلة بداهية جاءت إما عن طريق البيئة التي تحيط به أو عن طريق السلطة المعرفية المهيمنة أحيانناً، دون الفحص والتمحيص والتجربة، فالفيزياء في نشأتها هي محاولات التفكير العميق فيما لم يفكر فيه، فهي تقوم على الاستفزاز الذي يؤرق العقل والفكر، وشأنها بذلك شأن الفلسفة ( العقلية) المبنية على التساؤلات المعرفية حول الوجود بالطرق النظرية، فالفلسفة التي تمثل الفكر المعمق والفيزياء هما البحث المعرفي في الوجود وكلاهما استفزاز للعقل للبحث عن جملة التساؤلات التي تؤرق العقل، فالفيزياء والفلسفة تخوضان معركتهما ضد المسلَّمات. وهذا الانسجام بين الفيزياء والفلسفة في النشأة والتكوين ليس خاصاً او محدداً بعصر من العصور أو مرحلة تاريخية فهي ثنائية متجددة في كل مرحلة وزمن تاريخي، فالفيزياء والفلسفة ذات طابعا متجدد بحسب التحديات والتساؤلات المتجددة في كل عصر ومرحلة تاريخية، وإن من إشكاليات العلم الحديث هو الوقف على بعض النظريات الفلسفية والفيزيائية القديمة دون اعمال العقل فيها مجددا وهذا من شأنه أن يفقد هذه الأدوات وجودها ومهمتها، وهذا من أكبر العقبات التي ينتج عنها تباطؤ الفعل المعرفي، إنها العقبة المعلوماتية كما يُسمِّيها غاستون باشلار. وعندما يُبتلى العلماء بهذه الرتابة، وتذوي فيهم روح التساؤل والشك، ويطمئنون حدَّ اليقين لنظريات عصرهم، فإنهم يتحولون إلى عقبة تقف سدا أمام المعرفة يقول غاستون باشلار في كتابه تكوين العقل العلمي “يُمكن لعادات فكرية كانت مجدية أن تصبح معيقة للبحث… إن الرجال العظماء مفيدون للعلم في النصف الأول من حياتهم، مضرون في النصف الثاني… ثم يأتي حين يكون فيه العقل مُحبًّا لما يؤكد معرفته أكثر مما يناقضها، ومحبًّا للأجوبة أكثر من الأسئلة. عندئذ تسود الغريزة المحافظة، ويتوقف التطور الروحاني”.
هذه المقدمة تقودنا الى التأسيس للفكر والفيزياء كأداتين وآلتين للتغيير الحضاري والمعرفي واستفادة كل منهما للآخر، وانطلاقا من الموقع المعرفي للكاتب فإنه يريد الاستفادة من قوانين الفيزياء والتي تمثل في حقيقتها سنن كونية تعمل على تطويع الفضاء الكوني لخدمة الانسان والكون، فيمكن الاستفادة منها واسقاطها على النماذج الفكرية المتقابلة للفيزياء، وكما أن الفيزياء جاءت لتخليص النظريات العلمية من بعض الحتميات والمفاهيم المغلوطة في الفضاء المعرفي للفيزياء، فإن الوحي والفكر وقواعدهما في التفكير جاءا لتخليص النظريات والمسلمات الفكرية الحتمية وخلخلتها في الفضاء المعرفي للفكر. اذن نحن بصدد استخدام قواعد الفيزياء في الفكر وتطويعها في عالم الأفكار والقيم والمثُل، وأيضا استخدامها في التغيير والبناء الحضاري فكما هو دورها في التطويع المادي أيضا. فإذا كان كل قانون يفرض على العقل نوعا من الحتمية تقيد تصرفاته في حدود القانون العقلي، فإن قانون الجاذبية في الفيزياء لطالما قيد العقل بحتمية التنقل جواً، ولم يتخلص من هذه الحتمية الانسان بإلغاء القوانين، ولكن بالتعامل مع شروط الأزلية بوسائل جديدة تجعله يتجاوز ويتفوق على القانون من خلال التنقل بوسائل قادرة على تجاوز أو تخفيف حدة القانون وعقباته، من خلال الطائرات العابره للقارات والمكوك الفضائي العابر للأرض برمتها. وهذا المعنى يعطينا فهماً عميقاً بأن القوانين في الطبيعة لا ينصب أمام الانسان الدائب استحالة مطلقة، وانما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهاداً جديداً للتخلص من سببيه ضيقة النطاق.
وخذ التاريخ وقوانينه مثلا على ذلك، فمن يؤمن بمراح التاريخ مثله قد تستعصي عليه فكرة تطويع التاريخ لمبدأ التغيير، مع هذا فهو يحاول تخليص مفهوم التغيير الاجتماعي من قيود السببية المقيدة، كما تربط النظرة الشائعة عند بعض المؤرخين، الذين يرون أن الأشياء في التاريخ تسير طبقاً لسببية مرحلية والأشياء تسير فعلا كذلك وان تركت لشأنها، وبذلك تتغير وجهة النظر في سير التاريخ، إذ أن المراحل التي تتقبل أو لا تتقبل التغيير حسب طبيعتها، تصبح مراحل قابلة كلها للتغير، لأن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختياراً يتقرر في أعماق النفوس . هذا الحوار بين الفكر والفيزياء يستدعي الوحي كأداة في المعرفة والتوجيه المعرفي، فيقول الله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” فهنا نحن أمام قاعدة في التغيير الكوني وتصب في السياق ذاته، فالتغيير هو انطلاق من الانسان وحركته في الوجود وليس انعكاس الوجود على الانسان بقوانينه اللاحتمية، فهذه الآية ترى بأن مناط التغيير وصاحب القدرة على التغلب على هذه القوانين هو الانسان ذاته إذا تحققت الرغبة أولا ثم الأدوات المعرفية والمادية الرافعة لذلك، فالوحي يؤكد غلبة الانسان على القانون وتجاوزه إياها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى