مقالات

الفرق الغالية ومنهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الإمام الغزالي في ساحة الخلاف الفقهي والعقدي

د. محمد القطاونة

أستاذ العقيدة والفلسفة
عرض مقالات الكاتب


إن من أهم المسائل التي يغفل عنها المشتغلين بالساحة الإسلامية عدم التمييز بين المسائل الفقهية والمسائل العقدية وعدم تطبيق فقه الأولويات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجد إشكالية الغلو في التصور والتطبيق، لذلك بين الغزالي مسألة في غاية الأهمية في هذا الباب “التمييز بين منهج الاحتساب في المسائل العقدية والمسائل الفقهية، في ساحة الخلاف الفقهي أو العقدي.
يقول الإمام الغزالي: “فإن قلت إذا كان لا يُعترض على الحنفي في النكاح بلا ولي لأنه يرى أنه حق فينبغي أن لا يُعترض على المعتزلي في قوله: إن الله لا يُرى؟ وقوله: إن الخير من الله والشر ليس من الله؟ وقوله: كلام الله مخلوق؟ ولا على الحشوي في قوله: إن الله تعالى جسم؟ بل لا ينبغي أن يعترض على الفلسفي في قوله: الأجساد لا تُبعث وإنما تبعث النفوس، لأن هؤلاء أيضًا أدى اجتهادهم إلى ما قالوه وهم يظنون أن ذلك هو الحق. فان قلت: ببطلان مذهب هؤلاء ظاهر فبطلان مذهب من يخالف نص الحديث الصحيح أيضًا ظاهر، وكما ثبت بظواهر النصوص أن الله تعالى يرى والمعتزلي ينكرها بالتأويل فكذلك ثبت بظواهر النصوص مسائل خالف فيها الحنفي كمسألة النكاح بلا ولي ومسألة شفعة الجوار ونظائرها؟ فاعلم أن المسائل تنقسم إلى ما يتُصور أن يقال فيه: كل مجتهد مصيب. وهي أحكام الأفعال في الحل والحرمة وذلك هو الذي لا يُعترض على المجتهدين فيه إذا لم يعلم خطؤهم قطعًا بل ظنًا، وإلى ما لا يتصور أن يكون المصيب فيه إلا واحدًا كمسألة الرؤيا والقدر وقدم الكلام ونفي الصورة والجسمية على الله تعالى فهذا مما يعلم خطأ المخطئ فيه قطعًا ولا يبقى لخطئه الذي هو جهل محض وجه، فإذن البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها وتنكر على المبتدعين بدعهم وإن اعتقدوا أنها الحق، كما يرد على اليهود والنصارى كفرهم وإن كانوا يعتقدون أن ذلك حق لأن خطأهم معلوم على القطع بخلاف الخطأ في مظان الاجتهاد”[ ].
أمام هذا النص نجد ضوابط جمة في هذا الباب ومنها التمييز بين منهج الاحتساب في المسائل العقدية عن المسائل الفقهية ومما يسع الخلاف فيه وما يكون فيه الخلاف معتبرًا، وبين المسائل العقدية مما لا يتصور أن يكون للمصيب فيه دليل.
ومن المسائل التي وجب الالتفات اليها في هذا الجانب فقه الأوليات كمنهج لا تراعيه الفرق الغالية،
يقول الشهرستاني: (اجتمعت الأزارقة من الخوارج، أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة، خرج به عن الإسلام جملة، ويكون مخلدًا في النار مع سائر الكفار، واستدلوا بكفر إبليس لعنه الله، وقالوا: ما ارتكب إلا كبيرة، حيث أمر بالسجود لأدم فامتنع، وإلا فهو عارف بوحدانية الله)[ ].هذه الإشكالية لديهم في عدم التمييز بين الخطأ والخطيئة جعلهم يخطئون في منهج الحسبة وتطبيقاتها على أرض الواقع، فالإشكالية تكمن في التنظير للحسبة عند المعتزلة والخوارج بل لم يكتفوا فهذا فكفروا عليًا -رضي الله عنه- لمجرد قبوله للتحكيم وهذا خلل آخر لعدم التفريق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع قال عمران بن حطان[ ]. وهو مفتي الخوارج وزادها وشاعرها الأكبر في تعظيمه لعمل ابن ملجم لعنه الله في قتل علي -رضي الله عنه- قال عنه:
يا ضربة من منيب ما أراد بها
إني لأذكره يومًا فأحسبه
***
*** إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
أوفى البرية عند الله ميزانا[ ]

ولم يكتفوا في حسبتهم على علي -رضي الله عنه- بتكفيره، يقول الشهرستاني: (وعلى هذه البدعة مضت الأزارقة وزادوا عليها تكفير عثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وعبدالله بن عباس -رضي الله عنهم جميعًا- وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في النار)[ ].وكفروا القعدة ومن لم يهاجر إليهم، وأباحوا قتل أطفال المخالفين، والنسوان، وتجويزهم أن يبعث الله تعالى نبيًا يعلم أنه يكفر بعد نبوته، وجوزوا الكبائر والصغائر على الأنبياء عليهم السلام فهي كفر)[ ].
وإذا أردنا تقييم منهج الخوارج في الحسبة وخاصة المسائل العقدية نستطيع القول إن الخوارج غالوا في تطبيق هذا الواجب وتحقيقه والغلو في استخدام السيف في إقامته بناءً على تكفير المجتمعات والأفراد، وتعدوا الواجب والغرض الذي شرع له، فطبقوه في كل صغيرة وكبيرة فصار علامة مميزة لهم، يقول يوليوس فلهوزن: (فالله يطلب من المسلمين ألا يسكتوا إذا رأوا منكرًا على الأرض، فهم لا يقصرون على أنفسهم فعل الخيرات وترك الشر، بل عليهم أن يعملوا حتى يكون الأمر كذلك في كل مكان، وعند سائر الناس،… وهذا المبدأ عام، لكن تحقيقه بمناسبة وغير مناسبة كان علامة دالة على الخوارج)
وقول “فلهوزن” أن تحقيقه بمناسبة وغير مناسبة كدلالة على الخوارج هو عدم وجود ضوابط عند الخوارج في مسألة الحسبة ألبته.فتغيير المنكر عند الخوارج أصبح له بعد آخر لما هو عند أهل السنة والجماعة، مما خرج كونه أمرًا دينيًا يحمل مقاصد عظيمة لعمارة الأرض، أصبح أداة أصيلة ووسيلة وحيدة لتحقيق مطالب الخوارج وفهمهم للإسلام وجعلوا القوة، قوة السيف أداة أصيلة وسبيلًا رئيسيا وسبيلًا وحيدًا فيه تغير الجور والفساد[ ].وهذه المصالح التي شرع من أجلها نظام الحسبة، لا اعتبار لها عندهم، وبهذا الفهم انتقل نظام الحسبة للمسلمين في نظرهم نظام الحسبة لغير المسلمين، أي طبقوا نظم الحسبة على غير المسلمين، على المسلمين أنفسهم، بل ضد أهل السنة والجماعة وعامة المسلمين. ويرون فيهم أنهم كفار، بل أشد كفرًا من النصارى واليهود والمجوس، ويحسبون قتال عدوهم هذا داخلي أهم الفروض. فهم يقولون عن أنفسهم أنهم وحدهم المسلمون الحقيقيون، ولا يطلق اسم المسلم على غيرهم)[ ].
نستطيع أن نقول إن الخوارج اتخذوا منهجًا جديدًا في منظومة الحسبة في الإسلام شذوا فيها عن منهج أهل السنة والجماعة، وذلك بسبب عدم تمييزهم بين مسائل الفروع والأصول والذي انبنى عليه خلل تطبيق منظومة الحسبة بضوابطها، كما أقرها الوحي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى