مقالات

الخروج من قصور آيات الله 32

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب


طيلة المدة التي أعقبت عودتي من الأسر، كنت أظهر خلالها في الفضائيات العربية كمحلل سياسي قبل الاحتلال الأمريكي للعراق، كنت حريصا على أن أودي دوري الوطني بما أمتلك من قدرات مهنية.
في أواخر عام 2002 وبدايات عام 2003، تصاعدت التهديدات الأمريكية على نحو متسارع، يفوق القدرة على الغوص في أعماق النوايا الأمريكية للتعرف على ماهية الخطوة التالية.
ولم يخرج المحللون السياسيون والاستراتيجيون عن ذلك التصور، فقد استعصى على الجميع، التخيل والإمساك بخيوط الخطط الأمريكية المستلة من تاريخ الحروب الصليبية، كما أعلن ذلك جورج بوش بكل وقاحة، لم يتمكن أحد من رسم استنتاجات تساعد على بلورة رؤيا ناضجة ووضعها أمام القيادة العراقية، بل إن كثيرا من المحللين السياسيين الذين كانوا يشاركون في تغطية أحداث العراق، كانوا حريصين كثيرا، على ألا يتسببوا في إثارة الرعب الجمعي في العراق، شعورا منهم بالتعاطف مع شعب شقيق يجتاز نفقاً معتماً، فضلا عن أن بعضهم ربما فكر أن موقفاً كهذا قد يجلب لهم متاعب هم في غنى عنها، لاسيما وأن الأعصاب كانت في أقصى درجات الشدّ السياسي، ومع ذلك فإن التصريحات لن تغير شيئا من واقع الظرف القائم، فالضربة قادمة لا محال وهي واضحة جلية في الأفق، ومن يحضّر لها ليس بحاجة إلى الاختباء وراء عبارات غامضة للتغطية على نواياه الحقيقية.
كانت الولايات المتحدة تُجاهر بتهديداتها وتُعلن عن تحريك قواتها وتعرضها على شبكات التلفزيون، لأنها تريد إحداث صدمة على مستوى الشارع العراقي، تمهد لجنودها الوصول إلى أهدافهم بأقل قدر من الخسائر.
العدو يعرف أن مباغتته لا قيمة لها، فالعراق حتى إذا جاءه المحتلون جهارا نهارا، لن يغير شيئا من المعادلة، بسبب الفارق الهائل في حجم القوة النارية لدى الطرفين، وتآكل بنية العراق الدفاعية نتيجة الحصار الطويل، الذي قَطع عليه حتى قلم الرصاص، فكيف بأسلحة الدفاع الجوي أو الدروع أو مقاومة الدروع.
كان السؤال المتداول على ألسنة كبار المسؤولين هو، ما هو المدى الذي ستصل إليه قوات الغزو في تقدمها؟
هذا هو السؤال الذي ظل يتردد على ألسنة العراقيين مسؤولين ومواطنين، حرصاً على وطنهم من دمار شامل جديد، قد يعود بهم إلى عهود السيطرة الاستعمارية، أو يجبرهم على البدء من نقطة الصفر في إعادة بناء ما ستدمره العمليات الحربية الوحشية، التي جربوا آثارها في المرات السابقة، إذا ما افترضنا أن هدف المُخطِط العسكري الأمريكي، هو ضربات من طراز الضربات التي عاش العراق بعض ويلاتها في ظروف في عقد التسعينيات.
أذكر أنني استدعيت مرة إلى قناة الجزيرة للحديث عن احتمالات الحرب قبل بدئها، وجدت هناك عدة محللين سياسيين عراقيين وعربا ينتظرون أدوارهم للظهور في القناة، ويبدو أن الجزيرة وفي خطة استباقية لما سيحصل، حشدت قدراتها الفنية وهيأت عددا من المراسلين المتخصصين في تغطية المعارك الكبيرة، وقبل أن أتوجه إلى الأستوديو كنت جالسا مع السيد محمد خير البوريني، أحد مراسلي الجزيرة الاكفاء والذين تم إرسالهم للعراق، بعد أن استكملت القوات الأمريكية عملية الحشد، ولم يبق إلا تحديد ساعة الصفر وإطلاق القذيفة الأولى، سألني السيد البوريني باعتباري عراقيا، ماذا تقول هل أن الحرب واقعة؟ كنت أعرف أنه يعرف أكثر مني جواب سؤاله، ولكنني قلت من دون أدنى تردد “إن الحرب واقعة قطعا ولا توجد فرصة لتلافيها، فالولايات المتحدة ومن معها من الدول الكبرى، وحتى الدول التي لا يمكن أن تُرى على الخارطة إلا بالعدسة المكبرة، والتي أرسلت جنديا أو اثنين لمجرد أن تُرضي الثور الأمريكي الهائج، عسى أن تُمنح شيئا من فُتات الكعكة العراقية، هذا الحشد الحربي الهائل الذي جاء إلى المنطقة، لم يكن ليفكر بأنه يفعل ذلك لمجرد توجيه إنذار إلى العراق أو إخافته، ثم يُعيد تلك القوات إلى قواعدها في أوربا والولايات المتحدة”.
وأضفت “لقد حركت الولايات المتحدة، الفرقة 101 المحمولة جواً، وهذه الفرقة لا تتحرك هي أو الفرقة 82 المحمولة جواً إلا عندما تصل الخطط الحربية الأمريكية إلى مرحلة التنفيذ”، أجاب السيد البوريني بعد أن سمع مني هذا الجواب نعم ما تقوله صحيح وهو معروف من تجارب سابقة، ولكن هل ستقول ذلك في اللقاء إذا سُئلتَ؟ قلت ليس من واجبي أن أنشر الرعب والقلق في أوساط الشعب العراقي الذي يعيش ظرفا صعبا، ولكنني أيضا لن أخاتل وأكذب على العراقيين وأسهم في تضليلهم، ولهذا فمهمتي صعبة ولا شك في ذلك، ولكنني سأبذل جهدي لأخرج منها من دون خسائر، بعد قليل أبلغني الفنيون بالتوجه إلى الأستوديو، لضبط الصورة والصوت مع الدوحة، عندما بدأت النشرة لم يرد هذا السؤال من بين ما وجه إليّ من أسئلة، ومر اللقاء من دون أي حرج.
لكن عدم طرح السؤال عليّ لن يغير من الواقع شيئا، ولم يقلص من الجهد الحربي للولايات المتحدة وبريطانيا ودول أعلنت انضمامها إلى التحالف الجديد لغزو العراق واحتلاله، وتواصل تدفق القوات الأمريكية والبريطانية ومن دول أخرى وتحشدت في الكويت، وتم استنفار القواعد الجوية الأمريكية في قطر والسعودية والبحرية في البحرين، بحيث بات من المسلمات بأن هدف الحرب هو غزو العراق واحتلاله، انطلاقا من مشيخة الكويت.
وبدأت ساعة الصفر للعدوان الهمجي الذي أُلقيت فيه على العراق خلال أيام معدودة من القنابل، ما يوازي ما ألقي في الحرب العالمية الثانية في خمس سنين، ليعكس مدى حقد اليمين المتصهين الجديد في الولايات المتحدة، مدعوما من إيران وبعض الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية.
بعد أن شعرت الإدارة الأمريكية أنها تمكنت من بسط سيطرتها على العراق، وبعد أن سادت في واشنطن وعواصم دول كبيرة وصغيرة، أجواء احتفالية عالية الثقة بأن الحرب، قد وضعت أوزارها، وأن العراقيين انقسموا إلى ثلاثة أطراف:
طرف رحب بالغزو واعتقد بأن الاحتلال سيجلب له العسل واللبن والخبز والسيارة الأمريكية الحديثة الفارهة والبيت السعيد، وربما سيمكنه من الحصول على الزوجة الحسناء، وستتدفق عليه الدولارات بلا حساب، بعد أن قدم للغزاة كل ما في طاقته من جهد ومذلة وتعاون من أجل تحقيق أهدافهم.
وطرف صامت ومغلوب على أمره، وأجبرته القوة العسكرية الهائلة للغزاة على الرضوخ والإذعان للأمر الواقع، من دون أن يشعر بالتعاطف مع الوضع الجديد، ولكنه ينتظر الآتي من الأيام وما تحمله من متغيرات، فالترقب عند هذا الطرف هو سيد الموقف، فلا يبدي تعاطفا مع الغزاة فيُحسب عليه عارا لن تمحوه الأيام، ولا يبدي تأسفا على ما كان فيه من أمن، مع ضغوط الحصار الاقتصادي الظالم على بلده والذي كان المحتلون هم من فرضه على وطنه، بقي صامتا وينتظر فرصة ما قد يحصد من المكاسب إن انتظر صامتا، فلا يجلب على نفسه متاعب الجهر بمعارضة مستقبل غامض، ولا يتحسر على ماضٍ حسبه مضى ولن يعود.
وطرف متذمر وناقم على المحتلين وأعوانهم وعلى الصامتين، لأنهم أبناء التجربة الوطنية الممتدة إلى أعماق تاريخ العراق، وهذا الطرف هو الوحيد الذي حافظ على التطابق بين الجوهر الذي يختزنه الإنسان في أعماقه، وبين المظهر الذي لا يستطيع التغطية عليه حتى لو أراد ذلك في لحظة حساب الموقف السياسي المطلوب التعاطي معه.
هذا الطرف على قلة حجمه قياسا بالطرفين الآخرين، يعيش شعورا عالي الثقة بأنه هو الأوسع وهو الأثبت على الطريق، وأن الآخرين لا بد أن يأتي الوقت الذي يشعرون بالعار على ضعفهم وما فرطوا فيه من جنب الله والوطن والأرض والعرض، أو بالندم على أقل تقدير، وهذا الطرف سيتحين الفرصة للانقضاض على قوات العدو بل بادر بذلك من أول يوم شعر فيه بأنه قد خسر نفسه بعد أن خسر وطنه، ليوصلها إلى قناعة مؤكدة، بأن ثمن بقائها باهظ التكاليف، وأن الأمر ليس نزهة محسوبة التكاليف أو مناورة بالذخيرة الحية، لم تجد غير ساحة العراق لتجريها، وسط شعور عالٍ بالزهو والتفوق، يؤمن إيمانا راسخا بأن مقاومة الأعداء، باب من أبواب الجهاد في سبيل الله، تأسيساً على قول سيدنا وقائدنا الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم (من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد..)، فها هو يدافع عن الثلاثة في وقت واحد واحد.
بعد وقت قصير من الغزو، بدأت نعوش جنود الاحتلال الملفوفة بأعلام بلدانهم تصل تباعا وسط تعتيم فائق الشدة، خشية من انتقال المعركة من شوارع بغداد والفلوجة ومثلث الموت في حزام بغداد، وصلاح الدين، إلى شوارع مدن دول الاحتلال، فتعيد إلى الذاكرة الجمعية تاريخ الهزائم التي مُنيت بها قواتها في آسيا وخاصة الهند الصينية، وفي أفريقيا، لأن الهزيمة تبدأ من هناك.
حاول المحتلون تدارك ما يمكن تداركه قبل أن يشتد عود المقاومة، وتتحول إلى حقيقة وطنية شاملة، فتفتقت عقولهم عن محاولة حصرها في منطقة جغرافية واحدة وبيئة شعبية من لون واحد، حققوا في هذا نجاحا محدودا ومؤقت، اعتمادا على ما لدى من جاء مع الاحتلال من رصيد في بعض الأوساط السهلة التجنيد، من مراجع سياسية ودينية تستطيع التأثير على بيئتها، ولكن هذا الخيار لم يصمد طويلا مع استرداد الوعي الوطني لدى قطاعات واسعة من عراقيين ربما نجحت عمليات تخديرهم تحت شعارات المظلومية، والانتقال إلى دور الفاعل الرئيس أو الوحيد في رسم السياسات العراقية الجديدة.
وأنشأ التحالف سلطة ائتلاف مؤقتة وجعل مقرها في منطقة محصنة أطلق عليها اسم المنطقة الخضراء، وكانت تلك السلطة مطلقة الصلاحيات، وخولت نفسها السيطرة على السلطات التنفيذية، التشريعية والقضائية على مدى فترة إدارتها ابتداءً من تاريخ إنشائها في نيسان 2003.
وبدأت سلطة الائتلاف المؤقتة، برئاسة جاي غارنر، وهو ضابط أمريكي سابق، واستمر في منصبه حتى 11 أيار 2003، عندما عزله الرئيس بوش الابن، وعين بدلا منه بول بريمر رئيسا لها، وفي 16 أيار 2003 وهو اليوم الأول لبول بريمر، في الإدارة الجديدة، باشر خطة تدمير بنية الدولة العراقية من ركائزها، فقد أصدر الأمر التنفيذي رقم 1 باجتثاث حزب البعث العربي الاشتراكي، حتى أن بعض قادة الجيش الذي تعاملوا مع الملف العراقي المعقد أصلا، بواقعية أكبر مثل الجنرال الأمريكي ريكاردو سانشيز وصف القرار بأنه “فشل كارثي”.
واستمر بول بريمر في عمله كحاكم مطلق الصلاحيات في العراق، حتى حل سلطة الائتلاف المؤقتة في أواخر حزيران 2004، بعد أن حل الجيش العراقي ووزارة الإعلام وجهاز المخابرات والأجهزة الأمنية الأخرى.
الظرف الأمني المرتبك الذي نشأ بعد الاحتلال، واشتداد المقاومة الوطنية المسلحة، التي كانت ترسل كل شهر مئات الجثث من قتلى الاحتلال إلى بلدانهم، وتعثر كل محاولات تدجين العراقيين، وتقلبت الخيارات الأمريكية وآخر المطاف استقرت على تسليم السلطة لقوى تحمل موروثا عاليا من الكراهية والحقد على العراق والعروبة وكل ما بناه العراقيون من قواعد اقتصادية وعلمية.
ونتيجة التطورات الميدانية المتسارعة، وتزايد أعداد القتلى الأمريكان وخروج المقاومة عن أية خطة للسيطرة،، بادرت سلطة الاحتلال إلى تشكيل مجلس الحكم المؤقت في 13 تموز 2003 وتألف من 25 عضوا 13 منهم للشيعة حتى أن سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي قبل على نفسه أن يُحسب على المكون الشيعي، تم توزيع المقاعد الـ 12 الأخرى على السنة من العرب والأكراد والتركمان والأقليات الأخرى، وقد اختار هذا المجلس أسلوبا مبتكرا في رئاسته، فقد اعتمد الرئاسة الدورية لأعضائه وحسب حروف أسماء أعضائه الهجائية، ويقول بول بريمر إنه عندما عزم على لقاء أعضاء مجلس الحكم المذكور، دارت في رأسه أفكار شتى عما سيسمع من أطروحات سياسية أو أمنية أو مقترحات تتعلق بتغيير حال العراق بعد الاحتلال، ولكنه أصيب بالذهول لأن أعضاء المجلس، لم ينبسوا ببنت شفة، عن ظروف العراق بعد الاحتلال، وكل الذي طالبوا به هو زيادة مرتباتهم وتحسين أوضاعهم المعيشية وزيادة تخصيصاتهم المالية للبنزين لتسهيل تنقلهم.
وعلى الرغم من هذا التصور السيء الذي حمله بريمر عن مجلس الحكم الذي أسسه، فقد أبقى عليه شاهد زور على ما ارتكب هو وقوات بلاده من فظائع، ومنحه فرصة للعيش بصلاحيات مدروسة من 14 تموز 2003 وهو يوم مباشرته عمله رسميا، ولغاية 1 حزيران 2004 م، حيث تم حله لتحل الحكومة العراقية المؤقتة محله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى