مقالات

مارثون “العزاء” في الشام

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

يموت المرء، ويدخل قبره، وتنتهي صلته بالدنيا، لتبدأ صلته بالآخرة. يلبس أهل الميت السواد، ويعودون من المقبرة بعد بِدع مراسم الدفن، فيتوازعون الأعمال. فيتكلف بعضهم بإعداد (النعوة) والنعوة هي خطاب التأبين أو” الخبر العاجل”، تكتب بها معلومات العائلة والسجل المدني للمتوفى.
ولا بد طبعاً من حفظ الألقاب والتسلسل المنطقي برصف الأسماء والالتزام التام بذكر أهل الفقيد، وذويه ومناصبهم وشهاداتهم ، وإلا كانت فتنة عظيمة ومعارك وقطيعة رحم .
ولا بد من المبالغة في الألقاب والشطط في وصف المرحوم بأهم الصفات وأكملها، ويكتب اسمه بعد كلمة (المرحوم) ! وهو تأول على الله، وما أدرانا أنه مرحوم؟ ولعله يكون النافق، أو الهالك، أو غير ذلك، فيلطفونها مراعاة للناقدين، ويكتبون المرحوم بإذن الله تعالى! وهذا أيضا تأول، ولكن يمكن اعتباره من باب الرجاء في الله.
ويكتبون (الحاج)! إن كان (حاجاً) أو الدكتور، والمربي والفاضل، وكل ذلك يكتب بالبنط العريض.
أو يفتتحونها بكتابة الأمة الإسلامية، والعالم العربي، وأهل الفن والثقافة، وأهل الحل والعقد، ويكادون أن يكتبوا أهل المجرات السماوية وملوك الجن.. ، ينعون إليكم ببالغ الأسى والحزن والفقد… فقيدهم فلان.
ثم توزع “النعوة” وتلصق لتملأ بها أبواب المساجد والجدران والأعمدة لحشد أكبر عدد من المعزين، في الأماكن المعروف بها وغير المعروف بها، وكأنها دعوة فرح، فالناس عندنا يتباهون ويتفاخرون بكثرة المعزين وأهميتهم.
ثم ينتقل الجمع إلى الطعام، بعد مشقة الدفن حيث تمد الموائد ويحضرها أهل المتوفى والأصدقاء، وجمّ من (أهل السلتة ) !
ولمن لا يعرف أهل السلتة! هم طائفة من الفضوليين والفقراء والمتسولين، رزقهم من هذه المجالس، يقرأون النعوات المعلقة في الشوارع، فيتنادون إليها وهم لا يعرفون الميت ولا سمعوا به، ولا يعنيهم بشيء، ولا يهمهم إلا ملأ الكروش وأكل الطعام. وغالباً تصنع الأطعمة من مال الميت، وهو حرام شرعا؛ لأن ماله انتقل للورثة، وليس لأحدهم أن يتصرف به دون رضا الآخرين من الورثة، الذين يرضون استحياء، وهو أيضا حرام، لأن ما أخذ بسيف الحياء هو عند الله حرام.
والنعوة في الإسلام محرمة إن كان القصد منها الإشهار والرغبة في جمع الناس لمجرد الاشتهار
قال المنذري: كانت العرب إذا مات منهم شريف أو قتل بعثوا راكبا إلى القبائل ينعاه. وهذا النعي هو الذي نهى عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعن حذيفة بن اليمان قال: ( إذا مت فلا تؤذنوا بي، إني أخاف أن يكون نعيا، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن النعي)..
وأما لو كانت مجرد إعلام الناس والمحيط القريب في الوسط المعروف به ليعلموا بوفاته دون شطط فهو مطلوب، ووسائل التواصل اليوم أغنت عن ذلك، ومع ذلك يتم طباعة الأوراق مزيدا من البرستيج. وبعدها يجري العمل على التحضير لمجلس العزاء.. وهنا يأتي دور “أبو شادي بين الأيادي ” صاحب مكتب الخدمات التعزوية العابرة.
عنده تجد كل شيء! يستلم الميت من لحظة نفخ الروح الى اللحد ثمة الى لحظة تنفس الصعداء من أهل الميت نهاية ثالث يوم من التعزية، عنده الصُوان، والكراسي، والإذاعة، والقهوة المرة، والليمون الساخن، والكمون، والضيافة، والقارئ، وعريف الحفل، والمضيفين، والنائحات، وأناس يقفون الى جانب أهل الميت في حال غياب الأهل أو قلة عددهم، ليقفوا احتراما للداخل والخارج ويردون عليه عبارة شكر الله سعيكم ، وكله بأجره.
ولعامة الناس من الطبقة دون المتوسطة هناك قائمة أسعار تتفاوت بين الناس: القهوة المرة مع المضيفين مائتي دولار.
الصوان مع فرشه وتركيبه خمسمائة دولار، الكراسي مائة دولار. الضيافة والمواد مائتي دولار.
القارئ ستمائة دولار. وكما نعلم أنه لايجوز أخذ الأجرة على قراءة القران! ولكن لكل أمر حل وفتوى؛ فيعتبرون الأجر هو أجر الإذاعة ومكبرات الصوت، وطبعاً لو كان القارئ من المشاهير وقراء الطبقة الراقية فعليك أن تدفع الآلاف من الدولارات. عريف الحفل مائتي دولار. النائحات وجماعة شكر الله سعيكم أربعمائة دولار. الإنارة والإضاءة مائتي دولار.
أكثر من خمسة آلاف دولار إن نحن حسبنا الطعام يوم الدفن. وأما أصحاب الطبقة المخملية فعليك أن تضرب المبلغ بثلاثة الى عشرة أضعاف. ويزيد هؤلاء عليها ما يتبعها من طباعة مصاحف وكتب دينية، ويلصق عليها بوست كتب عليه، الفاتحة الى روح الفقيد. وتوزع مجانا. مع موائد الطعام الفاخرة وسرادقات الفواكه، لتبلغ التكلفة عشرات آلاف الدولارات. وهذه ليست مبالغات، حقيقة يعرفها كل أهل دمشق. هذا ولم نتكلم عما يتبعها من أجور المصور، ومصور الفيديو، وفريق المونتاج. والإخراج!! نعم لا تتعجبوا من ذلك فالحدث يستحق التوثيق، ولكي (لا أحد يجيب معدلهم بالعاطل) أي يتكلم عنهم بسوء وأنهم قصروا عن القيام بالواجب.
ثم يأتي المساء لتبدأ (الحفلة)!
يقف أهل المتوفى عند باب السرادق، أو الخيمة، وممكن الصالة، وهي شأن آخر فهي التي تبلغ أجرتها ألف دولار يومياً، تؤجر لثلاثة أيام متوالية. وإن كانت صالة أرستقراطية فعليك أن لا تتخيل المبلغ. كلما جاء رجل أو جماعة وقف الأهل له ترحيباً واحتراماً ثم يجلسون.
يبدأ القارئ بقراءة عشر من القرآن الكريم ولا مستمع له، والضجة تملأ المكان بسبب الأحاديث الجانبية، وجماعة الضيافة، وما يفعله أهل الميت، من إنزال الناس منازلهم، وجر الأغنياء وأصحاب النفوذ والمشاهير من أمام عامة الناس والسوقة والرعاع، كما يعتبرونهم، إلى صدر المجلس حيث الكراسي الفاخرة والطبقة الراقية، طبقة حتى في مجلس العزاء، وما يقوم به عريف الحفل من الترحيب بعلية القوم وشكر السفلة منهم، ويضفي عليهم بأوصاف أهل الواجب والترحيب، وكلما انتهى عشر خرج الجالسون مودعين ليدخل غيرهم.
وإذا حضر أحد العلماء قام ليتكلم عن مآثر المتوفى وفضائله ويمدح الميت وأهل الميت وينافقهم، ويثني عليهم بما (هم أهله)، وغالباً يغرقهم بالمدح الكاذب، والنفاق. وكأنه الأوصاف صدقات يتصدق بها على الناس لينال عندهم حظوة أو لمجرد المجاملة. واتفق أني سمعت شيخاً يثني على ميت كان قد نفق وهو خارج في عملية لتهريب الحشيش ولم يعرف القبلة يوما بأروع الأوصاف والمحامد والثناء حتى تمنيت أن أكون ذاك الميت.

وهنا أيضا يتنافس (شيوخ المندي) في الحضور والنفاق، ومن هو الأولى بالتقديم، وكم دقيقة سيتكلم، وإذا كان الميت فقيرا حتى إمام المسجد الراتب في الحي لا تراه، وإذا كان غنيا أو مسؤولا توافدوا من آخر الدنيا لحضور الحفل والقيام بالواجب الديني وأخذ الأجر كما يزعمون.
في الشام قلما تجد اختلاطا بين الجنسين فللنساء مجلس خاص يسمى العصرية، وله نفقاته الخاصة، وقلما ترى مظاهر التصوير والسيلفي مع المشاهير عموما ومشاهير التك توك واليوتيوب خصوصاً، ولكنه موجود في بعض الأرجاء حيث الاختلاط والتقبل ومصافحة الرجال للنساء والعورات. ثم يمضي اليوم الأول ليختتم بجملة من الأدعية والأناشيد والاهازيج. وربما الغناء عند البعض.
في مجالس العزاء عندنا، قلما تجد حرمة للموت، وحرمة للميت، ومتعظاً، أو باكياً، أو متفكراً، أو صادقاً في مجيئه، جلها مشاعر مزيفة، أفعال مصطنعة، حزن كاذب. اتعاظ مخادع.
الكثيرون يسلمون على بعضهم ويقبلون بعضهم ويصطفون إلى بعضهم كأنهم أحباب ، وهم أنفسهم من يسمون (الأقارب عقارب)، وقد يكون أحدهم قاطعا لرحمه منذ سنوات، كارها لإخوانه، آكلا لأموالهم، بينهم ما طرق الحداد، ولكن يجمعهم الموت، ليس خوفا من الله ورغبة في رضاه واتعاظا، بل خوفا من كلام الناس.
حدثني أحدهم وكان مما قال ( لم ألتق بأولاد عمي منذ وفاة أبيهم )، ولك أن تعلم أنه توفي قبل سنوات كثيرة.
حب المظاهر، حب التصدر، نفاق اجتماعي، كذب، معاصي، تشويش على القارئ، إسراف مبالغ فيه، عنصرية، طبقية، غيبة، الى آخر هذا الهطل.
التعزية مباحة، ومواساة أهل الميت سنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة، إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة )) وقال: ((اصنعوا لآل جعفر طعاما))، والتكاتف، والتعاضد، والتواصل، والتراحم مما أمر به الإسلام تخفيفاً عن المصاب وشد أزره.
لكن يمكن لكل ذلك أن يكون بمجرد المشاركة بدفن الميت، ومن فاته ذلك لظرف ألم به، يأتي إلى مجلس التعزية في بيت الميت إن كان من أهل الميت، وأما الآخرون فيعزيه من يلقاه في المسجد، أو الشارع، أو مكان العمل ،أو يرسل رسالة مكتوبة، أو مصورة، دون الحاجة لكل تلك المظاهر، والبدع والمنكرات، بل وحتى المحرمات منها، إذا وصلت لمعنى النياحة على الميت المنهي عنها، والتي تحصل كل تعزية، التي حولت التعازي الى مهرجانات وبرامج استعراض مواهب.
حضرت تعزية رأيت القراء الثلاثة يتباهون ويتسابقون وكأنهم في برنامج المواهب. من التباهي بالأصوات وعلوها وتنوعها ، والقراءة بالمقامات المختلفة، وتحية الناس له أثناء القراءة وكأنهم في حفل طرب. وانشغالهم بالقارئ عن المقروء.
ولم نتكلم عن عربة الميت وما يرافقها من مكبرات الصوت، والعربات المرافقة، وإكليل الزهور، وأثمان القبور، وهي مما يؤلف فيها مقالات، فقد بلغ ثمن بعض القبور في دمشق أن صارت – ذات حمق- أغلى من بيوت في بعض المناطق والدول، نعم أغلى من بعض البيوت. ولم نتكلم عن رخاميات القبور والكتابة عليها وتزيينها، وزخرفتها، وزراعة الورود، والأشجار.
ما هذا ؟ وأين وصلت الحال بنا ؟
كل هذا يجري دون مراقبة لله تعالى ومراعاة للشرع، نعم قد تجد منكِراً من بعض الشيوخ ولكن كأثريتهم يجاملون أهل المتوفى ويطبلون لهم، ويشاركون لتكون مشاركتهم كصك غفران وإباحة فعليه لما يفعله الناس. ولا يذكرهم أحد بأن هذا كله سيسأل عنه ويحاسب عليه المتوفى في قبره، وهذا يضره ولا ينفعه، وهو من البدع التي جاوزت حد الكراهة، ودخلت في حد التحريم. بدأت الأمور بانحرافات بسيطة ثم وسعها الناس حتى اتسع الخرق على الراقع ولعل بعض علماء السلف عندما ينكرون مثل هذا فهو من باب درء المفسدة الصغرى لكي لا تتسع الى كبرى.
يحصل في التعازي عندنا أنها حولها الى مهرجانات للخطابة، ومباراة لقراءة القرآن، ومسابقات تفاخر وتنافس. وفتح الباب لمنكرات لا آخر لها.
يجب على كل إنسان أن يكتب وصيته قبل موته ولا يبيتن إلا ووصيته تحت رأسه، وينهى عن كل هذه المخالفات يوم الدفن. أو جلها وإلا يكون أول المحاسبين عليها يوم لا ينفع مال ولابنون.
هذه الأموال الطائلة، لو جمعت في صندوق واستخدمت في أبواب نشر العلم، وتربية النشئ وإصلاح الأمة، وبناء المصانع، ورعاية الفقراء في مجتمع يأكل فيه كثيرون من القمامة وخاصة بعد الحرب، في مجتمع نسبة التعليم الحقيقي فيه خمسة من المائة، هذه الأموال التي لو جمعت لكانت أعظم ما ينفع المتوفى وصدقة جارية عنه وردءاً له من النار بحفر بئر أو بناء مسجد، أو تزويج شاب أو نحوه. ينفع الميت أن نصلي عليه، وندعو له، ونتصدق عنه، ونذكره بخير.
في الإسلام الجنازة والعزاء لنفع الأحياء لا للأموات، ينفعنا أن نتعظ بموته، وأن نعلم أننا واردوها، وأن القبر هو مسكننا جميعا، وأن الدنيا زائلة، وأن نعمر آخرتنا، ونراجع حساباتنا ونبكي على أنفسنا..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى