مقالات

الخروج من قصور آيات الله27

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب


دفعني الحنين للكتابة السياسية في الصحافة المطبوعة، لأنها أكثر ثباتا من حديث في فضائية أو عبر الإذاعة، سرعان ما ينتهي مفعوله مع أول ريح تمر عليه، فاخترت صحيفة الثورة أولاً لأنها صحيفة الحزب، ولأنها الصحيفة التي كنت أكتب قبل الأسر في صفحتها الثالثة، كتبت مقالاً مطولاً كعهدي في كتاباتي السابقة.
ذهبت مع أخي مأمون إلى مبنى الصحيفة، وسألت عن رئيس التحرير الشاعر سامي مهدي، استقبلني الرجل بحفاوةٍ شعرت أنه تكلّفها كثيرا، ربما تبادر إلى ذهني أنه كان مُحرجا من زيارتي له، فهو لا يعرف كيف عليه أن يتصرف مع أسير عائد من بلد عدو، خاض معه العراق حرباً ضروساً لمدة ثماني سنوات، وجرّع الخميني أثناءها كأس السم.
لم أشأ العودة في حديثي معه إلى ذكريات وجودنا معاً في جبل المشداخ في آذار 1982، حينما كان عضوا في الحزب، ووظيفياً كان يشغل وظيفة المدير العام لدائرة لشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والإعلام، وكان من المتطوعين إلى ألوية المهمات الخاصة، وكانت تربطنا رابطة مهنية إضافية، عندما كنا نعمل سوية في لجنةٍ يرأسها السيد لطيف الدليمي وزير الثقافة والإعلام رحمه الله، أثناء الحرب وكانت اللجنة تجتمع يومياً في مكتب الوزير، وتضم كلاً من السادة سامي أحمد الموصلي وحسن طوالبة وكذلك عبد الجبار محسن، وربما هناك آخرون لم أعد أذكرهم، ويكتب كل منا مقالة سياسية في حملة إعلامية منسقة لمواجهة الإعلام المضاد للحكم الوطني في ذلك الوقت داخليا وخارجيا، ويتم إرسالها إلى الصحف اليومية أو الإذاعة.
أثناء وجودنا في الجبهة دخل السيد سامي مهدي في مشكلة تتعلق بالواجبات ولم أعد أذكر تفاصيلها، مع السيد مصعب حسون الراوي، الذي كان عضو قيادة فرقة في الحزب، وموجهاً سياسياً للسرية الثانية في اللواء 11 مهمات خاصة “آمرا للسرية”، الذي ننتمي إليه، وكان السيد سامي مهدي أحد مقاتلي السرية الثانية، وعلى الرغم من معرفة السيد مصعب حسون السابقة بالسيد سامي مهدي، إلا أنه تجاهل كل تلك الاعتبارات، وتعامل معه بلغة الآمر العسكري، الذي يريد فرض التقاليد العسكرية بالصورة التي يراها، فاشتكى السيد سامي مهدي عندي من المعاملة الجافة للسيد مصعب حسون، فدخلت على خط الأزمة بين الرفيقين في الحزب والزميلين في العمل والمتواجدين في الجبهة في مهمة وطنية وقومية، وفوق تلك الزمالة كنت أحتفظ بعلاقة صداقة طيبة معهما معاً، ونجحت في تهدئة الأمور، ولم أرغب بأن أسمع تعاملا فوقيا بسبب الدرجة الحزبية في الظرف الصعب الذي كنا نمر به، وخاصة بين رفاق في تنظيم واحد، وهما في خندق قتال واحد ضد عدو غاشم، خشية من تطور الأمور إلى إشاعة جو من عدم احترام التقاليد العسكرية، ومدى تأثير ذلك على رفاقنا في اللواء 11 مهمات خاصة، أو على الوحدات العسكرية التي نتجحفل معها.
سامي مهدي لم يستمر في جبهة الحرب إلا أياماً معدودات، إذ تم استدعاؤه للعودة إلى بغداد ببرقية فورية بتوقيع وزير الثقافة والإعلام، للالتحاق بوظيفته الجديدة كرئيس لتحرير جريدة الجمهورية، فتم سحبه قبل بدء المعركة وبذلك نجا من واحدة من نتائج الحرب، وكذلك الحال مع السيد مصعب حسون الراوي، الذي كان موظفا في مكتب الاستاذ طارق عزيز رحمه الله وتم سحبه أيضا ونجا من ويلات المعركة.
عند زيارتي له في مكتبه بجريدة الثورة، وبعد جلسة قصيرة وحديث مجاملات لم تغصْ إلى الأعماق، عرضت عليه المقال الذي جئت به متوقعاً نشره في الثورة، ولكنه ومنذ اللحظات الأولى الذي تلّمس عدد الصفحات التي كُتب عليها المقال، ألقى عليّ محاضرة عن تقاليد العمل الصحفي الجديد، والذي لا يحتمل مقالات الأمس التي كنا نكتبها في الصحف العراقية أيام زمان، والتي كانت تتميز بالطول، وقال “لم نعد ننشر مقالات من هذا القبيل فقد تغير كل شيء”، حاولت سحب الموضوع، ولكنه طلب ابقاءه عنده للاطلاع عليه، ثم التصرف بشأنه، لم أفهم معنى عبارة “ثم التصرف بشأنه” خاصة بعد رفضه، قلت مع نفسي ربما لم يرغب بإزعاجي لرفض المقال، لم اعترض لأن المقال كان موجودا لدي على الرغم من عدم امتلاكي للكومبيوتر في ذلك الوقت.
بعد عدة أيام قرأت كثيرا من الأفكار التي كتبتها في مقالي بل وبنصوص مقتبسة منه، في صحيفة الثورة في مقالات متناثرة على صفحاتها المختلفة ومن دون اسم، بعد ذلك لم أفكر أبدا بالعودة إلى صحيفة الثورة، لأنني وجدت فيها بيروقراطية حزبية أعلى من البيروقراطية في دوائر الدولة التي سأمتها كثيرا، وربما كانت شخصية وليست وظيفية لم أعهد مثلها من قبل، وبذلك كانت صدمتي مضاعفة، ولم التق بالسيد سامي مهدي بعد ذلك وحتى كتابة هذا النص.
في ذلك الوقت كانت صحيفة العراق قد عرضت عليّ أن أكتب لها أسبوعيا، أو أكثر من مقال واحد في الشهر، على وفق ما امتلك من وقت، بكل تأكيد لم أسمح لنفسي بأن أذهب بعيدا في التزاماتي تجاه أي مؤسسة صحفية، وكنت أحرص على الموائمة بين تلك الجهات، وإلا فإن الكاتب قد يستهلك نفسه ويكرر أفكاره ويكون الكم الكثير على حساب النوع الجيد.
باشرت الكتابة لصحيفة العراق التي كانت تتميز بهامش من الاستقلالية، ومع أنها تطرح نفسها كناطق باسم شريحة من الحركة الكردية، لكن مدير تحريرها كان عربيا وهو السيد غالب زنجيل، وبعد نشر أول مقال لي وربما كان تحت عنوان “الثوابت الأمريكية المتحركة” اتصل بي رئيس التحرير، وطلب مني مراجعة الإدارة لأمر مهم، ما كنت أعرفه عن الصحيفة أنها لا تدفع أجرا لكتّابها، فما هو سبب مراجعة الصحيفة، في الوقت المحدد وصلت ورحب بي رئيس التحرير ومدير التحرير والمسؤولون فيها، وسلموني “شيكا” بمبلغ 100 ألف دينار مع كتاب رسمي من ديوان رئاسة الجمهورية، بتوقيع السيد أحمد حسين خضير السامرائي رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، فيه قرار بمنح عدد من كتاب الصحيفة مبالغ تكريمية من ثلاث فئات، الأولى وهي (أ) تم تكريمها بمبلغ 100 ألف دينار والفئة (ب) بمبلغ 75 ألف دينار والفئة (ج) بمبلغ 50 ألف دينار، ولم يصادف أن مرّ لي مقال في صحيفة العراق من دون أن ينالني تكريم رئاسة الجمهورية ومن الفئة (أ).
كما طلب مني مدير التلفزيون السيد عبد المطلب محمود، ومدير إذاعة بغداد السيد موفق السامرائي، كتابة التعليق السياسي لتلكما الجهتين، اللتين أصبحت كل منهما مديرية عامة، ولكن بتوقيتات متفاوتة وليس يوميا للمحطتين، على أن أتقيّد بألا يزيد التعليق على ثلاث صفحات، وأتاحت كل هذه الأنشطة السياسية الإعلامية متابعة دقيقة عن كثب للأحداث المحلية والعربية والدولية، والاندماج في مجتمع بدا لي غريبا غربة موحشة بعد غربة عشرين سنة عن العراق، وكدنا أن نصل خلال سنوات القحط العشرين، إلى مرحلة اليأس من الحرية لولا إيماننا بالله سبحانه وتعالى وقدرة بلدنا على انتزاعنا من قعر اليأس، كل ذلك كان يمدنا بالزاد اللازم للطريق الطويل.
ولكن المشكلة الفنية في الكتابة أنني كنت أكتب المقالات والتعليقات على الورق وأذهب بها بنفسي وأسلمها لاستعلامات المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، أو لمبنى الجريدة بسبب عدم امتلاكي لجهاز الكومبيوتر وحتى بفرض امتلاكي له، فلا وسيلة لإيصال ما أكتب عبر الانترنيت لعدم توفر هذه الخدمة، وبعد أن امتلكت الكومبيوتر وعرفت الأنترنيت، شعرت بقيمة هذا الجهاز الحضاري الذي كان باهظ التكلفة، وهو غير متاح في كل الأوقات، فتساءلت لماذا أشغل وطني نفسه بهذه الممنوعات الفرعية؟ مما أضاع الممنوع المركزي الذي شكّل خطرا حقيقياً على أمن العراق وخاصة من تلك المنظمات الإرهابية التي شكلّتها ايران، فالمواطن الذي يواجه في حياته اليومية حُزماً غليظة من الممنوعات يلتبس عليه التمييز بين ما هو مركزي وأساسي وبين ما هو ثانوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى