فنجان سياسي

شنتة سفر!


فراس العبيد – رسالة بوست
“لسه ناوي ع الرحيل”… افتتحت بها “ثرثرةً” صباحيةً معتادة، لم تكن لدي رغبة في الحديث السياسي، والتوصيف لبعض ما يدور حولنا، بل رحتُ أهيم بعيدًا، في “محطات سفرٍ”، حيث ثمةَ عيونٌ تركتها، في صقيع عشقٍ، قديم، خرافي، يوم كنتُ “الكائن الحبري” الذي خرج من وريقات “أحلام”، مشوه “التاريخ”… منذ كتب بقلم “أحفاد القردة والخنازير”.

ارتشفت فنجان “قهوتي العثملية” كما تسميها “زوجتي” مذاقها مميز، حتمًا، بل قطعًا؛ لأنني أنتمي إلى تلك الحقبة الزمنية، دولة الخلافة العثمانية، لا كما يصفها “أراذل القوم”، و “رويبضات اليوم”… البعض يحِنّ إلى “جذوره”…

كنتُ “أحاولُ أن أكون شاعرًا في القصيدة وخارجها، لأن الشعر موقفٌ من الحياة، وإحساسٌ ينسابُ في سلوكنا”… هكذا يقول الراحل “محمد الماغوط”، إلا أنني وجدتني “أنهب اللحظات”… “أسرق الثواني”… في “قصيدةٍ “لا أزال أكتبها”، ووجوهٍ “حفرتُ ملامحها” في “شغاف القلب”…

لستُ أذكُر منْ مِنّا سأل الآخر؛ “لسه ناوي عالرحيل”؟، ربما هي رغبةٌ أنثويةٌ معتادة، نسميها “التطفل”… لم تكن لدي رغبةٌ في الإجابة، على ملايين الأسئلة التي تحاصرني، فقط “مطالعةُ غامضة” لما حملته في “شنتة سفر”…
مجرد “أحاسيس”… لا أكثر، وثمة “شوقٌ” لصباحاتٍ بملامح “أنثى تمتلك مزيجًا من جمال كل النساء”، ودعتها ولم أعانقها، أو ألثم ثغرها، أو حتى أحلّ عقدة شعرها، وأسرح في يدي في شلالاتٍ سوداء كالليل، وأذوب كقطرة ملحٍ في العينين…
ماذا ستحمل…؟ عادت لتحاصرني بالأسئلة.
ربما يا سيدتي؛ بل حتمًا، “قرآني، البندقية، دفاتري، قلمٌ، ومنديل، ومعطفي”… أشياء لا أتخلى عنها.
خليطٌ من الأشياء أحملها، لتنعش ذاكرتي، تشدّ عضدي، أمّا الدفتر، فلأنه شهادة ميلاد حروفي، والقلم، لأكتب “آخر قصيدة”، سأدير اسم “حبيبتي” على لساني، كما أديره على “سكرة”… ضحكت زوجتي، “ألا تزال تحبها؟!”.
عجبًا…!! من قال إنني نسيتها؟
والمنديل ما شأنه؟
لن أخفي عنكِ، فيه عطرها، يومًا ما مسحت جبينها، بللتهُ بقطراتٍ من عرقها، وشفاهها، مسحتُ دمعتها.
سأجيبك قبل أن تسألي؛ المعطف، لأني أخشى صقيع الغربة… أنا الفراتي الذي اعتاد الارتماء في “حضن امرأةٍ بمقام أميرة”.
أدارت المذياع، وكأنما تعمدت أن تسأل:
“لسه ناوي عالرحيل
تفتكر ملهوش بديل
ومنين اجيب صبر لسنة؟
مش بتقصد عيني ياحبيبي العتاب ..
سيبك انت من دموع العين وقولي خدت ايه
شنطة سفر أو ايه فاضلي؟
خدت من صبري وطريقي منتهاه
مش معاك نبضي الي تاه
خدت صورتي؟؟؟
شوف كدا لتكون نسيت عمري وصباه
ولا احساسي بكياني بالحياه
أما حيرتي والعذاب ملكي أنا
هم أصحابي بغيابك طول سنة
يا حبيبي يا حبيبي ..
قد عمري قولتهالك
وأنت جنبي ببقى لسا مشتقالك”…
لم أترك مجالاً للتردد، الإجابة واضحة، وهل توضع الصورة في “شنتة سفر”؟!
مسافرون نحن… فوق جسورٍ أولها عشقٌ وآخرها احتراقٌ لذيذ… يا سيدتي؛ ما زلتُ اشتاق إغفاءةً في ترابها…
نحن نكتب البدايات..
وأمّا النهايات…
فنصنعها برصاصة وقلم
لمن… أتعرفين؟!


كل التناقضات أكتبها
وأنتِ ﻻزلتي تستهزأين؟!
أنسيت أنّ الحبّ يستوطنني
وينبت بالزهر تشرين


منكوبٌ أنا
آهٍ.. لو تعلمين!!
كأيّ وطنٍ/مواطنٍ عربيٍّ
مسكونٌ باﻷنين
حبيبتي..
عن أيّ اﻷماني القديمة
تتحدثين وتسألين؟!


لامسي مثلي
أطراف الشوق
فبعض الحروف كالرصاص
تعارك
ألم السنين


سجلي حضوركِ إذًا
أتتكبرين؟!
تبعثري مثلي
واكتبي القصائد
فكلانا مخلوقٌ من ماءٍ وطين


في سبيل الله أكتبها…
في طريق الشوك
أكتب عن الحنين


أدارت المذياع مجددًا… دونت على ورقةٍ بيضاء، نقشًا… “إني رفيقة دربك سيدي”… حاسمةً وحازمة… وهي التي عرفتها “قليلة الكلام”، ثم همست:
“لو ضروري تسبني خد مني الحنين
واختصر بعد السنة خليه يومين
قبل ماتسافر يا عمري
اسجن الشوق والمنى
خدلي الصبر بوريدي قبل مايطول بعدنا
حتى لو طال بعدنا انت هنا”.
لم تكن المرة الأولى التي أهيم في تلك الكلمات، كنت صغيرًا عندما حفظتها عن ظهر قلب، وكأنما على موعدٍ لتدوينها، ربما بل قطعًا، لأني حلمتُ بتفاصيلها.
ارتشفت آخر ما بقي من “قهوتي العثملية”، تأملت صورها… لثمتها… اشتاقكِ… يا وطني، أنا الذي كفرتُ بالوطنية، وآمنت بما هو أسمى بأمتي الإسلامية.
ربما بل حتمًا، غريبةٌ تلك الكلمات، وإنما هي “أولويات”… دمشق والقدس تعنيني، وإدلب ودير الزور، وبغداد، وعدن وصنعاء والرباط، والأندلس، فأنا “زير نساء”…
فأنا…
فأنا ﻻ أكتفي بأحضانك
ﻷني كالنار شوقاً
كلما ألقي فيها عطرك
قالت: هل من مزيد.

وكالعادة ختمت، “لا تخافي يا حبيبتي: فأنتِ آمنة”.
والعاقبة لمن اتقى….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى