فنجان سياسي

الانتماء والهوية… جدلية تحتاج إلى حسم


فراس العبيد – رسالة بوست
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء: 92]، وقال سبحانه في سورة المؤمنون: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [سورة المؤمنون: 51].
ابتعد عن المعتاد، الذي انتهجته، في شرب “فنجان قهوتي”، بينما كنت أطالع، قصةً، من بعض الوريقات القديمة التي احتفظت بها، تقول:
(أنه عقدت ندوة في فلسطين المحتلة عام 1980م – وبالتحديد في 19/12/1980م – حضرها من مصر الدكتور مصطفى خليل – رئيس وزراء مصر الأسبق – وحضر هذه الندوة عددٌ من الأساتذة اليهود المتخصصين في الشؤون السياسية والعربية، فقال خليل هذا: “أودُّ أن أطمئنكم، أننا في مصر نفرق بين الدين والقومية، ولا نقبل أبداً أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة إلى عقائدنا الدينية”، فوقف أحدُ اليهود – بروفيسور اسمه “دافين” – قائلاً: “إنكم أيُّها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكنني أحب أن أقول لكم، إننا في إسرائيل نرفضُ أن نقول إنَّ اليهودية مجرد دينٍ فقط، بل إننا نؤكد لكم أنَّ اليهودية دينٌ وشعبٌ ووطن”، وقام آخر – البروفيسور “تيفي ياقوت” – وقال: “أودُّ أن أقول للدكتور مصطفى خليل، أنَّه يكون على خطأ كبير إذا أصر على التفريق بين الدين والقومية، وإننا نرفضُ أن يعتبرنا الدكتور خليل مجرد أصحاب دين لا قومية، فنحنُ نعتبر اليهودية دينناً وشعبناً ووطننا”…)، إلى آخر كلامهِ الذي ذكر فيه أن القومية أوروبية المنشأ والمصدر، وأنَّ الأوربيون صدروها إلى الشرق.
بالتالي؛ فإنّ أزمة أمتنا المسلمة، يمكن تسميتها بـ”أزمة الهوية”، والتي يتحدث عنها الشيخ “بشر بن فهد البشر”، في إحدى مقالاته، بأنها، “أزمة تحقيق الانتماء”.
في الصورة التي وضعتها غلافًا، لحروفي هذه، خير شاهد، على حال الأمة في زمن الخلافة العثمانية، التي علمونا أنها “دولة احتلال”، قبح الله وجوههم.
الصورة، لقطار الحجاز، الذي ربط الأمة الإسلامية، وفيه، كما تروي لي جدتي، مصري، شامي، عراقي، تركي، وغيرهم، يجمعهم مقصورةً، أشبه ما تكون مكان “انتماء”، والتأمل فيها يكفي…
وأذكر أني كتبت، يومًا؛ في دفتر مذكراتي، “وقفت خلف المرآة، وجهي لا يشبهني… مشوه.. أسمر، أبيض، ربما تعلوه شقرةٌ غربية… ربطة العنق… القميص الذي ارتديته، كان مستعارًا، الزي الباكستاني الذي أحببته، مركون على السرير الخشبي، لا شيء في الغرفة يشبهني… العطور.. الدفاتر… تفاصيل كثيرة في حينا… الحي الدمشقي ساروجة حيث تسكن حبيبتي، كلّ شيء يخاصم حضارتنا… ألوان متعددة من الأبنية.. بناء إيطالي، فرنسي، إنكليزي… جميعها شاهدة على النعال التي داست تاريخي واستسلمنا لها، فارتدينا جميع الأزياء… عاريًا كنت، لم أكن ارتدي ثوبي… عراةٌ جميع من وقف في الحي، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء”.
والحاصل؛ أنّ ما شهدته الأمة، لونٌ من التخبط والتنقل على موائد الشرق والغرب، حتى “صبايا حينا” لم يكنّ عربيات، لا شرقياتٍ ولا غربيات…!!
ويمكن توصيف المشهد بـ”الضياع”، مع تذكرنا لمسلسلاتٍ عربية، ناقشت تلك الظاهرة، و”بثت السمّ في الدسم”، في “أربيسك” مثلًا، لازلت أذكر “حسن النعماني” في سجنه، كان شخصيةً محببة، محورية، يسأل… وهو يدور في زنزانته، في دوامةٍ تأخذ المشاهد بعيدًا “أنا مصري ولا عربي ولا فرعوني؟”، أزمة الهوية، بدأت يومها… كنتُ حينها صغيرًا.
وفي متحفٍ ما، حيث انتشرت “أصنام الشرق والغرب”، يقف شابٌ مسلم يقرأ “الفاتحة” على روح “فرعون مصر”…!!
ومعظم المشاهد السابقة تؤكد أنّ ما ضيعته “الأمة” يحتاج إلى وقفات حسمٍ، ومراجعة، تنهي أزمة الهوية، أزمة الانتماء.
استسلمت إلى ذاكرتي، تركت فنجان قهوتي، ركنته جانبًا، دخلت أسوار “دمشق” خلسةً، على حين غفلةٍ من سكانها، بعد ثورةٍ، خريفية، أعتلاها “رويبضات القوم”، و”زعران الشام”… للأسف.
وأكاد أجزم أن الشواهد القائمة في مدينتي “المغتصبة على فراش عهر”، من “دير الزور التي عرفتُ مؤخرًا أنّ جديّ لوالدي أحد رموزها… وارتبط اسمه بجشرها المعلّق… الذي عشقته كما كل نسائها ورجالها، وسميّ حيّ باسمه، إلى دمشق التي رويتها بقطرات دمي”، أكاد اجزم بأنّ، ما أضاع الأمة وأفقدها استقلالها وتميزها وشخصيتها، وأنها إلى هذا اليوم لا تزال تعيشُ هذه الأزمة، إما في ضياع الهوية ضياعاً كاملاً عند فئةٍ من المستغربين، وإمَّا بالغش والغُبارية وتكدر الرؤية، عن كثير ممن ينتسبُ لهذه الأمة، سواءً كان من عامةِ الشعوب، أو كان ممن ينتمي إلى العمل الإسلامي.
إننا نبحث عن “الانتماء”… لكن: الانتماء إلى هويةٍ واضحةٍ ثابتة، مستقلة متميِّزة؛ انتماءً يُعطي الأمم الوصف الذي تستحق به أن تكون أممًا، وهو القاعدة الأساسية لبناء الأمم، لأنَّ الهوية التي تنتمي إليها أي أمة هي تميزها عن غيرها.
فإذا كانت “القومية” قد أتت عن طريق أوروبا، ونشرها اليهود في تركيا، فأثاروا النعرة القومية الطورانية؛ ثُمَّ أخذها النصارى المارونيون في لبنان بالتحديد ونشروا القومية العربية، ففرقت بين المسلم من أرض العرب وبين المسلم من البلدان الأخرى، وتحت مسميات “تنويري”، أو “نهضة”… وغيرها من “التوصيفات الملعونة”.
لينتهي المشهد إلى حصول التفرق والانحطاط، فهذه القومية ما أخذت حتى بقيم العرب في الجاهلية، والتي عبر عنها شاعرهم بقوله:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
بل أخذت التحلل والتهتك، والفجور والفساد، ونقلوهُ إلى بلاد العرب بصفةِ التقدم والرقي والحضارة.
تروي أختي لي؛ أن دمشق اليوم ما عادت تطاق، “فجور، وانحلال، المرأة تخاف على نفسها السير وحيدةً في الطريق”، وتقارير الإعلامي الطاغوتي، في كل بلاد “القمع العربي البوليسي”، خير شاهد، بما في ذلك “المسلسلات والأفلام التي عرّت المرأة واستهلكتها… من عادل إمام، إلى “ًصرخة روح” وغيرها من الأسماء التي فرضتها الشاشات.
لا أنا لا أنتمي إلى رقعةٌ ضيقة، يحدها ترابٌ وجبال، ولا أوالي فيها أو أعادي، كذلك لا أنتمي لـ”هيئة الأمم”، وللشرعيةِ التي يُطنطنون بها، وهي في واقع الأمرِ جاهلية يُسيِّرها اليهود والنصارى، فنحن كما قال جرير:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
ولا أنتمي للنظام العالمي الجديد، الذي نحن اليوم عجلةٌ من عجلاته.
ولعلي اتمثل هذه الأبيات التي تصف انتمائي:
ولستُ أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيانِ
وكل ما ذكر اسمُ الله في بلدٍ عددت أرجاءه من لب أوطانِ
فدين هذه الأمة دين واحد هو الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران]، وتاريخها واحد هو تاريخ الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – ثم أتباعهم من المؤمنين.
إن هذا هو الشعور الواحد شعور الأمة الواحدة، كما قال الله سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} [سورة الحج: 78]، هو – أي الله عز وجل – سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا؛ أي في هذا القرآن: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [سورة الحج: 78].
ويقول صلى الله عليه وسلم – كما في حديث أبي الحارث الأشعري – رضي الله تعالى عنه: (ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثى جهنم)، قيل: وإن صلى وصام؟! قال: (وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم، المسلمين، المؤمنين، عباد الله).
إنَّ لنا ثلاثة أسماءٍ سمانا الله بها؛ “المسلمين”، “المؤمنين”، “عباد الله”.
إذن؛ دعوى الجاهلية التي جاءت في هذا العصر الحديث، وتوعد عليها بأنَّ صاحبها من حثى جهنم؛ هو كل تعصب لغير هذا الدين، سواءً كان تعصباً لجنس، أو لقبيلة، أو لوطن، أو لأرض، أو لقومية، أو لغة، فكل تعصبٍ لغير هذا الدين على غير حق فصاحبه قد دعا بدعوى الجاهلية.
فالتعصب للأوطان أو للأنساب، أو الدعوة للقومية أو الوطنية؛ هو أمرٌ من أمور الجاهلية، فكيف بالسعي لتعميق هذه الانتماءات، ثم أيضاً التفريق بين الناس على هذا الأساس، ووزنهم بهذا الميزان؛ ميزان القوميات والوطنيات واللغات والأجناس، إنَّ هذا كلَّهُ من دعوى الجاهلية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن، من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة؛ فهو من غراء الجاهلية).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: (الدعاء بدعوى الجاهلية؛ كالدعاء إلى القبائل والعصبية للإنسان، ومثلهُ التعصب للمذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعض على بعض، وكونه منتسباً إليه يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ويزن الناس به، فكلُّ هذا من دعوى الجاهلية).
واستذكر هنا القصة المشهورة التي رواها البخاري ومسلم عندما ضرب رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، فقال المهاجرين: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها خبيثة، دعوها فإنها منتنة)، رواية البخاري: (دعوها فإنَّها خبيثة)، ورواية مسلم: (دعوها فإنها منتنة).
مع أن هذه – يا للأنصار، يا للمهاجرين – أوصاف يحبها الله ورسوله، فإنَّ الله عز وجل سمَّى المهاجرين بهذا الاسم، وهو الذي سمى الأنصار بهذا الاسم فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} [سورة التوبة: 100]، ومع ذلك لما أصبحت الدعوة هنا على غير حقٍ تعصب للباطل، أصبحت من دعوى الجاهلية، فكيف بغير ذلك أيُّها الأخ الكريم؟
وفي الخلاصة؛ لقنّ اليهودي، البروفيسور “دافين”، كل الناعقين، بالانتماء لغير الإسلام، درسًا، في معنى “الانتماء”.
وكالعادة ختمت آخر رشفةٍ من فنجان قهوتي بعبارتي المعتادة، “لا تخافي يا حبيبتي: فأنتِ آمنة”.
والعاقبة لمن اتقى….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى