مقالات

يا غريب كون أديب!!

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

المقولات والأمثال المتداولة وحكم الكبار، لا تكون ضرباً من العبث، ولا بدعاً من القول، ولا تلق استحساناً مالم يكن لها مدولات عميقة ورؤية، فهي ذات بعد في النظر، وحكمة . وسداد.ولو أنها كانت مقولة تافهة للاقت رواجا في أواسط التافيهين فحسب، ولارتفع أوارها كما ترتفع النار ولهبطت وانتهت فورا أما أن تدور مع الأيام فلأنها تستحق الوقوف عندها ..
كان أن رأيت سائق حافلة في قرية من ريف دمشق، قد انعطف بسيارته، وكاد أن يصطدم بآخر، وهو شيء يحدث عادة بين السائقين، ويحتاج الى ضبط النفس والهدوء، وأخلاق القيادة، فنزل (ابن المنطقة) وشتم الغريب بما يمكن السكوت عنه، فرد عليه الشتيمة وأفظع، فعمد الأول إلى سيارته وأخذ منها هراوة وعطف عليه يضربه، فتجمع الناس عليه يساهمون ويضربونه ويذلونه، دون أن يسأل أحدهم الضارب فيم يضربه، أو لماذا يعنفه !
فقط لأن الضارب (من بلدهم) والمضروب (غريب) !
تخيل أن يأتيك ضيف ليس من أهلك، ومعه عائلته وأولاده، تخرج لتحضر لهم الضيافة وتدخل بعدها لترى الأب قد خلع ملابسه وجلس بالفانيلة والشورت، ورمى ثيابه شمالاً، ونشر جواربه فوق النجفة، وقامت زوجته تحدث صديقاتها على الهاتف وتصرخ بأعلى صوتها وتضحك ضحكات هستيرية، وهي إلى ذلك غير مكترثة بما يفسده أولادها، من الزرع وأدوات المنزل، وما يسببونه من الضجيج، والقذارة وسوء المحضر. ثم عابوا على أبناءك نظافتهم وتربيتهم، على زوجتك طعامها، وشرابها، وعليك أنت ذوقك، وحسن اختيارك، بفظاظة وقلة أدب وسخرية تامة.
تخيل أن يفعلوا كل ذلك، هل تخيلت ؟ أغلب الظن أنك ستشرد بهم من خلفهم، وستلعن طريقا دلتهم عليك، وريحا جلبتهم إليك، و (لو كانوا من أهلك) فكيف لو كانوا غرباء في زمن صار فيه الإنسان لا يتحمل نفسه وينوء بها عن أن يتحمل غلظة غيره.
أبسط القواعد السلوكية: (مالا ترضه لنفسك لا ينبغي أن ترضاه لغيرك)
ولكن ! لم قالوا: (يا غريب كون أديب)؟ ! أين الحكمة في ذلك؟ يتساءل البعض؟ قاعدة (يا غريب كون أديب) ليست من أنواع التطبيل، ولا مراعاة لخواطر أحد، بل هي (عين الحكمة، وحفظا لكرامتك، وروحك، ووجودك، وأقرانك) ..
لأن الغريب ضعيف، حيث لا عصبة تحميه، ولا جماعة تشد أزره، بل العصبة والجماعة للشخص المقابل، فهو في أرضه وبين جماعته، وقد يجتمعون عليك فيذلوك ويهينوك أو على الأقل يشتموك ويطردوك، وأنت هين عليهم، حيث ساد الظلم وأخلاق الغابة، في بلاد العنصرية المقيتة، والشعوبية المنتنة، فبسط العضلات وإطالة الشوارب، والمراجل الزائدة، ليس هنا مكانها يا عزيزي، لأن الكثرة تغلب الشجاعة، والكثرة هنا ضدك، ويمكنهم بلمح البصر أن ينتفوا شاربك، ويحلقوا حاجبك، ويعلقوك مقلوبا كالخروف، ويجعلوك عبرة للمتوسم، ومثلاً جارياً، أو على الأقل يوضعوا في إذلالك.
فالحكيم لايجلب السبة والمذلة لنفسه.
قد قيل: إن القريب طويل الذيل ممتهن، فكيف حال غريب ماله قوت؟!! وهذا ما لا يقبل به الأجداد، لكريم العنصر وتقدير المآلات. ولأن الغريب موطن استغراب واستهجان، نبت في بيئة مختلفة، تختلف بالضرورة عاداته وتقاليده عن عادات الناس الأخرين، وهذا يجعله محل استهجان، واستنكار، فالظرافة ياعزيزي، وممارسة (الستاند أب كوميدي) والكوميديا الصفراء، على أقدس أعراف الشعوب ممارسة في غير موضعها، واستهبال في غير مكانه، إن لم يعرضك أنت للرد والمهانة والطرد، عرضت أقرانك وأشباهك عندهم، فتكون قد جلبت لهم الممارسات العنصرية والمهانة، فان لم ترفق بنفسك فارفق بأهلك وقومك والمغتربين.
ولأن الغريب لا يستطيع أن يمارس من التجاوزات ما يمارسه في بلده وبين أهله لما تعلمون، أما في الغربة فلا أب يرجعون إليه ولا عائلة يعطفون عليها، وهذا يشجعه على انتهاك الحرمات والقوانين والعادات.
فكان التنبيه له أولى من غيره.

ولأن الغربة لها آداب، يجب مراعاتها، منها نقل صورة جيدة عن قومك، فأنت سفير لهم، وصورة عنهم، وغالبية الشعوب مع كل هذا الانفتاح الإعلامي لا يعرفون عن غيرهم إلا ما نذر، ولو كانوا الجار الملاصق، وخاصة إن اختلفت اللغة، ومنها أن الغربة تكشف أخلاق الإنسان فواجبه أن يرعى سمعة أهله، ويظهر أجمل الأخلاق وينقل أروع المكارم ويخفي العيوب. ومنها أن لا ينسى أهله، ولا يتعالى عليهم مهما بلغ شأنه، ومن باب أولى لا يتعالى على القوم الذين نزل فيهم وكبر شأنه عندهم. 

فمن لا رعاية له ولا كرامة له لجانب أهله وقومه، لا كرامة له عند الآخرين، وعادة ما يمكن أن يغضي عنه قومك لا يشترط أن يغضي عنه الآخرون.
وقبل أن تقول: لم يحصل ذلك؟ هل الغربة تكشف أخلاق الناس أم تغيرها؟ أقول: كلاهما إلا ما رحم.
المقولة لا تعني أن تكون ذليلا تسكت عن حقك وترضى المهانة والضعة، ولا تدفع عن نفسك الذلة والصغار، ولكن تعني: أن تتجرع توافه الأمور، وصغائر التصرفات، وشواذ الممارسات، وعنصرية البعض، وتدارهم ما دمت في دارهم، وتحيهم ما دمت في حيهم ، مما يكون في تجرعه اتقاء للشر الأكبر ، والفتنة العظمى .
أن تلتزم بآداب الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم وتراعي مذاهبهم وطريقتهم، وتداري سفيههم.
أي بني: الاستظراف في غير موضعه هبل، والشجاعة في غير موطنها خطل، واتقاء الشر الأكبر بالشر الأقل عين الحكمة والعقل …
وقد قيل: ومن يغترب يحسب عدوا صديقه ومن لا يكرم نفسه لا يُكرم
ف(الغربة كربة) و “لابد من (صنعا) وإن طال السفر”، والمرء ربما اضطر إلي الغربة، ولكن إذا قضى منها فليعجل الأيبة، وان لم يكن له بد منها فليتزن بأحكامها.
وأنشدت يوما: تأدب إن حللت بأرض قوم … والا دُقّ رأسك بالنعال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى