مقالات

عسكر مجرمون !

أ. د. عبد المجيد الحميدي الويس

سياسي وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

     يراودني حلم الكتابة عن السودان، وما جرى ويجري فيه، وعندي الكثير مما أقوله، لكن كابوس السودان الخيف يفزعني، فأستيقظ مرعوبا، وأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وأتناسى، ثم أحاول أن أنسى، ثم أجبر نفسي على النسيان.. عالم السودان عالم عجيب غريب لا يعرفه إلا من ذاق مرارته، واكتوى بناره، ومر بتجربة مريرة فيه، كالتجربة التي مررت بها..

     كان امتحانًا صعبًا جدًا، لم يتحمله أهل بيتي (زوجتي وأولادي) الذين لم أتخيل أو أتصور أو أظن أنهم يتخلون عني في يوم ما بحكم العلاقة الحميمة التي تربطنا، فهم كل شيء في حياتي الخاصة، التي تأتي في الدرجة الثانية بعد الهم الوطني، والمسؤولية التاريخية التي ألزمت نفسي بها منذ نعومة أظفاري، تجاه ديني وأمتي، وتحملتها مبكرًا وأخلصت حياتي لها وما زلت..       

     كنت أظنهم يبادلوني الشعور نفسه، وهم كذلك في حقيقتهم، لكن للإنسان طاقة في التحمل استنفذوها.. فحملوا أنفسهم وتركوني فيه، أعاني أشد أنواع العذاب.. وهم معذورون في ذلك.. كل معاناة عشرات السنين التي مرّت من عمري بكفة، ومعاناة السنتين ونصف في السودان بكفة.. وكفة السودان ترجح.

     إذا أردت أن أغفر لمن أخطأ بحقي وظلمني وأساء إلي وأكل مالي، وطعن بعرضي، وفعل ما فعل.. يمكن أن يحصل ذلك وأسامح إلا من كان السبب في ذهابي إلى السودان، وما حصل لي ولعائلتي من معاناة فيه؟ ويا ويلهم من مني ،ومن لحظة غضبي القادمة عليهم؛ لن أترك لهم سترًا إلا هتكته وهذا قسمي وعهدي ووصيتي لمن بعدي.. والأيام بيننا وسترون.

    كانت مرحلة سوداء مثل وجوه حكامهم ولصوصهم وشرطتهم ومحاميهم ومسؤوليهم وكثير من عامتهم..

    مهما نسيت لا يمكن أن أنسى الكذب والجشع والطمع والابتزاز والسرقة والتسليب والتشليح الذي تعرضنا له، ويتعرض له السوريون والعرب وكل المقيمين فيه بكل يوم..

    لعن الله البشير.. ولعن الله الترابي الذي جاء بالبشير، ولعن الله كل مسؤول سوداني صفق للبشير ولعصابته ولمن جاء معه، ثم من جاء خلفه وخَلَفَه..

    على الرغم من مرحلة البشير السوداء التي فاجأتنا بأمور كثيرة لم نكن نتوقعها، والخراب والدمار الذي وجدناه في البلد، إلا أن من جاء بعده كان أسوأ منه بكثير.. وكانت مرحلة البشير على سوئها جنة!

    كانت فرحتي في ثورة السودان التي كان لي شرف المشاركة فيها بطريقة أو بأخرى، وحضوري للاعتصامات والفعاليات التي جرت لا يعدلها سوى فرحتي بثورة شعبي العربي السوري والمصري والليبي واليمني والتونسي..

     أنا رجل ثائر، وحياتي كلها ثورة، لكني لعنت الثورة وأبو الثورات على أبو جيفارا وغاندي بعد ما حصل من تداعيات لها في محررنا السوري المستعمر من العصابات واللصوص والمافيات وقطاع الطرق، وما حصل في السودان بعد البشير أخزاه الله في الدنيا والآخرة.

    لم أعرف شعبا مظلومًا مقهورًا مستعبدًا جائعًا خانعًا في حياتي كما وجدت الشعب السوداني..

   لم أعرف وطنًا غنيًا ثريًا ممزقًا منهوبًا ومستباحًا؛ أرضًا وسماء وماء وشعبًا ومقدرات كما هو السودان..

    بلد تحكمه المافيا العسكرية ومن تحالف معها، والفساد فيه مشرعن وعلى المكشوف، وهو النظام المتبع في البلد؛ فساد وسرقة ونهب وتآمر وخيانة وغش وكذب وابتزاز وكله على الشريعة الإسلامية.. شريعتهم هم، وليست شريعة الله، وحاشى لله أن تكون شريعته كذلك.

    بلد يختلط فيه الحلال بالحرام، والصالح بالطالح حتى لا تكاد تفرق بينهما، ثم يتغلب فيه الحرام على الحلال والطالح على الصالح، والشر على الخير، ويعم الفساد في النهاية، فيسود ويصبح أمرا طبيعيا مقبولا معترفا به رسميا من قبل الدولة، وشعبيا من قبل الجماهير.

   ولّى البشير غير مأسوف عليه إلى غير رجعة؛ إلى مزبلة التاريخ، وبقي ذيوله ونظامه وتلامذته وحاشيته وطلابه وأتباعه ومريدوه وجمهوره وزبانيته وزبائنه وزبالته.. وجاء زيادة عليهم من هو أسوأ وأجهل وأظلم وأقبح منه ومنهم بكثير.. وتولى السلطة يحكم باسم الثورة والشعب الثائر.. وعلى الشريعة الإسلامية التي ليس فيها من الإسلام إلا الاسم..

     بقيت عليكم مظاهرة واحدة مليونية أيها السودانيون الثوار، تقتحمون القصر الجمهوري وتخرجونهم منه كالجرذان.. نعم ستقدمون بعض الضحايا وبعض الجرحى لكنكم ستنالون حريتكم، وتستعيدون بلدكم المنهوب المسلوب.. أكملوا ثورتكم ومشواركم الثوري، وتخلصوا من العسكر وحكمهم وظلمهم ومنظومة الفساد والاستبداد التي تحكمكم إلى الأبد.. لم يسمعوا..

    لم يفعلوها، وصدقوا كذب العسكر وخداع العسكر وخيانة العسكر، ودخلوا معهم في مفاوضات تقاسم السلطة.. أبقوا منظومة الفساد العسكرية هي التي تحكم في النصف الأول من اتفاق تداول السلطة والانتقال السياسي من العسكري إلى المدني.. ويستلم بعدها المدنيون الحكم وقد مكنوا لأنفسهم وهيأوا كل شيء في البلد لمرحلتهم وما بعدها.. هكذا فكروا وخططوا ودبروا واتفقوا..

    لم يؤمن العسكر يوما بمبدأ تقاسم السلطة ولا مبدأ تداول السلطة، ولم يفكروا ولا يفكرون أبدا في التخلي عن السلطة؛ لأنها تتناقض مع طبيعتهم وتربيتهم وعقليتهم الجاهلة المتخلفة..

     لم يقتنع العسكر بالحكم المدني أبدا، ولم يعملوا على تمكينه والعمل على نقل السلطة إليه بكل سلاسة وهدوء، وإنما عملوا العكس تماما؛ محليا وعربيا ودوليا، وكان كل همهم التشبث بالسلطة، وإفشال هذه التجربة الديمقراطية الوليدة، وقبرها في مهدها.. وهذا ما حصل..

     مجموعة من العسكر الجهلة المتخلفين الأميين اللصوص الخونة تختطف البلد جهارًا نهارًا، وتسحب كل خير فيه، وتبيعه للأجنبي بثمن بخس وبرخص التراب الذي يعصر ذهبًا في السودان وفي كل بلادنا العربية، وتستعبد هذه الزمرة الوقحة القذرة الشعب وتذله وتهينه وتجوعه وتذبحه يوميًا بسلاح الفقر والجوع والمرض والعبودية والقتل والجريمة المنظمة.

    كل هذه الفترة السابقة الانتقالية كانوا يخططون ويدبرون ويتآمرون لكيفية التخلص من عهدهم وميثاقهم واتفاقهم مع المدنيين، والتهرب من استحقاق نقل السلطة إليهم.. ولم يجدوا طريقا للخيانة والغدر إلا سلكوه في الداخل والخارج، ولا خائنا لدينه ولا لوطنه وأمته إلا مدوا له سبيلا، واستعانوا به خبيرا وناصحا ومعينا..

     وكان المدنيون يسايرونهم في كل شيء؛ انتظارا للحظة انتهاء مدتهم، وتنازلهم عن هرم السلطة إلى سفحه نزولا إلى قاعه.. ومن ثم يستلم المدنيون السلطة ويصبح الحكم بيدهم، وعند ذلك تبدأ المرحلة الجديدة التي كانوا يحلمون بها..

   عملوا ليل نهار على إفشال الحكومة، وتدمير الوضع الاقتصادي للبلد، أكثر مما هو مدمر، والوضع المعيشي للسكان بعد تدهور سعر صرف الجنيه.. من 6 جنيهات للدولار إلى 60 جنيها للدولار وفي صعود مستمر.. وربما وصل اليوم إلى 100 جنيه وتخطاها، فلا شيء يوقفه من الصعود.

   أحكموا قبضتهم الأمنية، وأنزلوا قواتهم في مفارق الطرق، وحولوا الحدائق العامة إلى مراكز تجمع لجيشهم وجنودهم ومخازن أسلحة وعتاد لقواتهم..

    ذهبوا لإسرائيل جهارا نهارا وطبعوا معها وسلموها البلد بكل ما فيه، شرط أن تمكنهم من حكمه.. وقدموا لها وللأمريكان وللروس وللخليجيين زعماء محور الشر وقادته ورواده ومنفذي سياسته الشريرة المعادية لأمة العرب والمسلمين والإسلام.. قدموا لهم ما يريدون من مرتزقة وجنود، وأرض وسماء وماء.. والأخذ بتعليماتهم والاستمرار بسياسة التدمير الممنهجة لكل قيمة علمية أو اجتماعية أو أخلاقية في البلد.. وتعطيل التنمية والحفاظ على الجهل والتخلف، وإبقاء البلد في حالة من الفوضى والدمار والخراب في كل شيء..

    ممنوع على السودان كما بقية الدول العربية أن تتحرر وتنستنشق نسائم الحرية، وتتخلص من العبودية وحكم العسكر.. وتبني وطنها، وتحرر شعبها، وتنعش اقتصادها، وتعيد مجد أمتها الغابر!

    ممنوع على العرب كل شيء إلا حكم العسكر.. وهذا الذي حصل في سورية ومصر وتونس والجزائر.. وكل أقطار الوطن العربي المستعمر المستعبد المباح !

    ((الأسد أو نحرق البلد)) هذا شعار الحكام العرب جميعا، وهذه سياستهم جميعا، وهذا هو المسموح به لكل الشعوب العربية.. تريد غزالا خذ عسكرا.. تريد أرنبا خذ عسكرا.. تريد ثورة خذ عسكرا.. تريد حرية خذ عسكرا.. تريد حكما مدنيا خذ عسكرا.. وهذا ما حصل ويحصل في السودان بزعامة حميدتي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب.. والبرهان الذي لا يفك الخط، ولا يحسن الكلام.. وهذه بضاعتنا ردت إليها على أسوأ مما كانت عليه بكثير..

    أعان الله شعب السودان المقهور المظلوم، وخلصه مما هو فيه.. ولعن الله العسكر (والساعة السودا اللي جابت لنا العسكر) من عبد الناصر إلى أبو عبدو الجحش إلى حافظ والسيسي ومن لفّ لفهم.. وكل حاكم عسكري في العالم كله.. إلى يوم القيامة..  وليعذرني أحبتي وأصدقائي.. ويسمحوا لي.. ويسامحوني..    

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سلمت يمينك يا أستاذ دكتور عبد المجيد على هذا المقال الرائع الذي أوافقك عليه في كل كلمة راجياً الله أن يكون في ميزان حسناتك . عنوان المقال “عسكر مجرمون” و صف ينطبق على كل عسكر في أي قطر من أقطار قمعستان (كلمة من إنشاء الراحل نزار قباني لوصف ذلك الوطن الممتد من الخليج النائم إلى المحيط السائم) . إنهم عسكر من أبناء جلدتنا ، أشكالهم أشكالنا و ألوانهم ألواننا ، لكنهم تلقوا تربية جرى فيها غسل أدمغتهم غسيلاً شبه كامل بما سلخ منهم الانتماء لعقيدة الأمة و تراثها و تاريخها و قيمها فصاروا غرباء عن الأمة من حيث الفكر و السلوك . جرت برمجة أدمغة العسكر بطريقة تجعل الطاعة عمياء كأنهم آلات صماء مع أن هذا النوع من الطاعة مرفوض تماماً في دين الله و معلوم بالضرورة أنه “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ” و لكن هنالك دليل آخر لا يقل أهمية : ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ، عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ : اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى سَرِيّةٍ بَعَثَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا قَالَ ( فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ) فَقَالَ ( اجْمَعُوا لِي حَطَبًا) فَجَمَعُوا فَقَالَ ( أَوْقِدُوا نَارًا) فَأَوْقَدُوا ثُمّ قَالَ ( أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا؟) قَالُوا:( بَلَى) قَالَ ( فَادْخُلُوهَا) قَالَ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَقَالُوا:( إنّمَا فَرَرْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّارِ) فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَطُفِئَتْ النّارُ فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا “إنّمَا الطّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ”). قيل الأمير هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ السّهْمِيّ رضي الله عنه و كانت لديه دعابة . واقع الحال أن عسكر هذه الأيام يقودهم طراطير نواطير – أنتجهم الاستعمار الحاقد اللئيم – يطيعونهم في أوامر سترديهم في نار جهنم و العياذ بالله ، و لننظر إلى قوله تعالى في وضع القادة مع العسكر في سلَة واحدة ( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ “وَجُنُودَهُمَا” كَانُوا خَاطِئِينَ ) ،( و نري فرعون و هامان “و جنودهما” منهم ما كانوا يحذرون) ثم لننظر إلى يوم الحساب و ما يليه .
    القرآن العظيم ليس كتاب تاريخ يوضع في متاحف الآثار ، فحين يتحدث عن فرعون ينسحب الحديث ليشمل كل فرعون في كل عصر فيتقدم الفرعون قومه و هم وراءه للحساب و جميع حججهم غير مقبولة فيصدر الأمر الإلهي ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ) يقول المفسرون أن أزواجهم تعني أشياعهم أي من كانوا موالين للظالمين فيؤمر بهم جميعاً إلى جهنم و بئس المصير . عند دخول جهنم سيقول عسكر الباطل (وقالُوا رَبَّنا إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَراءَنا فَأضَلُّونا السَّبِيلا* رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذابِ والعَنْهم لَعْنًا كَثِيرًا﴾ ، فلا العذر مقبول و ما دعاء هؤلاء إلا في ضلال .
    الحاصل أن عساكر و مخابرات اليوم في بلادنا عبيد أوامر أحط الناس و لا يتورعون عن ارتكاب أية جريمة أو مجزرة متى صدرت أوامر الضباط و هذا لا يقتصر على سوريا فقط . لأنهم في هذا المستوى الهابط ، فقد أراد الاستعمار لهم أن يكونوا متحكمين بالناس مسلطين على رقابهم مكممين لأفواههم قامعين لهم و ما دام هؤلاء موجودون فلن تنعم قمعستان ب “الحرية ، الكرامة ، العدالة” . هل يمكن للشعوب الخروج من هذه الشرنقة ؟ نعم يمكن بالبطولات و بدفع أثمان لن تضيع بإذن الله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى