بحوث ودراسات

مفهوم اللاهوت بين الإسلام والفلسفة الإغريقية!

د. محمد القطاونة

أستاذ العقيدة والفلسفة
عرض مقالات الكاتب

يستطيع الباحث أن يتبين وجود حد فاصلاً بين الإسلام وغيره من الأديان والفلسفات قبل الإسلام، فهناك خط فاصل يميز هذه العلاقة بين الإسلام وباقي الفلسفات، إلا أن الإسلام يتميز بالتحرر بمجموعة من الخصائص التي أوجدت الهوة بين الوحي والعقل عند الآخر. فلم ينشأ تصور الألوهية عن ” لاهوت”([1]) ولا عن اعتراف بنظام كنسي، ولا عن إقامة الإيمان على أساس القسر .

لذلك جاء التصور الصحيحة لذات الله عز وجل الذي يثبت وجوده وصفاته، وان لم تدرك ذاته وكنهه بعيداً عن التصورات اللاهوتية، فقبل الإسلام كانت الآلهة مجسمة وكانت صورة “الله” ترتبط بخصائص المحلية وتتقمص أبرز الكائنات في كل بيئة. فنجد في مصر الثور و القطط و قرص الشمس([2])وفي اليونان نجد الآلهة ناساً كالبشر لهم نزوات البشر ،ولكن لهم قدرات الآلهة، وكان تزاوج الآلهة بالناس وتناسلهم أمراً مقرراً ومؤلوفاً([3]) وعنه صدرت أبرز صور الثالوث القديمة، وكان بعض آله اليونان يتقمص شكلاً بشرياً ليتصل بامرأة جميلة، وكان يمكن لابن هذه المرأة أن يكون “نصف إله” – إلخ وما تفيض به الميثولوجيا([4]) اليونانية أو التاريخ المصري القديم أكثر .هذا بالنسبة إلى من كان يؤمن منهم بالوحي ، وأما الفلاسفة أمثال سقراط فإنهم ينكرون الوحي أساساً، ويرون أن الوحي في حقيقته مجموعة أساطير ابتدعها خيال الإنسان الخصب، وعليه فينبغي أن يستبدل بها أفكارا من نبع العقل يفسر بها الكون([5])

أما في الإسلام فخلصت الصورة التي قدمها الإسلام للألوهية من التجسيم الوثني والتعقيد اللاهوتي والافتراض الفلسفي  كما لدى”أفلاطون وأرسطو”([6]) ، لا يتطلب إدراكها عناء . إذ جعلها الإسلام كالمثل الأعلى ولكن بعد إضفاء الصفات والكمال عليه جل جلاله. وكان هذا أمراً تتقبله العقول حتى وإن لم تستطع إثباته بأدلة حسابية أو براهين حسية، لأن الصورة التي قدمها لا يمكن أن تنكرها العقول الصحيحة. فهل يتصور مثلاً إله يخلق دون أن يكون هو نفسه حياً؟ أو يهدي إلى الكمال دون أن يكون هو نفسه الكمال؟ إن الفهم الصحيح عن لله تعالى في الاسلام، يختلف عن التصور المسيحي ذلك أن المسيحية تأثرت بفكرة الثالوث الإلهي([7]) لحل واستساغة و إدراك الذات “الإلهيه” فزاد الثالوث فهم العقل البشري للذات الإلهية تعقيداً، فاختلطت المناظر الطبيعية البشرية و عناصر الطبيعة الإلهية، خاصة وعندما تتولى الكنيسة إيضاح هذا الفهم فلا تزيد الأمر إلا تعقيداً.

وأما على صعيد الفلسفات القديمة والحديثة فإنها لم تستطع تحقيق شيء في فهم ما وراء الطبيعة رغم ذلك التراث الكبير كماً القليل كيفا. وأن ما انتهت إليه من حقائق لا يعدو أن يكون بصيص نور في دياجير مظلمة واستجابات فطرية لأحكام كلية، ينتهي إليها كل سليم الفطرة من بني الشر، وإن لم يتقن أدلتها الفلسفية.

ولهذا، أعلنت الفلسفة_ بتواضع_ عجزها عن الإنتاج المطلوب في هذا الميدان، وبما أن عماد الفلسفة في المباحث الميتافيزيقية هو العقل فهذا يعني عجز العقل في هذا الميدان. يقول إيمانؤئيل كانت ” إن عقل الإنسان مركب تركيبا يؤسف له، فإنه مع شغفه بالبحث في مسائل لا تدركها حواسنا لم يستطع أن يكشف عن معمياتها” ولما كان العقل هو المصدر المعرفي في هذا المجال، والذي لا يوجد مصدر يعلوه، اتجه كثير من فلاسفة أوروبا المعاصرين اتجاها خطيرا بسبب الانتهاء إلى ذلك المأزق الكبير. هذا الاتجاه هو اعتبار البحث في عالم ما وراء الطبيعة لغواً لا فائدة من ورائه، ولا معرفة فيه، لأن العقل حينما يتناوله بالبحث لا يقع على حدوس يطبق عليها مقرراته كالحدوس المتوفرة في عالم الطبيعة، ومن ثم فمعرفته غير ممكنه([8]) .

أما في الإسلام فإن الأمر لا يعود إلى عدم الاستساغة، ولكن يعود إلى قصور العقل البشري عن إدراك الألوهية، أو كنهها، أو ما هيتها. لأنها الأصل والمصدر والغاية التي لا غاية وراءها والمثل الأعلى الأعظم المطلق الذي لا تلحقه أي صفة من صفاتنا المحدودة.

 يقول الرازي في تفسيره للآية “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ”([9]) “اعلم أنه تعالى رغّب في ذكر الله، ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله، بل رغب في الفكر في أصول السموات والأرض ….. ولما كان الأمر كذلك -لاجرم أمره – في هذه الآية بالفكر في خلق السماوات والأرض، لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم وكيف لا تقول ذلك ولو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق الشجر رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها … ولو أراد الإنسان معرفة خلقه تلك الورقة وإيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه. فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة ….. عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير وعرف أنه لا سبيل له التبحر إلى الإطلاع على عجائب حكمة الله ، فإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجّل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين ” ([10]) .

وهذا التصوير حتى وإن لم يُحط العقل بأعماقه وأطرافه، فليس فيه ما يرفضه العقل، وهنا تأتي صورة الانسجام بين الوحي والعقل، فالوحي يضع العقل في ميزانه ويرسم له حدوده وواجباته وممكناته، وهو في هذه المسألة ما يوجبه العقل كذلك. وإن لم يصل إلى كنهه وسره، فالعقل يلمس جانب الحق فيه وواجب وجوده وضرورة كماله، لكنه لا يتم بالكنه أو الماهية. وجاء النظم القرآني المعجز فعرض صورة الألوهية دون تعسف أو تكلف بحيث تتشربها النفوس وتطمئن إليها و تستلهم منها معاني الحرية والرحمة والحق والعدل والجمال، وهو ما يتضح عند مقارنته بالأسلوب الفلسفي اليوناني([11]) المعقد في إثبات وجود الله.

وهكذا حل الإسلام تلك القضية الصعبة الحساسة “فهم الذات بين الوحي والعقل” حلاً نموذجياً، فوجد القدر المطلوب من المعلوم ، والقدر المطلوب من المجهول الذي لا يناقض العقل ولكن يُبقي على روح الاستطلاع والاستكشاف الذي يزرع القربى والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى و الانتقال من المعلوم إلى المجهول ،  ويوضح القران الكريم هذه الصورة إلى معرفة الله عن طريق التدبر في ملكوته والتفكر في صنوف خلقه، بل إنه يعتبر الكفار دواباً لأنهم عطلوا حواسهم وأهملوا مشاعرهم وأهدروا نعمة العقل التي أكرمهم الله بها ، فالقرآن الكريم يلفت انتباه العقل إلى الانتقال من الموجودات في معرفة الموجد و ليس العكس كما في غيره من الأديان([12]).

يقول العقاد ” إن الفارق عظيم بين ما هو ضد العقل وما هو فوق ما يدرك بالعقل المحدود. فما هو ضد العقل يلغيه ويعطله ويمنعه أن يفكر فيه وفي سواه، وما هو فوق العقل يطلق له المدى إلى غاية ذرعه ثم يقف حيث ينبغي له الوقوف، وينبغي له الوقوف وهو يتفكر ويتدبر، وحيثما بلغ الإنسان هذا المبلغ فقد انتهى إليه بالعقل والإيمان على وفاق”([13])

وهكذا ” يعرض القرآن الكريم الحقيقة كما هي في عالم الواقع ، ومن خلال الأسلوب الذي يكشف كل زواياها ،وكل جوانبها ، وكل ارتباطاتها ، وكل مقتضياتها وهو مع هذا الشمول لا يعقّد هذه الحقيقة ، ولا يلفها الضباب ، بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها، هذه المنهجية مبدأ من الانقطاع و التمزق الملحوظين في التأملات الفلسفية ، وإنما يعرض في سياق موصول ، يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب و تتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان لحقيقة الألوهية”([14]).

دكتور العقيدة والفلسفة جامعة UM/ ماليزيا

qatawneh@um.edu.my


([1])  – اللاهوت: علم يبحث في وجود الله وذاته ويقوم عند المسيحيين مقام علم الكلام عند المتكلمين، ويسمى أيضا أثولوجيا وعلم الربوبية، والإلهيات . وهو ضربان (1) لاهوت طبيعي ويعتمد على التجربة والعقل وحدهما دون الرجوع إلى النقل (2) لاهوت منزل ويعتمد على النصوص المقدسة ويسمى الالهيات واللاهوتي نسبة الى اللاهوت. انظر: مدكور، إبراهيم. المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، (القاهرة: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1403هـ/ 1983م)، ص :160.

([2])  انظر: – مارييت، أغسطس. تاريخ قدماء المصريين المسمى قناصة أهل العصر من خلاصة تاريخ مصر، ترجمه بالعناية الخديوية من اللغة الفرنسية إلى العربية. ابو السعود، عبد الله، (القاهرة: المطبعة الخديوية ببولاق، الطبعة أولى 1281)، ص 27 – 30. انظر كذلك تفصيلاً: البنا، جمال. الإسلام والعقلانية، (القاهرة: دار الفكر الإسلامي، الطبعة الثانية).

([3])  انظر: – انيهاردت. الآلهة الأبطال في اليونان القديمة، ترجمة د. هاشم، حجاوي، (دمشق: الاهالي للنشر: الطبعة الأولى، 1964م)، يتحدث هذا الكتاب عن أصل العالم والآلهة بنظر الميثولوجيا والأسطورة اليونانية. انظر: النشار، مصطفى. تاريخ الفلسفة اليونانية، (القاهرة: دار قباء، 1998م)، ص: 36.

([4]) – الميثولوجيا” mythology ” أو الأساطير هي حكايات تولدت في المراحل الأولى للتاريخ، لم تكن صورها الخيالية ” الابطال الاسطوريين، الأحداث الجسام ، إلا محاولات لتعميم وشرح الظواهر المختلفة للطبيعة والمجتمع. انظر: حسيبه، د. مصطفى. المعجم الفلسفي، (الأردن: دار أسامة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2009م)، ص: 617.

([5]) –  انظر: متى، كريم. الفلسفة اليونانية، (بغداد: مطبعة الإرشاد، بدون ط، 1393هـ)، ص: 103. انظر كذلك: جمال البنا. الإسلام والعقلانية، مرجع سابق، ص15.

([6]) – أرسطو: 384 – 322 ق.م: فيلسوف وعالم موسوعي ومؤسس علم المنطق وعدد من الفروع الأخرى للمعرفة الخاصة. اعتبره ماركس (أعظم مفكري العصور القديمة). ولد في ستاجيرا في ترافية، وتربى في أثينا بمدرسة أفلاطون، ويعتبر مؤسس المدرسة المشائية التي مشى عليها فلاسفة الإسلام أمثال ابن سينا. اما افلاطون فولد في أثينا (427-428 ق.م 347-348 ق.م) فيلسوف يوناني كلاسيكي، رياضياتي، كتب العديد من الحوارات الفلسفة، ويعتبر المؤسس لأكاديمية أثينا، وأنشأ أول معهد للتعليم العالي في العالم الغربي بجانب معلمه سقراط وتلميذه أرسطو، وساعد أفلاطون على وضع الأسس الأولى للفلسفة الغربية والعلوم. أفلاطون كان تلميذا لسقراط، وتأثر بأفكاره كما تأثر بإعدام سقراط الظالم. انظر: يودين، روزنتال. الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، (بيروت: الطليعة للطبع والنشر)، ص19. انظر: توفيق الطويل. قصة النزاع بين الدين والفلسفة، مرجع سابق، ص20.

([7]) – انظر: -قطب، سيد. مقومات التصور الإسلامي، (القاهرة:دار الشروق، الطبعة الثالثة 1408، ه -1988م)، ص66.

([8]) – نقلاً عن: الزبيدي ،عبد الرحمن بن زيد. مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي دراسة نقدية في ضوء الإسلام، (المملكة العربية السعودية: مكتبة المؤيد، الطبعة الأولى، 1412هـ، 1992م)، ص 198. انظر كذلك: جمال البنا، الإسلام والعقلانية، مرجع سابق، ص: 16.

([9]) – سورة آل عمران الآيات : 190.

([10]) –  الرازي، الفخر. تفسير مفاتيح الغيب، (بيروت: دار الكتب العلمية: الطبعة الأولى ، المجلد 9-10 ، 1411هـ/1999م)، ص 11.

([11]) – انظر: عبد الرحمن بن زيد الزبيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي دراسة نقدية في ضوء الإسلام، مصدر سابق، ص103.

([12])  – انظر: جمال البنا، الإسلام والعقلانية، مصدر سابق، ص 17.

([13]) – العقاد، عباس محمد. التفكير فريضة إسلامية، (القاهرة: نهضة مصر للطباعة، بدون طبعه وتاريخ)، ص 86.

([14])  – سيد قطب، مقومات التصور الإسلامي، مصدر سابق، ص 66.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى