مقالات

الخروج من قصور آيات الله 19

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب

لمّا عرفت بأنني نقلت إلى قسم شؤون المنظمات الشعبية في رئاسة الجمهورية، رأيت أن مراجعتي للقسم، خطوة مهمة لأتعرف على الالتزامات المطلوبة مني وطبيعة علاقاتي مع القسم.
تقع بناية القسم في كرادة مريم على مقربة من ساحة عبد الوهاب الشواف، وهذه البناية كانت مخصصة لمكتب النائب الأول لرئيس الوزراء قبل وقوعي في الأسر في عام 1982، وعندما دخلتها، وجدت الطريق سالكة أمامي في الوصول إلى الموظف المسؤول عن متابعة قضايا العاملين المتفرغين للعمل في هذا القسم، وكان الرجل بدرجة مدير، وقد استقبلني السيد أبو شذى أو أبو سعد وهو المدير المكلف بهذه الوظيفة، بودٍ وبشاشة.
ولأنني لم أراجع الدائرة منذ وصولي إلى العراق يوم 22 كانون الثاني 2002 وحتى يوم الاحتلال الأمريكي البريطاني البغيض للعراق يوم 9 نيسان 2003، غير مرتين أو ثلاث مرات فلم أسأله عن اسمه ولم يعرفني بنفسه ربما لعدم حاجتي إليه، كان يعمل معه في القسم عدد غير كبير من الموظفين الإداريين، ويشتغلون في الجهاز الطباعي وإعادة إرسال الكتب والأوامر الإدارية التي تأتيهم من الجهات العليا، كان لافتاً للنظر أن مديراً هو الذي يدير شؤون مدراء عامين في هذا القسم، وربما بقي الحال على ما هو عليه، لأن جميع كبار الموظفين المُنسبّين إلى هذه الدائر أو المكتب أو الإدارة، لا توجد عندهم طلبات أو معاملات كما هو حال بقية موظفي الدولة، فلا دوام رسمي ولا علاوات سنوية ولا ترفيعات دورية، وكل واحد منهم يحمل هوية رسمية تُشير إلى عنوانه الوظيفي والدائرة المنسب لها، يمكن أن تُعينه في تمشية مراجعاته مع الدوائر الحكومية.
رحب بي السيد أبو شذى بحرارة بعد أن تعرّف عليّ وهنأني على عودتي سالماً من أسر طويل، وقال إنه ظن هو وغيره من العاملين في القسم، أنني لن أعود وذلك لعدم توفر أي معلومات عني لدى الجانب العراقي، وقال لي إن زوجتك كانت تتابع شؤونك بلا كلل، وأبلغني أن التقييمات السياسية والأمنية وبتفصيلات كاملة عنك من جهاتها المختلفة قد وصلت إلى القسم، وقال نحن بصدد اتخاذ الاجراءات الإدارية الخاصة بملفك، وقال لي إن مرسومَ نوطيْ الشجاعة سوف يستدعي صدور أمر من رئاسة ديوان الرئاسة بتعديل راتبك، لأن المرسوم يقضي برفع راتبك بنسبة 150% إضافة إلى المزايا الحزبية، وقال لي إن قراراً بمنحك مكافأة فورية تصل إلى عشرين راتباً بواقع آخر راتب شهري عن كل سنة قضيتها في الأسر قد وصل ايضاً، وهنا لاحظت فرقاً مؤكداً في صيغ التعامل معي في هذه الدائرة، قد مسح ما علق في ذهني من جفوةٍ وإهمال قبل دخولي هذا المبنى، الذي يعكس موقف أعلى سلطة سياسية في البلد.
وزودني السيد أبو شذى بنسخ من الوثائق الخاصة بتلك القرارات والأوامر، وأخبرني بأن الامتيازات الممنوحة لكل أسير متميز، تشمّل منحه قطعة أرض سكنية في مسقط رأسه، أما ضباط الجيش فإن ترفيعاتهم وامتيازاتهم التي يحصل عليها أقرانهم من الضباط المستمرين في الخدمة فهي جارية عليهم، فكثير من الضباط الذين تأسروا برتبة ملازم، ولكنهم عندما عادوا وجدوا أنهم يحملون رتبة عميد، وكانت هذه أعلى رتبة تمنح للأسير ممن هو برتبة صغيرة ويحال على التقاعد بها، وقلة هم الذين استمروا بالخدمة في الجيش.
ربما كنت الأسير السابق الوحيد من بين المدراء العامين المنقولة خدماته إلى هذه الدائرة، وحسب ظني أن من تم نقلهم قبلي أو بعدي، هم من كبار موظفي الدولة الموجودين في العراق لأسباب كنت قد تعرضت لها بالشرح سابقا، وقد وجدت أن من مفارقات تسمية هذه الدائرة، أنها وعلى الرغم من أن جميع المنّسبين إليها هم بدرجات وظيفية عليا، أنها تسمى (قسم)، والقسم هو في جدول التقسيمات الإدارية الجاري العمل بها في العراق بموجب قوانين الخدمة، هو إدارياً أقل من مديرية ويضم القسم عدة شعب، والأقسام بصرف النظر عن عددها تشكل مديرية، والمديريات تشكل دائرة أو مديرية عامة، وبتقديري أن إبقاء الاسم القديم أي “مكتب شؤون المنظمات الشعبية” أدق في توصيف الحالة التي يجب أن تكون عليها هذه الإدارة، بصرف النظر عن تبعيتها، سواء لمجلس قيادة الثورة أو لديوان رئاسة الجمهورية، ثم إنني لم أعرف على وجه الدقة عما إذا كان هناك مدير عام لهذا القسم أم لا؟ أم أنه مرتبط مباشرة برئيس ديوان رئاسة الجمهورية؟
كما قلت أبلغني السيد أبو شذى بأن لي مكافأة بمقدار عشرين راتبا، بواقع راتب واحد عن كل سنة أمضيتها في الأسر، ولكن كان علي مراجعة مديرية التجنيد في منطقتي، لإنجاز معاملتها وأخذ الصك المصرفي، وكان علي أن أقوم بعدة خطوات للمباشرة بفتح الملف، الخطوة الأولى تأكيد أنني ضمن منطقة التجنيد باصطحاب دفتر الخدمة العسكرية، والثانية تأكيد وقوعي في الأسر وعودتي منه وحصولي على نوطي شجاعة، وثالثا جلب كتاب من ديوان رئاسة الجمهورية يؤكد وظيفتي فيه ويشير إلى مرتبي الشهري، أكملت كل هذه المستلزمات التي لم تستغرق وقتا طويلا.
كما أُبلغت بأن راتبي الشهري يُصرف نهاية كل شهر في مصرف الرافدين في الصالحية في شارع حيفا.
كنت أراقب الأوضاع الاجتماعية وتأثير الأوضاع الاقتصادية فيها بصمت مراقب يحب العراق، وكنت ألاحظُ ظواهر تسللت إلى المجتمع لم تكن موجودة من قبل مثل التسول وباعة “البسطيّات”.
خلال متابعتي لمعاملة مكافأة العشرين راتباً مع أخي مأمون، لاحظت أن هناك حالات من التبدل وإن كان طفيفا، في قيم المجتمع العراقي، يمكن أن أصفها بأنها ضعف القدرة على تأمين بعض الرفاهية التي تعوّد عليها العراقيون، عند بعض الافراد الذين كنا نراجعهم في الدوائر، وأن شيئا خفيّا يُوشك أن يطل برأسه ولم يكن ليبرز في المجتمع العراقي قبل الآن، وإن كان بدرجات محدودة قد وصل إلى المؤسسة العسكرية، التي كنا نفاخر بها ونباهي العالم.
أعود إلى معاملة المكافأة التي صدر قرار بمنحي إياها، في مديرية التجنيد، كان نائب ضابط هو الذي يتولى إنجاز المعاملة، وكان بدرجة عضو قيادة فرقة في الحزب أو هكذا زعم، وكان متنفذا في دائرته على ما استنتجتُ، وكان ضابط التجنيد برتبة عميد ولم أعرف درجته الحزبية، ذات مرة وإذ كنت جالسا في غرفة نائب الضابط، حضر العميد مدير التجنيد، ولا أدري إن كانت الزيارة مرتبة أم لا؟ فقال نائب الضابط (سيدي لا تَدوخ إن شاء الله نُنجز معاملة الرفيق نزار وسيشترى لك “كب” لإطار سيارتك المرسيدس)، ويبدو أن نائب الضابط وبعد أن عرف بدرجتي الحزبية قد ازال الحواجز بيننا أو هذا ما أراد، انتظرت من العميد رد فعل على هذا الطرح الغريب، ولكن لم يحصل شيء، هل كان نائب الضابط يمزح مع أسير بدرجة حزبية ووظيفة عالية، وهل وصلت العلاقة بين نائب ضابط وآمره العميد إلى هذا الحد من التباسط والانفتاح؟ ولكن ما هي قيمة “كب إطار سيارة مرسيدس؟ وهل من يمتلك سيارة مرسيدس بحاجة إلى يلوث سمعته بهذه الطريقة الرخيصة للتسول بالنيابة”؟
ربما كان مبعث صمت العميد بوجه نائب الضابط، من أنه لم يَشأ أن يؤنبه أمامي على الأقل، وربما يدّل على الرضا، حقا كانت وقاحة هذا التصرف توحي بشيء جديد دخل على منظومة القيم السائدة.
ولكنني عندما أراجع صورة المشهد أضع أمامي كوابح كثيرة قبل أن أمضي في تفسيراتي السوداوية، فالضابط كبير وليس بحاجة إلى مثل قيمة (الكب)، وكان يعرف بأنني مدير عام في ديوان رئاسة الجمهورية، ويمكن أن أوصل المعلومة للمراجع العليا أن لم يكن يمتلك النزاهة الكافية، وبالتالي فما جرى مجرد مزحة ثقيلة خرجت عن حدودها من قبل نائب ضابط ربما تعرض للتوبيخ بعد مغادرتي.
وأخيرا تسلمت الصك ومضيت إلى مصرف الرافدين لصرفه وكان يبلغ حوالي مليون دينار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى