مقالات

الخروج من قصور آيات الله 18

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب

كان الأسرى المعاقون الذين تمت إعادتهم بموجب اتفاقات ثنائية سابقة بين العراق وإيران، مع دور محدود جدا للجنة الدولية للصليب الأحمر، وكذلك الأسرى الذين أعيدوا على دفعات مختلفة قبل دفعتنا منذ يوم 17/ 8/ 1990، قد نَقلوا للجهات الأمنية العراقية، صورة عمّا كان يحصل في معسكرات الأسرى لا سيما المعاقبين في المعسكرات المخفية بسبب موقفهم الوطني، من تعذيب وحشي لم تعرف له الإنسانية مثيلا إلا في العصور الغابرة، ومن تجويع مقنن واهمال طبي متعمد، كل ذلك ادى إلى تفشي أمراض معدية، مثل الاسهال الدموي الذي كان يضرب معسكرات بكاملها، مما كان يؤدي إلى حصول حالات وفاة شبه جماعية مع عجز رسمي بل تعمد في الاهمال من إدارة المعسكرات والأجهزة الطبية، التي لم ترتقِ في خدماتها لمعسكرات الأسرى الى مستوى ما تفرضه اتفاقية جنيف الثالثة، لهذا كله فقد اتخذت الجهات الرسمية العراقية قرارا ملزما لكل الأسرى بمراجعة المستشفيات العسكرية على مستوى المحافظات، وخاصة مستشفى الرشيد العسكري لسكنة بغداد والمحافظات القريبة منها والتي لا يوجد فيها مستشفى عسكري، ووفقاً لهذه التعليمات المبلّغة لنا، بدأ الأسرى بالتدفق على تلك المستشفيات للحصول على تقارير طبية عن أوضاعهم الصحية وما يمكن أنهم حملوه من أمراض سارية يُخشى من نقلها إلى العراق، كان كل أسير يحمل في جسده مجموعة أمراض مزّمنة، إما أصيب بها نتيجة ظروف الأسر القاسية، أو أنه كانت كامنة فيه ولم يشعر بها إلا بعد ما أصابه من وهن نتيجة المعاناة من الجوع أو من التعذيب أو من الشعور بالقهر.
لكن رد فعل الجهات الأمنية العراقية على ما وصلها من معلومات موثقة من أسرى سابقين عمن تبقى من زملائهم ورفاقهم، لم يكن بمستوى يعبر عن اهتمام بمصائر عشرات الآلاف من الأسرى الذين استمرت إيران باحتجازهم، بل تعاملت بلا مبالاة مثيرة للأعصاب حقا، لاسيما وأن من بقي لدى إيران هم من الأسرى الذين لم تعرضهم إيران على اللجنة الدولية للصليب الأحمر في حرب سياسية رخيصة ضد العراق، وبالتالي فهم في نظر بلدهم ونظر أهلهم وبنظر القانون الدولي مفقودون.
كان كثير من الأسرى وخاصة من الذين أمضوا زمنا طويلا في معسكرات العدو، يعانون من متاعب صحية مختلفة وأمراض مزمنة مثل أمراض السكر والضغط والكِلية والقلب وضعف البصر وحتى بعض الأمراض النفسية، مما يستوجب تأشير درجة العجز لكل أسير، وذلك من أجل شمولهم برعاية طبية خاصة في المستشفيات التابعة لوزارة الصحة أو في المستشفيات العسكرية حسب الجهة التي ينتمون إليها.
كان الإيرانيون سريعي الاستجابة للمتغيرات الميدانية في ملف الأسرى العراقيين على نحو مثير للدهشة حقاً، ولأن التبادل توقف عند حدود أربعين ألفاً، يوم الخامس عشر من أيلول 1990، ولأن إيران كانت تلعب على وتر إثارة متاعب سياسية لنظام حكم “البعث” وتأليب الشارع عليه، فقد حرصت على إجراء تنقلات واسعة للأسرى من معسكراتهم السابقة والتي كانت معروفة من قبل الأسرى العائدين، إلى معسكرات تم استحداثها سريعا، كي تصبح معلومات الأسرى العائدين عن أسماء المعسكرات ومواقعها قديمة، وحينها حتى إذا تحركت إنسانية الصليب الأحمر وحاول القيام بزيارة لها، فإنه سيجدها قد أغلقت أبوابَها من مدة ليست قريبة.
أظن أن الأسير العائد وبعد الذل الذي فرضته إيران، لا يصلح لتأدية وظيفة مدنية أو عسكرية مرة أخرى لأنه يشعر بانكسار نفسي قد يعرقل إصداره الأوامر لمرؤوسيه، لأن الوظيفة العامة مدنية أو عسكرية، فيها سلطة واجبة الطاعة، وإن أحس الرؤساء في نفسهم شيئا من تردد لأي سبب من الأسباب، فإن من العسير عليهم تمشية أمور الدوائر المسؤولين عنها، ويأخذ هذا مداه في الوحدات العسكرية بشكل خاص، وعلى الأسير أن يتقاعد حتى إذا شعر البعض بأن الاستمرار بالوظيفة هو شهادة للأسير بأنه لم يتلوث بأدران الأسر، غير أن معادلة حرجة هي التي تحكم هذه المسألة، فالأسير إن طلب أن يُعفى من الوظيفة، فسيفسرُ موقفُه بجحودِ بلده، وأنه يستنكف عن خدمته وقد يشعرُ بغربة في مقر وظيفته.
وإن طلب البقاءَ في الوظيفة فقد يَستدعي ذلك تساؤلات عن دوافع هذا، والأسير في غنى عن استيلاد أسئلة مضافة إلى رصيده، لذلك فإن الصمتَ هو الحل الأمثلُ الذي يناسبُ حالة أسيرٍ عائد من بلد معادٍ شديد العداوة مثل إيران مارس أسوأ عمليات غسل الدماغ مع الأسرى، ويجب أن يكون هذا سيد الموقف.
ساعدني الصديق العزيز العميد الطيار المتقاعد بشير عبد الرحمن الخضير، وهو زوج ابنة عمي عروبة شامل السامرائي، إذ تطوع للذهاب معي الى مستشفى الرشيد العسكري، وفي اليوم المحدد زرنا معاً صديقه اللواء الطيار الطبيب محمد صبيح آمر (مدير) المستشفى في مكتبه، وبعد أن شرح السيد أبو مصطفى “بشير الخضير” الهدف من زيارتنا، رحب بنا وهنأني على سلامة العودة من الأسر، وقصصت عليه معاناة الأسرى ككل في معسكرات إيران، وقد أعلمني أن الجهات الرسمية العليا كانت قد شكلت لجنة طبية مشتركة من مختلف الاختصاصات الطبية لفحص الأسرى وتحديد الأمراض التي يُعانون منها، ولهذا أمرَ اللواء الدكتور محمد صبيح، بإحالتي إلى تلك اللجنة، وعندما عُرضت عليها، انهالت علي الأسئلة من أطباء متخصصين يسعون لمعرفة كل ما أشكو منه، وإصدار التوجيه اللازم بشأن ملفي، ولأن مستشفى الرشيد العسكري هي المستشفى المركزي للجيش وعليها زخم من المراجعين العسكريين، ولما لم أكن عسكريا وإنما كنت متطوعا في ألوية المهمات الخاصة، ولما عرفوا بوظيفتي في ديوان رئاسة الجمهورية، فقد نصحني أعضاء اللجنة، بمراجعة مستشفيات مدنية أو أطباء متخصصين في الجملة العصبية وقالوا إن الدكتور سرمد الفهد صاحب سجل كبير في هذا الاختصاص، وكذلك مراجعة طبيب للعيون وخاصة بعد أن اكتشفوا بأنني فاقد للبصر إلا قليلا، وكذلك عليّ مراجعة طبيب لأمراض القلب بسبب تعرفهم على حالة أعاني منها والتي أسموها (بالنبضة الشاردة)، ونصحوني بمراجعة مركز البيطار في الصالحية بجانب الكرخ، والذي يديره طبيب القلب الاختصاص الدكتور عمر الكبيسي.
أخذت الملاحظات وبدأت مراجعة الجهات المُؤشرة تباعاً، ولأن الملف الصحي ملف طويل فقد أفردت له جزءً مستقلا من هذه السلسلة.
بعد مدة من التحرك على المستشفيات والعيادات الخاصة، صدر التقرير الطبي الخاص بحالتي الصحية، وتبين بأنني أحمل سلة ثقيلة من الأمراض التي تتراوح بين الخطورة والمتوسطة والبسيطة، وتم تزويدي بتقرير يشير إلى أن درجة العجز عندي هي 100% وهي الدرجة التي تؤهل الأسرى للحصول على مزايا مالية أو الإحالة على التقاعد، ويبدو أن هذا التقرير ينفع العسكريين الذين يريدون التسريح من الخدمة العسكرية بعد ان ينالوا راتباً تقاعدياً.
أعود قليلا إلى الوراء فأقول، ربما كنت عندما تطوعت إلى ألوية المهمات الخاصة عام 1981، أقدَمَ عضو قيادة فرقة في حزب البعث العربي الاشتراكي، إذ تمت ترقيتي من عضو عامل إلى عضو قيادة فرقة في شباط 1967، بعد الانشقاق الذي تعرض له الحزب والذي قادته عناصر انشقت عن الحزب عام 1966، اصطفافاً مع المنشقين السوريين، الذين نفذوا انقلاباً عسكرياً على الشرعية في 23 شباط 1966، وبقيت بهذه الدرجة ولم أصعد إلى غيرها، وذلك بسبب انغماسي في الإعلام أكثر من النشاط التنظيمي للحزب، وعندما توجه لواؤنا (اللواء 11 مهمات خاصة) إلى جبهة الشوش يوم 16 آذار 1982، كنت بهذه الدرجة الحزبية، لكنني وعندما زارني الصديق العزيز والأخ الكريم الاستاذ عبد الغني عبد الغفور في منزلي بعد عودتي من الأسر، أبلغني بقرار القيادة بترقيتي إلى عضو قيادة شعبة بعد مدة قصيرة من أسري، ولما كان نوطا الشجاعة يُرتبان لي حقاً في الترقية الحزبية، فقد كان يجب أن أصعّدَ إلى درجة عضو قيادة فرع على الأقل، إن لم أصبح عضو مكتب، ولكن الأمر ضاع بين الروتين الذي تسلل إلى المؤسسة الحزبية من مؤسسات الدولة، ووقع الاحتلال ولم يصدر قرار اللجنة التنظيمية بهذا الأمر، بل تم الاتصال بي بدرجة عضو قيادة شعبة العدل، لحين صدور قرار اللجنة التنظيمية التي كان يرأسها السيد عزة الدوري نائب الأمين العام للحزب قبل الاحتلال، وتسلمت اللجنة الثقافية في الشعبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى