مقالات

(الشهيدالسعيد موسى القرني)

سلطان العبدلي

مؤرخ حجازي
عرض مقالات الكاتب


رأيتُ خصال الخير، ورداً وسوسنا


وجرَّبتُ بعض الخلق دهراً وأزمُنا


فلم أرَ في المخلوق عيباً سوى الذي

يَضِنُّ بجودٍ، أوْ يحابي ذوي الغنى


رأيتُ الكرامَ الصِّيدَ أنزهَ مقصدٍ


فما عرفوا سُبْلَ المخازي ولا الخنا


تشَوَّفَ هامُ الدهرِ يحكي فعالهم


فعاد بأذيــــال الـــهزيمة ،مُـــذعنا

وفي الخلق إحسانٌ وجودٌ ورحمةٌ


كمن لنداء العدل ؛ قد قام مُعلِنا


كمثل فتى بلقرن، في الرِّفْدِ والندى


هو الشيخ(موسى)أفصح الناس ألسنا


وقلباً حباه الله كالطَّلِّ في الرُّبى

ذكاءً ،وإخلاصاً، وعقلاً مُقَنَّنا


فياربِّ حرِّرْ أسره واحم دربه


ليرجع للأهلن أقوى وأرصنا

في ٢٠١٠ كتبتُ هذه الأبيات بعد معرفة استمرت سنين قصيرة ولكنها عميقة ، فسافرت معه وعملت معه، بل عنده، في مكتب المحاماة في المدينة المنورة،وعرفت بعضا من خفايا حبه الخلقَ، وسرعة بديهته السخية التي تفاجئ الأبعدين قبل الأقربين.
ومن عجب أنك تقرأ عن مثل هذ الفذِّ، وهو يعيش بيننا في زمن تبدلت مفاهيمه وتغيرتْ قيمه، أي الناس كذلك.
زمنٌ ضاعتْ الموازينُ فيه فغدا الدرهمُ الرديئ جنيها

آخ منك – ياشيخنا موسى- ، قد أتعبتَ من جاء بعدك توهجا وذكاءً ولوذعيَّةً، فأنت الذي كنتَ المقدم في محافل الفضل والنُّبْل ،وأنت المجرَّب في حَلْبات المجد والبطولة، سلوا أفغانستان وجبالها ومعاهدها وأربطتها عن موسى بن محمد بن يحيى القرني الدكتور الشاب الذي هاجر بأهله ميمماً لتعليم الأفغان ومجاهدا بطلا، وسلوا عن فتى بلقرن مهامه الردى في دولة ال سعود عام الـ١٩٩١م لمّا أعلنها صريحة مدوية في منبر مسجد قباء،مخاطباً آل سعود قائلا ومزمجرا:
(يا آل سعود؛ أخبرونا أنتم مع الإسلام ،أم مع العلمانيين؟)
موسى القرني الداعية المبتلى بنظام فاجر ،لايقدر العقول الجبارة ولا الهمم التي تنقطع دونها حيازيم الصبر!
موسى القرني عالمٌ أُصوليٌّ متكلم ،وقد ألان الله له الكلام كما ألا ن لداؤود الحديد.
موسى القرني صادق النفس فقيه الأخلاق متواضع الجانب، تعجب منه وهو من هو وتراه همَّاماً في كل درب من دروب الخير.
موسى القرني الذي كان في جماعة الإخوان المسلمين منذ الشيخ المصري ومناع والزايد، وترك الجماعة وراح منطلقا حرا متحررا من ربقة الانتظام لشساعة الانعتاق، يضرب من كل غنيمة بسهم.
موسى القرني الشجاع الذي أرهقتْ بسالته أقرانه، ومن ورائهم وزير الداخلية وجلاد السجون نايف بن عبدالعزيز، لمَّا التقاه في لقاء استمر ساعات ثلاث.
موسى القرني الذي أسمع نايف وشاهِدَه الذي جاء به ، مالم يسمعه في حياته!
نعم ، موسى يقول للجلاد: أخبَروني أنك ظالم وها أنا أوقن بما أخبروني به.
موسى الذي زعزع أركان الجلاد لما رفض الانصياع لمطالبه الجائرة ألَّا يستقبل أحدا في بيته وألَّايُضيِف أحدا، فقال للجلاد: اعطني أمرا بمنع من يطرق بابي من الدخول، وأريه خطاب المنع.
موسى القرني هو الذي واجه الجلاد بقوله :إنْ كنتم تمنون علينا برخصة المحاماة ،فخذها ولاحاجة لي بها،وإلا فنحن اضطررنا لها كالمضطر لأكل الميتة ؛ بعدما قطعتم سبب عيشنا وضيقتم أرزاقنا وفصلتموني من الجامعة بأمر ملكي دون أدنى حقوق.
موسى القرني هو الذي صفع الجلاد نايف وزير الداخلية بقوله:إن ماتفعله سياسة فرعونية مذمومة(ما زريكم إلا ماأرى وماأهديكم إلا سبيل الرشاد).
موسى القرني ، أبو محمد لله ما أطيبك وأنقى ضميرك وأنصع بيانك!
عجيب أنك فارقتنا ونحن لم نعبَّ بعدُ من معينك!
يكفينا فيك أنك جاهدتَ في الله حق جهاده، وبلغتَ درجة المجاهد والمتصدق والصائم كل مبلغ حميد محمود.
يكفيك أبا محمد صعودك لله شهيدا مجيدا وهاهم الناس ألسنة الحق وأقلام الصدق تلهج بذكراك في كل مقام أجل.
اعتقلوك وسجنوك وضيقوا عليك وافتروا عليك الكثير والكثير ، ولكن في ذات الله وعنده الجزاء، فما عسى مثلهم أنْ ينالوا من مثلك؟
قضاؤهم الظالم الأجير حكم عليك بجرة قلم من وزير داخليتهم الذي:
يملك مبنى المحكمهْ
ويمللك القضاةَ
والحُجَّابْ
عشرون عاما في حكم محكمة ظالم، كانت كل سنة تقضيها في زتزانتك؛ حُمماً تتقاذف على قبر نايف وزير داخليتهم الآثم .
عشرون عامًا، وكان الحكم من قاضٍ تجرد من إنسانيته قبل كرامته ومهنيته.
عشرون عامًا، تطحن بعضها وتتعثر في بعض، وننتظر أنْ نراك منتصرًا مؤزرًا .
عشرون عامًا، وأنت لم تقضِ غير ثلثيها مع أن الثلث كثيرٌ، ثم صعدتْ روحك لبارئها،واشتاقتْ إلى صاحب المحكمة الأخيرة.
عشرون عامًا، وكنتَ فيها منذرا ومنددا بسجنك وماتلاقيه أنتَ ورفاقك الرشودي وسعود الهاشمي والبقية، من مآسٍ لايصدقها من يعيش في بلد يُقال أنه يدعي الإسلام!
عشرون عاما، نالت منك ومنها خمسة عشر عاما حظها كاملة غير منقوصة، وأنت صابر محتسب.
حتى في زنزانتك وأنت لم تصمت على ظلمهم وطيش استبدادهم ، فدونت مايجري بكم ولكم ؛ في سجون آل سعود الطغاة، من نكال وعتوٍّ وقهر ، وأنتم من أنتم في مقاماتكم ومراتبكم، لتشير للعالم والتأريخ من ورائه ،أن هذه قبور العلماء ومصير المثقفين ومآل المفكرين من أبناء البلد المخلصين.
كتبت بقلمك قصيدك ، بل كتبتَ بمداد دمعك ولوعتك، مافعله بكم المدمن محمد بن نايف ووالده الهالك،لتوثق للدنيا أنْ هذه البلاد التي تروِّج لنفسها بأنها حامية الإسلام وخادمة الحرمين ، هكذا ولاة أمورها يصنعون بفضلائها وعلمائها والغيورين.
وقد صدق فيهم ماقاله الشاعرك
وسِعَتْ أساطيلُ الغزاة بلادَه لكنَّها ضاقتْ على الأراءِ
في قصيدتك تلك من زنزاتنك والتي مطلعها:
إلهي لك الشكوى وأنت المدبرُ. وأنت الذي تجري الزمور وتقدرُ
في أكثر من مئة بيت تصف مافعله بكم الجلاد في تعذيب ممنهج ومقصود وإهانات عجيبة!
ثم كتبتَ التصبيرة التي تداوي بها جراح خوان في السجن:
صبرًا أخي فالسجن ليس بعارِ- إن السجون صوامع الأبرارِ
ماأدخلوك لأجل جرم جئتَه- لكن أرادوا ذلة الأحرارِ
فاثبت فإنك لست أول داخل – واصبر فهذي سنة الأقدارِ
يا صاح لاتحزن فليس السجن – أن تبقى رهين ثلاثة أمتارِ
إنْ يسجنوا جسدا فروحك حرة- ورؤاك قد دارت على الأقطارِ
إلى آخر القصيدة..
ياخيبة الأمة التي يُغتال خيارها في المقابر الجماعية في سجون ومعتقلات المستبدين، فهذه أمة غير جديرة بالبقاء والخلود.
نعلم -شيخنا الشهيد- أن الثمن من الراحة والمال والجاه وها أنت تبذل روحك ثمناً لما آمنتَ به، فمضيت شهيدًا سعيدًا.
نكتب عنك اليوم وليس نملك إلا أنْ نكتب ونقول ،نردد على مسمع الزمن وأنْ تصغي لنا أذن الدهر، أنْ هؤلاء كبراؤنا وأهل التضحية فينا.
ولئن جاءت الأمم يوم القيامة بفضلائها جئنا بشهدائنا وأبطالنا.
الحياة كلٌّ منَّا سيرحل عنها ،ولكن أسعد سعيد فيها من قضى نحبه وهو شامخ المنهج راسخ اليقين ثابت الهمة.
مضى الطغاة ومضى المناضلون، فبقي المصلحون ولعنتِ الدنيا كل من دمَّر أمته وشعبه.
مضواْ وألسنة الأجيال تلعنهم
واُتبعوا في اللحود السُّود تبكيتا
أسماؤهم في رؤى التأريخ مظلمةٌ
كم مجرمٍ كان في الإفساد خِرِّتيا
سلام عليك -ياموسى- في الأولين
وسلام عليك في الاخرين
سلام عليك كلما لحق بطل بسلفه
وسلام عليك كلما انتضى سيفَ المجد ساعد
وسلام عليك إنْ اعتزى ذو النخوة بالأماجد
سلام عليك وعلى إخوانك في الخالدين.
ولاتحسبنَّ المجد زِقَّاً وقينةً فما المجد إلا السيف والفتكة البكرُ
فما أقول لك إلا ماقاله أبو تمام:
ثوى طاهر الأردان لم تبقَ بقعةٌ، غداة ثوى إلا اشتهتْ أنها قبرُ
(ولاتحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ،بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى