مقالات

فتنة الإخوان بين الممكن والمحتمل!

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي
مدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا
عرض مقالات الكاتب

فتنة الحكم في تاريخنا
عندما يعن للأمم معضلة تهرع إلى تاريخها عساها تجد لدى الأولين حلا تهتدي به، ولعل فتنة الحكم في تاريخنا نحن أمة الإسلام من أعظم الفتن التي لا تزال آثارها ترمي بظلالها على حاضرنا وستظل في مستقبلنا، فهي فتنة هذه الأمة واختبارها إلى يوم الدين.
سبعون ألف مسلم أو يزيد قتلوا على يد إخوانهم في معركة صفين، وهو العدد المفجع الذي جعل الصحابي سهل بن حنيف، الذي وجد في قلوب بعض الناس وجدا من القتال الذي حدث بينهم، فحتى من يرى في الإمام علي حق الطاعة لخلافته المستحقة، إلا أنهم متحرجين من قتالهم إخوانهم، وعلى الطرف الآخر كثير ممن يرون في معاوية أحقية لما يحمله من عهد بمقاتلة قتلة عثمان، إلا أنهم يجدون ما وجَد إخوانهم في صف علي، وقال قولة _ سهل بن حنيف _ لا يذكرها الكثيرون، قال: (يا أيها الناس اتّهموا الرأي على الدين).
أي ربما كان الرأي حسن لكن الدين والشرع أصلح، وذكرهم بيوم الحديبية، وما رآه المسلمون من عدم إعادة من أسلم بعد الصلح إلى الكفار، وتمسك النبي صل الله عليه وسلم بإعادتهم.
وفي الفتنة أحجم العقلاء عن الخوض فيها، وكان للأشعث بن قيس الكندي قولة لا يتذكرها إلا العقلاء إذ قال: (قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، يقصد صفين، وما قد فني فيه من العرب، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، أنَّا إن نحن تواقفنا غدا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات).
فلما وصل الخبر لمعاوية قال: (أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غدًا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلنَّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنُّهى).
ورغم فهم معاوية وإدراك علي فإن أصحاب المصالح والهوى والنافخين في الكير أعلوا أصوات طبول الحرب حتى صمَّت آذان العقل، ودفعت الحمية بدعوى الشرعية، وتمسك كل طرف برأيه وكانت المقتلة الأعظم والفتنة الكبرى، ولا يزال أعداء هذا الدين يستغلونها إلى يوم الناس هذا، بل شرعنوا ما نتج عنها في دين تراق من أجل الثأر فيه دماء المسلمين الحرام، وينفقون على إبقائها المليارات إيغالا في دم المسلمين ويستبيح بيضة المسلمين.

أدبيات ضاعت في تيه الفتنة
لم تكن دعوة جماعة الإخوان المسلمين وحيدة متفردة في زمانها، التي تدعو إلى الله وتوحيد صف المسلمين بعد أن انهارت خلافتهم وتقطعت بأمصار الخلافة السبل قبل أن يقطعها الكيان المحتل لأرض فلسطين جسر شرق المسلمين بغربهم، لكن الجماعة بما قيض الله لها من رجال ربانيون وهبوا أنفسهم لنصرة دينه من دون النظر إلى سلطة أو جاه كانت الأقرب لنفوس سواد المسلمين في مصر قبل أن يجعل الله من المحنة منحة لتنتشر الدعوة في أغلب بلاد العالم والهدف هو الانتصار للدين مُنَحين حظوظ النفس، ما استطاعوا، جانبا، ولقد كان لأدبيات تلك الجماعة أكبر الأثر في تربية الروح قبل السلوك، ولقد كان للإمام المؤسس من الرسائل مايحث على ذلك، ففي رسالة “إلى أي شيء ندعو الناس؟” يقول البنا تحت عنوان وصاية المسلم تضحية لا استفادة: ( ثم بين الله تبارك و تعالى أن المؤمن في سبيل هذه الغاية قد باع لله نفسه و ماله فليس له فيها شيء و إنما هي وقف على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس و ذلك قوله تعالى :”إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ”).
فلا حظ للفرد ولا القائد في رئاسة ولا يطلبها بكثب عليها، وإنما أراد البنا أن يربي رجالاً أوفياء مضحين أمناء يمتلكون إرادة قوية يسيروا بالأمانة التي تحملوا من أجل الإسلام والمسلمين إلى إعلاء كلمته، وهم في ذلك يرون في الجماعة سفينة لا بر، غاية لا هدف، لذلك فإن من يتولى القيادة إنما هو مستأمن وليس مستخلف، خادما لا سيدا، يقوم بدوره حتى إذا ما شعر بتقصير أو أشعره إخوانه بذلك تنحى وسلم الأمانة إلى من هو أجدر منه، من غير ملامة تلاحقه ولا نقيصة توسمه.
في رسالة التعاليم للمؤسس يسمي البنا أركان البيعة في الجماعة وفي بند الإخلاص يقول: (وأريد بالإخلاص: أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله)، وفي بند التضحية يقول: ( وأريد بالتضحية :بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية , وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه , ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية , وإنما هو الأجر الجزيل و الثواب الجميل ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم).
فإن التضحية مع الجماعة لا بالجماعة هو ما أقره المؤسس ودعا له وحث العمل والاجتهاد من أجله، فلا يعلو الفرد على الجماعة ولا يقدم مصلحته الشخصية على مصلحة المجموع وهنا تأتي التضحية التي رسمت لمن انتمى لهذه الجماعة على مستوى الأفراد، فما بالنا بالقيادات.

من أين جاءت الأزمة؟
قد يظن البعض أن أزمت الإخوان نشأت تزامنا مع أزمة الانقلاب في مصر، لكن الحقيقة التي لا يمكن أن نتغافل عنها هي أن الأزمة موجودة وتنامت حتى عظمت مع انقلاب الثالث من يوليو 2013 بعد الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب والاطاحة بالجماعة وكل من وقف معها من أجل حماية مكتسبات الثورة ولو لم يكن راض عن أدائها وأداء الرئيس، فأزمات الجماعة انعكست بشكل مباشر على مصر وثورتها، وجعلت الملتفين حول الثورة يكفرون بها وينتحرون بإلقاء أنفسهم في تيه الانقلاب والتمهيد له كرد فعل على أزمة القيادة في الجماعة التي قادت تلك الفترة.
الأزمة الحقيقية التي عاشها الإخوان متشعبة من مناهج وأساليب التربية، وما يرشح عنها من جمود وعدم مواكبة الأساليب العصرية في المناهج والتربوية، إلى أزمة الرؤية وعدم مواكبة مقتضيات العصر والظرف، إلى فقدان ميزان الأولويات وتقديم المناسب على الأنسب، ومن ثم غياب الرؤية الاستراتيجية في فكر المخطط، الذي هيمن عليه أسلوب إدارة رد الفعل وأصبحت الأسس، في حين أسست الجماعة على يد مؤسسها على عماد الاستراتيجية والتخطيط بعيد المدى، وهو ما يدفعنا إلى إعادة النظر في أدوات وآليات الاختيار والترفيع، والمقومات التي على أساسها توكل المسئوليات، ما يعني ضرورة إعادة النظر في اللوائح المنظمة لعمل الجماعة، بما يفتح الباب بمرونة للتجربة والتصويب والتعديل، ويفتح الباب كذلك أمام المبدعين والمجتهدين، بعيدا عن فكرة الأبوية والتقييم بعدد سنوات السجن والتضحية، هو ما يتيح الفرصة لترجمة الفكرة لمشاريع بعيدا عن بيروقراطية التسلسل الأبوي التي أوجبتها شروحات التعاليم، وليس التعاليم.
ولعل الأزمة أتت من شروحات مخلة وتفسيرات مضلة أريد بها في وقت ما ضب خرق ما قد أصاب الجماعة، لكن تلك الشروحات وهذه التفسيرات غير ملزمة ولو كانت من قيادة تاريخية، فلا هم صحابة يستأنس برأيهم ولا حواريين يجلس على مائدتهم، فكل يؤخذ منه ويرد، والحقيقة الوحيدة هي أن الجماعة ليست الإسلام وجماعته، بل هي جماعة تخدم الإسلام في حيز زمني وجغرافي، تعرف كل مجموعة فيها ظروفها من غير برجماتية مضيعة للهدف الذي أنشأت من أجله، ولذلك فإن اختيار القيادة أزمة عاشتها الجماعة منذ محنة استشهاد المؤسس، وتفاقمت بتفاقم الأزمة الآن، وإن رأى البعض أن أزمة 1965 أكبر وأصعب، فإن الحقيقة أن هذه الأزمة الممتدة منذ 2013 أعظم من حيث الأثر، في ظل وسائل الاتصال التي أتخذها الجميع للنشر من غير وعي وإدراك لمآلات ذلك، وأثرها على القواعد والأنصار، وعلى من يرجون في الجماعة من غير الصنفين المذكورين أملا في إخراج مصر من أزمتها الأكبر.
على الرغم من أن الجماعة تملك من الكوادر الرائدة والمبدعة ما يؤهلها لإدارة العالم لا جماعة إلا أن أصحاب الكفاءات والتخصصات تواروا أمام التراتبية والتضحيات، فلا أستطيع أن أتصور حتى الآن أن يضع مهندسٌ استراتيجيةَ العمل السياسي واستاذُ سياسة أو تخطيط يطبقها، ولا أستطيع أن أتصور أن يضع طبيب بيطري لائحة نظام أساسي وتنفذ على أستاذ قانون، ويحدث ذلك بالطبع مدفوعا بالثقة والولاء، وهو ما يعني أن إحدى الأزمات تكمن في تمكين الثقات ولو ضعفاء على المتخصصين ولو كانوا أقوياء.
هذه اللوائح والتعليمات والأعراف المتوارثة من خلال التربية والتلقين أحدثت حالة طاعة متناهية من غير إدراك حقيقي لمآلات الأوامر المتخذة، ولعل التراتبية خلقت حالة من الرضا من أجل الترفيع، فالأكثر طاعة هو الأسرع ترفيعا، ولأن الجماعة لم تكن في بادئ الأمر تمتلك صلاحيات أو امتيازات، فإن المكانة المعنوية والوجاهة، كانت غاية المطيع، ألا وأن الأمر صاحبه المخصصات والمكافآت، فإن لزوم الطاعة يورث الغنى، وهو باب فساد عظيم تنهار معه الدول بل الأمم.
لعل الأسباب كثيرة وربما نفرد لها مساحة خاصة، ولكي لا يطول المقال نكتفي بهذا القدر لعله تشخيص أولي لمعضلات الجماعة الذاهبة إلى منحدر نريد لها ألا تبلغه، فالفتنة عظيمة والمخلصون لا يتحملون، فالصراع يلقي بظلاله على الحالمين فيحرفهم ويبقى وزر من حرفهم في عنقه.

فلنصلح خطأ التحكيم
الشائع في أمر التحكيم بين أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما أنهما بعد أن تشاورا في أمر علي ومعاوية رضي الله عنهما، خرج أبو موسى على الناس وقال إني أخلع عليا ومعاوية كما أخلع خاتمي هذا، ثم قام عمرو وقال ألا وأن الرجل خلع صاحبه فإني أخلعه، وأثبت صاحبي كما أثبت خاتمي هذا. وإن كانت الرواية بها شك، لكن النتيجة أن الناس ثبتت معاوية وانحازت له رغم كل ما كان، تمسكا بوجوب محاسبة قتلة عثمان رضي الله عنه، وهي الفتنة التي نعيشها حتى اليوم كما أسلفنا، لكن..
أما آن الأوان لإصلاح هذه الفتنة التي أصل لها التحكيم وذهبت بالأمة إلى ما ذهبت إليه، فماذا لو أخذنا برأي أبو موسى وخلعنا المتصارعين، ووضعنا قواعد تنظيمية يكون للمؤسسة فيها الأمر، لا الفرد.
إن الحاجة إلى المؤسساتية هي واجب الوقت، كما أن الحاجة إلى الحكماء واجب لا يدنو مرتبة عن الحاجة المذكورة، فأي عمل لا يقوم على أركان تنظيمية مؤسساتية متينة، زائل لا محالة، وإن استمر بالقصور الذاتي، وعليه فالواجب تبني منظومة قيمية يتمحور حولها عمل الجماعة، ما يعني إعادة ترتيب الأولويات التي تاهت في ظلمات التهجير والإقصاء والتفريغ من العقول الدافعة، ومن روح الشباب النابضة، ومن ثم وضع استراتيجية جديدة تعرف كينونة الجماعة وأهدافها وهويتها ومهمتها ومن ثم منهجها للوصول لما سبق، ولحصول ذلك فإن على الجماعة دراسة الواقع وتشخيصه، والنظر في بيئة العمل التي تنشط فيه سواء داخلية (الاستثنائية في المهجر أو في الداخل لأفراد الجماعة في مصر) أو الخارجية في ظل إعادة تشكيل المنطقة والاستهداف الواضح من قوى العالم المناهض للإسلام والأنظمة الموالية لها. ما يعني إعادة وضع السيناريوهات بناء على تلك المعطيات ومن ثم رسم المسارات والبدائل في حال تغيرت المعطيات.
هذه الاستراتيجية تستوجب إعادة النظر في اللوائح المنظمة والمسيرة لعمل الجماعة، لاسيما وقد أظهرت اللوائح عوارا أحدث شرخا أو فتح بابا للمراوغة في ظل عدم وجود أجهزة رقابية داخلية فعالة تسهر على تنفيذ تلك اللوائح وسير عمل الجهات التنفيذية، ما يعني إعادة النظر في الديمقراطية الداخلية للجماعة وإشراك القواعد في اتخاذ القرار صعودا بمقترحات وهبوطا بأوامر وقرارات، وفي ذلك تجب مراجعة نظرة الجماعة لنفسها مرة أخرى، كما قلنا من خلال استراتيجيتها والإجابة عن سؤال من نحن، وماذا نريد؟، هل هي جماعة دينية أبوية، يجب أن يطيع المريد فيها شيخه، أم جماعة اجتماعية سياسية إصلاحية تتخذ من أدوات الشورى الملزمة والديمقراطية العصرية لتنفيذ أهدافها؟
لذلك فمن الواجب تبني أسلوب إداري يتناسب مع الإجابة على هذا السؤال الجوهري، لتحقيق أنسب طريقة لتوجيه العملية الإدارية داخل الجماعة ومكاتبها الفرعية وشعبها لممارسة السلطة فيها من غير حظوظ للنفس وتسهيل العمل وفق مفهوم رضا الله ونصرة الدين، وهو ما ينتج عنه وقف حالة التردي الذي تشهده الجماعة، وإخماد فتنة الفرقة التي يحاول البعض إشعالها واستمرارها، وذلك من خلال رأب الصدع وتجميع القلوب والعقول والأفئدة، بإعادة التذكير بالأهداف الأولى التي أسست عليها الجماعة.

إن ما تمر به الجماعة الآن يذهب بنا إلى أحد سيناريوهين، بين الممكن والمتاح، إما أن تنهار الجماعة وتتفكك في ظل الاتهامات المتبادلة والمشكلات المستمرة والتلاسن في الإعلام ووسائل التواصل والتي تؤرق مضجع القواعد ما قد يتسبب في انسحابهم تاركين المشاكل لأصحابها ومن يتصارعون، وهو ما حدث بالأمس القريب، كما أن استمرار تلك المشاكل قد يقلق ويزعج المضيف ما يساهم في التسريع بحل مشاكله بحل الجماعة أو إزاحتها من أراضيه، لاسيما وأن هناك من يصطاد ويحرض من أجل الوصول لهذا القرار.
أما السيناريو الثاني هو أن يتحرك أصحاب الرأي والحكمة والذين انسحبوا من الساحة لعدم قدرتهم على الاستمرار في هذا الجو الملبد وحفاظا على ما كانوا يظنون أنه فرصة لمن أراد أن يقود أن يصلح الأحوال، وهم في ذلك أجدر على لم الشمل ونفي الخبث وإصلاح ذات البين ولو على حساب البعض، فالمصلحة العامة أولى من إرضاء أشخاص، ومن ثم تلتئم الجماعة، لتقوم بدورها المنوط في نصرة الدين والوطن.
ونختم بكلمات رائعة للإمام البنا عن التعامل مع المخالفين حيث يقول: (فنلتمس العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدا حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالا للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى