مقالات

الخروج من قصور آيات الله 17

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب

بعد أن استقر بي المقام في منزلي في حي العدل ببغداد، وبعد أن تقلص عدد الزوار وصار يتم في المساء فقط وبأعداد قليلة وعلى فترات متقطعة، قررت الاستجابة لإلحاح أقاربي وخاصة كبار السن منهم والذين لم يتمكنوا من زيارتي في بغداد، وذلك بالسفر إلى مدينة سامراء (125) كيلومترا شمالي بغداد، كان أشقائي ايضا يُلحون علي خلال وجودهم معي في حي العدل بالسفر والبقاء هناك لعدة أيام، كي أرى أقارب وصلوا من العمر عتيّا ولا يتمكنون من تحمل متاعب السفر، فوجدت أن في هذا الأمر وجاهة وما علي إلا الاستجابة، في اليوم المحدد تجمع أشقائي وأقاربي في منزلي استعدادا للسفر، أصر الشيخ أحمد يحيى السالم على أن استقل معه سيارته الخاصة، وتوجهنا إلى سامراء صباحا بركب من عدة سيارات، وقبل الوصول إليها وعندما وصلنا منطقة القلعة توقف الركب المكّوَن من عدد كبير من السيارات قرب نهير (جدول) الاسحاقي وكأنها زفة عرس، ونزل الجميع، وإذا بالشيخ أحمد يحيى السالم يترجل من سيارته ويطلب مني أن أفعل ذلك، وعندما وقفنا في الجانب الغربي لمدينة سامراء ولا يفصلنا عنها إلا نهر دجلة، وإذا بالشباب يترجلون من سياراتهم وهم يحملون الأسلحة النارية، ثم يُباشرون إطلاق النار من بنادق البرنو والكلاشينكوف والسمينوف، في احتفالية لافتة وكبيرة المغزى.
كان كثير من الأقارب الشباب بانتظارنا في تلك النقطة، فغائب ظهر إلى عالمهم على حين غرة من الغيب، وعلى عادتهم الموروثة يجب أن يُستقبل بهذه الكيفية، وعندما دخلنا مدينة سامراء توجه موكبنا الى مركز المدينة، وقبل أن نتوقف حتى في منزل أبي الذي أردت أن ادخله كأول محطة، أو منازل أشقائي، ذهبنا إلى مرقد علي الهادي، استغربت هذه الوجهة، عندما سألت إلى أين، قال لي أبو عمر “الشيخ أحمد يحيى السالم” نذهب للزيارة، عندها قلت “لكنني لا أؤمن بزيارة المراقد بأي قدر من المقادير، فلم يسبق لي أن فعلت ذلك وخاصة عندما امتلكت وعياً كافياً كان يقول لي بصوت واضح، إن الله وحده هو الذي يُقصد بالدعاء، وهناك ثلاثة مساجد فقط، تُشد إليها الرحال، المسجد الحرام في مكة المكرمة، والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، والمسجد الأقصى في بيت المقدس، ولا تجوز زيارة المراقد والمزارات، ويُحرّم الشرك بالله، سواء كان ظاهراً أم خفيا، “فمن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة”.
وقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، (لا تُشّد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الاقصى).
قال لي الجميع وبصوت واحد، هذا حال أهل سامراء لا يدخل منهم عريس على عروسه إلا بعد زيارة الضريح، ولا يدفن ميت إلا بعد أن يُذهب بجثمانه لزيارته.
إزاء هذا الظرف لم يكن أمامي إلا الاستجابة لرغباتهم مضطرا، على الرغم من أنها خلاف قناعاتي الدينية والفكرية، بعد زيارة قصيرة للضريح بقبته الذهبية، ذهبت إلى منزل والدي رحمه الله، وكانت لحظات الدخول حزينة وتعصر القلب، إلى حدود لا يمكن السيطرة عليها، إذ فجرت في داخلي مشاعر ظلت حبيسة بين أضلاعي منذ عشرين سنة وربما من يوم تركت أبي وأمي مغادرا إلى بغداد، فأطلقت لنفسي حريتها في نحيب صامت، ولكن الدمع كان يفضح هياج بركان الذكريات، آه كم تحملت من ألم فراق الوالدين صغيراً، عندما أخذني عمي الدكتور شامل السامرائي رحمه الله من أمي وأبي، وجاء بي إلى بغداد وأنا في السابعة من عمري لأدخل في مدارسها، فكنت لا أراهما إلا مرة أو مرتين في السنة، إلى أن توظفت في الدولة فكنت أذهب إلى سامراء مرتين في الشهر، وإذا سنحت لي الفرصة فكنت أذهب أسبوعياً.
كنت في بغداد أعاني من ألم الفراق حتى أن جدتي لأبي رحمها الله عندما كانت تراني ابتسم أو أضحك كانت تقول “نزار يضحك ودرده في بطنه” أي أن نزار يضحك وهو يحبس آلامه في داخله، فأنا مكتوب عليّ البعد والفراق عن أهلي وربما سجلت أرقاما كبيرة في تحمل وجع هذا الفراق المزمن الذي وصل إلى نصف قرن من الزمن، وأنا متأكد أن والديّ كانا يعانيان أكثر مما أعاني، لكن ما حصل بعد أسري كان كبيرا في وقعه على أهلي جميعاً أبي وأمي وزوجتي وإخوتي وأخواتي، أبي يتأسى بصبر يعقوب عليه السلام على فراق يوسف، مع أنه كان يعرف أن يوسف سيلتقي به مهما طال البعاد، وأبي الذي جعل من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والذي فقد احبته الواحد تلو الاخر، اتخذه قدوة ومثلا أعلى له في حياته، لم يعرف عني شيئا، بل تحمّل كثيرا من المحن بصبر يليق به وحقيق أن يكون مثلا للآخَرين، حتى بتُ أتساءل مع نفسي هل رحل أبي وأمي رحمهما الله قبل أوانهما حزنا عليّ كحزن يعقوب وأم يوسف؟ أم أن الله مدّ في عمري كي يعلمني من الصبر دروسا، وكي أعيش بعضا مما عانياه؟
بعد أن أمضيتُ عدة أيام في سامراء، التي لم أسكن فيها على سبيل الإقامة الدائمة يوماً واحدا، عدت إلى بغداد لأبدأ خطةً رسمتها لنفسي في متابعة متعلقات كثيرة لها صلة بوظيفتي السابقة، وبعلاقتها بعودتي من الأسر منها مراجعة اللجنة التحقيقية الخاصة بالأسرى، ومقرها في معسكر (أبو غريب)، والتي استقبلني أعضاؤها بالترحيب، فتم انجاز ملف التحقيق خلال وقت وجيز حتى من دون توجيه أسئلة، لأن المعلومات عني كانت متاحة لدى أعضاء اللجنة، وربما كانت قد سبقتني من كثير من رفاقي في الأسر، بل أن بعض الأسرى كانوا يلوذون باسمي كدليل على سلامة موقفهم الوطني خلال الأسر.
الآن وبعد كل هذه السنوات والتجارب التي مرت على العراق، بتُ أعتقد أن تحقيقاً دقيقاً وتفصيليا كان يجب أن يشمل الجميع بمنتهى الدقة، ويجب أن تتنوع الأسئلة فيه لتشمل معلومات أوسع من مجرد معلومات أمنية سطحية وساذجة في بعض الأحيان، من أجل تكوين تصور شامل عن الغاطس من أوضاع الأسرى ونقاط القوة فيهم ونقاط ضعفهم، وأين ضعفوا ولماذا ضعف بعضهم وأسباب ذلك؟ لأن الهدف أبعد بكثير من مجرد دراسة الحالة الفردية لكل أسير، بل كان الأمر يُوجب إعداد ملفات وتقارير ودراسات علمية، تستند على علم النفس وعلم الاجتماع، وتأثير البيئة الضاغطة على الفرد العراقي في معسكرات الأسر، وكان يجب أن يُنتفع من قدرات الأسرى الوطنين في مراكز دراسات وبحوث في علم النفس والحرب النفسية، ويجب أن تكون خلاصة التحقيقات السياسية والأمنية والنفسية، منهاجا يدّرس في الجامعات العراقية وخاصة كلية الدفاع الوطني في جامعة البكر للدراسات العسكرية، وفي أقسام علم الاجتماع وعلم النفس في الجامعات العراقية، فهذه الفرصة لا تتكرر دوريا، ويجب أن يؤخذ بالنتائج التي تستخلص منها في حياة العراقيين.
المهم ترتب على هذا التحقيق السريع بل والسطحي، منح الأسرى الوطنيين الذين توفرت معلومات أولية عن مواقفهم في معسكرات الأسر نوطين للشجاعة، وربما في هذا التكريم شيء من الدعم المعنوي والنفسي، أكثر مما فيه من إقرار بواقع حال لجميع من شُملَ به، وأظن أن هذه اللفتة من الرئيس صدام حسين رحمه الله نحو أسرى قاسوا من ظروف غير متشابهة في الأذى وفي معسكرات مختلفة، وفقدوا حريتهم لمدد طويلة ولم يفرطوا بكرامتهم ولم يخضعوا للمغريات الإيرانية ولا للتهديدات، جاءت لتصحيح نظرة خاطئة سادت لفترة طويلة في الشارع العراقي ضد الأسرى، ابتداء من ساعة دخولهم أرض وطنهم، إلى بعض الممارسات التي اتخذتها بعض الدوائر الرسمية من تجاهل لتضحياتهم الكبيرة.
على العموم صدر مرسوم جمهوري بهذا الشأن، برقم 70 وبتاريخ 27 آذار 2002، الموافق للثالث عشر من محرم الحرام لسنة 1423 هـ، ونص على ما يلي (نظرا لموقف كل من الأسرى المتميزين العائدين المدرجة أسماؤهم في القائمة المبينة في أدناه في قادسية صدام المجيدة، واستنادا إلى أحكام المادة 26 من قانون الأوسمة والأنواط المرقم بـ 95 لسنة 1982
رسمنا بما آت
يمنح كل من الأسرى المتميزين العائدين المدرجة أسماؤهم في القائمة المرفقة التي تبدأ بالتسلسل1 اللواء الركن دخيل علي كاسب سعدون الهلالي وتنتهي بالتسلسل 462 ر.ع حسين شياع فياض حمزة العامري، نوطي شجاعة.
على الجهات ذات العلاقة تنفيذ هذا المرسوم
صدام حسين
رئيس الجمهورية
لكنّ ظروف العراق الاستثنائية التي عاشها بعد أن ارتفع صوت طبول الحرب التي كانت تُقرع بقوة، في واشنطن ولندن ومدريد وملبورن وعواصم دول مجلس التعاون الخليجي، وكانت طهران تُعد نفسها لدور خبيث استغفلت به بعض الأشقاء منذ عام 1990، لم يُبقِ فرصة أمام الدولة العراقية لتباشر ما صدر عنها من قرارات مثل منح الأسرى نوطي شجاعة، إذ بقيا مجرد مرسوم جمهوري له قيمته الاعتبارية والمعنوية ولم يستلمه أحد ممن مُنح لهم في قائمة الـ 462 أسيرا، ومع ذلك فإن الاعتزاز بنوطي الشجاعة يبقى حاضرا في تاريخ كل واحد منا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى