منوعات

مهاجرون إلى أرض السعادة!

د. حسين محمد الكعود

دكتوراه في العقيدة الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

لقد أثر الواقع الغربي في أوربا، على عقول بعض المخدوعين، بل الكثير ممن غرَّتهم حياة الترف الحالمة، بعد أن رمت بهم ارتدادات الثورة السورية المجيدة، وواقع الربيع العربي، على شواطئ بحر من أمة غريبة عن حياتنا التي نعيش، وواقعنا الذي نحيا، بين أمة ملتزمة بدينها وتعتز به، إلى واقع غربي منزوع العواطف والأحاسيس، بل تشوهت كل الأذواق عندهم في كل الجوارح، يعيش حياة الإلحاد المبطن بمسوح من بقايا دينه المحرَّف.

لقد انسلخوا من دينهم انسلاخ الأفعى من جلدها، وبحثوا عن ثوب جديد يستر عورتهم، فكان حظهم الذي أرداهم بثوب فضح كل العيوب، وبانت منه كل السوءات.

وليتهم اكتفوا بذلك، بل راحوا يعيبون على أهل الستر من أهل الالتزام والتقى، ويهجونهم بدعوى التحضر والحداثة، وما دروا أنهم تمرغوا بأوحال النجاسة من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، وقانون الله قائم، وسنته ماضية والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ {التوبة :32}.

لقد انبهرت عيونهم لأول وهلة بما رأت هناك، فكانت كعين الخفاش الذي أعماه ضوء النهار، فقد بوصلة هداه لتضربه أهواؤه على أول منعطف، سكران حيران لا يهتدي إلى سبيل، بل قذف بنفسه لطبيب بيطري يداوي عياه الذي أعياه، فزاده مرضاً وعدوى بجهالة ما هو فيه، فباع آخرته بدنيا غيره، يبحث العدل في محكمة الطاغوت. قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ {النساء:60}.

لقد عميت بصائرهم عن كلّ ما تعانيه الأمة، وزاغت أبصارهم بهواهم وظنهم الذي أرداهم، وحسبوا جهلهم نبوغاً فكرياً عندما رمتهم العلمانية بدائها وانسلت. هذا المصاب الفكري والوهم في الوصول إلى الشهرة، والاحتفاء بنيل رضا أسيادهم ومباركتهم إياهم، من خلال الانسلاخ من المعتقد والقيم، أسقطهم في مزابل التاريخ كما أسقط من سبقهم.

 نعم، إنه الخواء الفكري أشد إيلاماً وفتكاً في جسم الأمة، من أخطر المشكلات التي تجعل بعض العقول مصابة بالعته والبله.

 إن هؤلاء القوم بحاجة إلى مصح عقلي، ومشفىً نفسي، يعيد التوازن إلى الجسد السقيم بفكره وواقعه، ليعود لحياة السعادة التي ينشدها كل حكيم، وما وجدوها إلا في شاطئ أمان دين الفطرة الوجدانية، ونداء الضمير الذي ينادي من الأعماق، انتبه لنفسك، لقد شذَّت بك شَطُونُ راحلتك عن الصراط المستقيم.

فيا نفس إلى أين: أغرك الثوب المزركش؟ أم الشعر المهفهف أو الجفن المغَفَّى، على أي درب تسيرين، أم على أي جنب تستريحين، لم؟ كيف؟ ليت! لعل، عسى.

 تعجَّلتِ نعيماً لا يساوي غمسة في نار جهنم، نعيمها التافه الذي زال، وذهب الشباب يجر الذكريات، وتبقى عليك التبعات والحسرات، وعندما تحين ساعة الرحيل من هذه الدنيا ستعلم يا جهول معنى المسرات.

 فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: {يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الْدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْراً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَالله يَا رَبّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسَاً فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرِّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَالله مَا مَرَّ بِي بُؤسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ}([1]).ورحم الله القائل([2]):

وَلستُ أرى السعادةَ جَمْعَ مالٍ 

ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُ

وتــقـوى اللهِ خـيـرُ الـزادِ ذُخْــراً 

وعـنـد اللهِ لَلْأَتْقَى مَزِيدُ

 السعادة كلمة خفيفة على اللسان، حبيبة إلى قلب كل إنسان، وهي شعور داخلي يحسه الإنسان بين جوانبه يتمثل في سكينة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وراحة الضمير، وما من إنسان إلا وهو يسعى إلى تحقيقها في حياته.

 إنها فيما أراده الله منك في رسالة الحياة، معنى واحد لا ثاني له، الخضوع لله بالعبودية المطلقة، والتي سعد بها كل نبي، وسر بها كل ولي، فكان شقاء الطاعة سعادة النفس ورقي الروح([3]).

يقول ابن حبان البستي([4]):

يا متعب الجسم كم تسعى لخدمته  أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائله           فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

ويا حريصاً على الأموالِ تجمعُها            أُنْسيتَ أنَّ سرورَ المالِ أحزانُ

والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ {التوبة:55}.

 جاءَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْمَالُ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيان: قَالَ لِي:{يَا حَكِيم، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى}([5]).

هذا المال الذي مالت له قلوب الرجال، وتفتق بحبه رتق القلوب، فكان للروح شقيقاً مقرباً، هذا الذي عبدته يهود واتخذت منه إلهاً، فكان لها جسداً عجلاً له خوار، نسفته يد الحكمة الموسوية، لكنهم مازالوا لهذا الإله يعبدون، وفي سبيله يقاتلون، ركعوا على أعتابه خاضعين، هانت كل المقدسات في اعتاب إبليس، وكانوا مصنع الدولار في القرن العشرين، وتحكمت دولة الدجال بأرزاق العباد، وركعت دول العالم تستجدي رضاهم، وليركع العالم كله على سجادة الدولار بمظهر من مظاهر احتلال الأمم والتحكم بأقواتها وأرزاقها.

ولله در أبي القاسم الشابي في السعادة إذ يقول([6]):

تَرجو السَّعادَةَ يا قلبي ولو وُجِدَتْ     

  في الكونِ لم يشتعلْ حُزْنٌ ولا أَلَمُ

ولا استحالتْ حياةُ النَّاسِ أجمعُها           

وزُلزلتْ هاتِهِ الأَكوانُ والنُّظمُ

فما السَّعادة في الدُّنيا سِوَى حُلُمٍ             

ناءٍ تُضَحِّي له أَيَّامَها الأُمَمُ

ناجتْ به النَّاسَ أَوهامٌ مُعَرْبِدةً  

  لمَّا تَغَشَّتْهُمُ الأَحلامُ والظُّلَمُ

فَهَبَّ كلٌّ يُناديهِ ويَنْشُدُهُ

كأَنَّما النَّاسُ مَا ناموا ولا حلمُوا

خُذِ الحَيَاةَ كما جاءتْكَ مبتسماً 

في كفِّها الغارُ أَو في كفِّها العَدَمُ

وارقصْ على الوردِ والأَشواكِ متَّئِداً 

غنَّتْ لكَ الطَّيرُ أَو غنَّتْ لكَ الرُّجُمُ

واعملْ كما تأمُرُ الدُّنيا بلا مَضَضٍ  

والجمْ شُعوركَ فيها إنَّها صَنَمُ

فمنْ تأَلَّمَ لمْ تُرْحَمْ مَضَاضَتَهُ

ومنْ تجلَّدَ لم تهزأ بهِ القِمَمُ

هذي سعادَةُ دُنيانا فكنْ رجلاً  

إنْ شئْتَها أَبَدَ الآباد يَبْتَسِمُ

وإنْ أَردتَ قضاءَ العيشِ في دَعَةٍ 

شعريَّةٍ لا يُغَشِّي صَفْوَها نَدَمُ

فاتركْ إلى النَّاسِ دُنياهُمْ وضَجَّتَهُمْ  

وما بنوا لنِظامِ العيشِ أَو رَسَموا

واجعلْ حياتَكَ دوحاً مُزْهراً نَضِراً

 في عُزْلَةِ الغابِ ينمو ثمَّ ينعدمُ

واجعلْ لياليكَ أَحلاماً مُغَرِّدَةً 

إنَّ الحَيَاةَ وما تدوي به حُلُمُ

ومن عجيب ما سمعنا تحول الذين هاجروا إلى قوالب عديمة الإحساس، خالية الشعور، ينقطع قلب أحدهم لو قال له أخوه فرج كربتي ومد يد العون منك، فيغلق هاتفه ويغير طريقه وكأنه عدوه اللدود الذي لا يقبل الصلح.

انقلب الإنسان آلة من معدن صلد يجمع المال لعله يكمل نقصاً فيه، أو يسد جوعة قديمة أثرت في نفسه، فقطعت حبال الوصل من رحم ونسب.

فالسعادة ذاك الغيب الخفي والسعد الغيبي، الذي تبحث عنه كل نفس في أنفاس عمرها، فان لفظت النفس الأخير علمت السعادة الحقيقية، وكشف لها الغطاء لتبصر نهاية الطريق الذي سلكت في حياتها، سعادة أم شقاء تحكمه لحظة اللقاء، فورد مورود ورفد محفود، سطرها قول الله عزَّوجلَّ: ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ {الواقعة:28-34}. ترتقي درجته لتعبِّر عن نعيم مقيم تعرفه ﴿وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيْهَا لَاغِيَةً * فِيْهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ* فِيْهَا سُرُرٌ مَرْفُوْعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوْعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوْفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوْثَةٌ﴾ {الغاشية:8-16}، تسعد في دار المزيد، تطير إلى عالم الجمال والكمال لتحيا حياة الأبد في سعادة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ {القيامة:22-23}. فيا رب تحنن وتعطف على القلوب المؤمنة وأسبغ عليها فضلك وكرمك كما أسبغت نعمك وبِرَّكَ، واجعلنا في زمرة عبادك الصالحين، والحمد لله رب العالمين.


[1] –  أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار، حديث رقم: (2807).

[2] – الحُطَيْئَة: جرول بن أوس بن مالك العبسي، أبو مُليكة. شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام. كان هَجَّاءاً عنيفاً، لم يكد يسلم من لسانه أحد. وهجا أمه واباه ونفسه. ينظر: الأعلام، الزركلي، (ج2، ص118).

[3]شجن المنابر وهتن المحابر: د. حمزة بن فايع الفتحي، (ص86).

[4] – ينظر ديوان ابن حبان، نونيته المشهورة، وقد تقدمت ترجمته.

[5] – أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي ﷺ: «هذا المال خضرة حلوة» رقم (6441). ومسلم كِتَاب الزَّكَاةِ، بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، رقم (1035).

[6] – ينظر: ديوان أبي القاسم الشابي، قصيدة البحث عن السعادة. شاعر تونسي ولد عام 1909م، شاعر الحب والثورة، انظر: ديوان أبي القاسم الشابي (ص5-6)، طبعة دار الأطلس للنشر، بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى