مقالات

لا تراهنوا على الشعوب- تداعي آخر قلاع الربيع العربي

نعيم مصطفى

مدير التحرير
عرض مقالات الكاتب


لقد كشفت الثورات العربية التي انطلقت شرارتها الأولى من تونس الخضراء عام 2011 زيف شعارات الدول الغربية في زعمها الحرص على حقوق الإنسان والحريات العامة ونشر الديمقراطيات على الشعوب والدول، وذلك بسبب موقفها المؤيد ظاهرياً لتلك الثورات والداعم لها، والمناهض والمحارب لتلك الثورات باطنياً وفي الخفاء، ولكن حبل الخداع والتمثيل والتضليل لا بد من أن يكشف وتفض بكارته، ويفضح…
من ينظر إلى الدول التي شملها الربيع العربي يجد أنها تعثرت، ففي مصر حيك انقلاب على الشرعية وعلى الديمقراطية ، وتحولت مصر إلى سجن كبير لكل من ينبس ببنت شفة في الشأن السياسي، وأصبح الناس يحنون إلى أيام مبارك، وفي ليبيا حاول الغرب إعادة حكم القذافي بدعم حفتر الذي لا يقل سوءاً عن سلفه، وثمة إشارات إلى عودة ابن القذافي إلى سدة الحكم أيضاً، ولو تحولنا إلى المشهد في اليمن؛ لوجدنا الصورة سوداوية قاتمة أيضاً بسيطرة الحوثي على المشهد الذي لا يعرف شيئاً عن أبجديات الديمقراطية، وإنما يسعى لإقامة دولة الولي الفقيه، ولو انتقلنا إلى سوريا، لوجدنا المشهد أشد قسوة وأشد مرارة وإيلاماً من جميع المشاهد تلك، فقد قتل وهجّر واعتقل سفاح الشام ملايين من الشعب السوري، بذريعة محاربة الإرهاب، وكان موقف الغرب هو المباركة لما اقترفت يداه من آثام، ومحاولة تدويره وتسويقه.
ولم يبق من دول الربيع العربي صامداً سوى تونس، التي كانت قبلة التفاؤل والأمل وبيت العزاء للشعوب العربية، فكلما هاجم بوق ما الثورات العربية سرعان ما تفزع تلك الشعوب التي أصبحت مهيضة الجناح، إلى الاحتجاج بنجاح الثورة التونسية، والاستشهاد بدستورها الذي يكاد يبزّ الدساتير الأوروبية، ولكن يبدو أن ثمة من يتميز غيظاً لصمود هذه القلعة التي لها الفضل في إيقاظ الشعوب من غفلتها ومن سباتها العميق، لذلك نسجت كل المؤامرات من الغرب والشرق متعاونين على الإثم والعدوان؛ لإطفاء جذوة تلك الشعلة التي أبت إلا الاستمرار في إشعاعها عبر عقد من الزمن، لكن الضغوطات الاقتصادية والصحية والخارجية..، وزرع شخصية مضطربة في سلوكها وفي أيديولوجيتها على رأس تونس جعلها تسير في طريق الردة الديكتاتورية، كي يُهال التراب على آخر قلاع الربيع العربي .
كنت دائماً من المدافعين عن الشعوب العربية بكل ما أُوتيت من قوة فكرية، وملتمساً لها الأعذار، فقد سخرت قلمي وجعلته خادماً ومنافحاً وراوياً أميناً عن قضيتي المحورية التي أناضل وأكافح من أجلها، لكن مع الأسف تبين لي أن هذه الشعوب لاتستحق التضحية بأي شيء، لأن التربية المستبدة التي رضعت من ثديها عقوداً من الزمن جعلتها مدجنة على حب من يظلمها ويسلبها حريتها، وعلى بغض من يدافع عنها ويطالب بحقوقها، وهذا الحكم ليس ردة فعل غاضبة آنية، وإنما شيء ملموس ومعاش، فتونس التي طالما تفاخرنا بها وبشعبها وبجيشها، مارست الديمقراطية الحقيقية وتنفست هواءها النقي ما يزيد على عقد من الزمن، وقد تحرر المواطن من عيون المخابرات التي كانت ترافقه حتى في سرير نومه، على عهد زين العابدين الطاغية، وتحرر الإعلام من الفيتو الأمني، واستقل القضاء و .. ولكن يبدو أن هذه الإجراءات التي تمنح الإنسان حقوقه وتحافظ على كرامته، وتجعله يتمتع بالتكريم الذي وهبه الله له في نص كتابه العزيز “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا “(70) الإسراء
لم يرق للشعب ، لأنه استمرأ الهوان – ومن يهن يسهل الهوان عليه – وآثر حب الشهوات وإشباع الغرائز فحسب، لذلك – وعبر هذه المقالة – أنبه وأحذر الإخوة الذين قضوا زهرة شبابهم في السجون والمنافي دفاعاً عن الشعوب ، أن يكفوا عن هذه البطولات، لأن شعوبنا العربية كما أثبتت الأيام تنفر من هذه الطبقة من البشر، وتسلقها بألسنة حداد، وفي المقابل تحترم وتقدر كل من يسلب كرامتها ، ويعاملها معاملة العبيد، والأدلة على ذلك جلية لا تحتاج إلى جهد للوقوع عليها، فعندما نجح رئيس مدني في مصر عبر صناديق الاقتراع، وباعتراف محبيه وشانئيه، وفتح أبواب الحريات أمام المصريين على مصراعيها في الإعلام والسياسة والثقافة…وحررهم من سيف الديكتاتوريات التي جثمت على رقابهم عقوداً طوال، انقلبوا عليه قبل أن يتم عامه الأول موجهين إليه أصابع الاتهام بالضعف وعدم الكفاءة لقيادة بلد مثل مصر، أي أن مفهومهم للقوة والضعف هو ليس الخضوع للقانون والدستور ورفع الظلم عنهم، كما هو حاصل في الدول الأوربية والولايات المتحدة، وإنما مفهومهم للقوة أن تكون عصاه غليظة على أبدانهم، وأن تكون دماؤهم رخيصة ومستباحة، وهذا ماحققه خلفه، فاستكانوا لحكمه ورضوا به، بعد أن تعهد أن يبقى كاتماً لأنفاسهم مادام على الكرسي.
وأما في تونس التي أبهرتنا بثورة الياسمين وبسمو شعبها كما أشرنا سابقاً لذلك، وقد عوّلنا عليها بأن تبقى المثل والقدوة والحلم العربي، فقد انقلبت على عقبيها، وابتليت بداء الحنين إلى الأيام الخوالي المكللة بكل صنوف العذاب والشقاء والضنك، وأزمعت أن تعود إلى حضن الدول العربية، لقد تعاقب على حكم تونس ثلاثة رؤساء إثر نجاح الثورة، وقد احترم الرئيسان السابقان المنصف المرزوقي والقائد الباجي إرادة الشعب وأهداف الثورة والدستور التي أنتجته، وقبلوا باللعبة الديمقراطية ، ليأتي ثالثهم السيد قيس سعيد، ويغير القواعد مشرئباً إلى الاستئثار بالسلطة ، فقد أعلن انقلابه على الديمقراطية بلبوس قانونية على حد زعمه وشرع في إصدار القوانين التي من شأنها أن تجعل جميع السلطات في يده، وراح يطلق العنان لخطاباته النارية ضد معارضيه، واصفهم بأقذع الصفات – خيانة، فساد ، سرقة – وكانت آخر وصلاته وردحاته هو وصمهم بالحشرات، مستوحياً المصطلح الأخير من القذافي الذي شبه شعبه الثائر بالجرذان، ومن بشار الذي شبههم بالجراثيم، والغريب في الأمر أن المسيرات عمت البلاد، ليس غضباً وسخطاً على ألفاظ قيس سعيد وعزمه على إعادة تجربة المستبدين بورقيبة وزين العابدين، وإنما هي تأييد لصنيعه ذاك.
وهذا يجعلنا نضع إشارات الاستفهام والتعجب التي لاحصر لها حول العقول التي تحملها تلك الشعوب، فهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويناضلون من أجل ذلك الهدف، فبئست تلك الهامات الجوفاء وبئس من يحملها.
ونختم حديثنا بمقولة الفيلسوف أفلاطون:
“لو أمطرت السماء حرية .. لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى