مقالات

عطل في مواقع التواصل اللا اجتماعي

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

يحكى أن “صمويل كولت” قال بعد أن أطلق أول طلقة من اختراعه المسدس: (الآن فقط يتساوى الشجاع والجبان).

بعد ثورة السوشل ميديا ودخولها كل منزل أقول (الآن يتساوى القريب والبعيد).
خرجت اليوم إلى كاتب العدل ومعي أحد الشباب، فقال لي كيف تكتب المقالات، ومن أين تأتي بالأفكار. فقلت له: من الخارج الأفكار ونحن نضعها في الفخار؟ ففتح فاهه، واستعجب!! فقلت: ما الذي شغل الناس أو يشغلك أو ربما يشغلني مثلا؟ قال بالأمس: عطل الفيسبوك والوتساب ولواحقهم. قلت له: جاءت الأفكار وبقي أن نضعها في صحن الفخار، هيا لنكتب معا مسودة المقال؟! أمامنا ساعة انتظار. خذ الورقة والقلم:
سبع ساعات هزت الدنيا، وأقلقت الناس، وشغلت الرأي العام، ليست نيزكاً سماوياً، ولا إعصاراً مدمراً، ولا زلزالاً محطماً، بل عطل مفاجئ في أشهر منصات العالم، ما يسمى استهبالاً (التواصل الاجتماعي).. لم يعد للإعلام، والسياسة، والناس، سوى ذاك الخبر. جلست أتأمل – وأنا اسمع القنوات الإخبارية – حالنا مع هذه الوسائل، وأين وصلت بنا وبمجتمعاتنا. هم يسمونها وسائل (التواصل الاجتماعي)، وأسميها وسائل (التواصل الافتراضي) أو (اللا اجتماعي).
خلق الله تعالى الخلق وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، والتعارف يكون بالتواصل، والتواصل يكون كما عرفه الناس منذ بداية الخلق الى أول كلمة (هلو) في التلفون. وقد ركَّز الإسلام على تواصل الناس تركيزاً عظيماً، حيث يأمر ببر الوالدين، وصلة الأرحام، ورعاية الأبناء، والدفاع عن الضعيف، وإعانة المسكين، وحمل الكال، ومساعدة العاجز، وإغاثة الملهوف. أمر بالتقاء المسلمين خمس مرات في الصلوات ، وبأوقات متفرقة تجمع اليوم والليلة، ركَّز على الجُمع والجماعات والأعياد، ففي حالة الفرح صلاة، وحج وزكاة، وصدقة، وفي حالة الحزن صلاة، وتعزية، وجنازة، ومواساه، كلها يجمعها خيط ناظم هو (الاجتماع) واللقاء.
رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة ذات غزوة، وقد التحق كل واحد أو اثنين بشجرة يريحون تحتها، فقال: “هذه جلسة يبغضها الله”. يقول الراوي (فصاروا بعدها لو بسط عليهم غطاء واحد لوسعهم) تعبيراً عن شدة القرب. حتى في الجلوس لا ينبغي أن يكونوا متباعدين. ركزوا في الصلاة! لمَ الصف؟ لمَ الالتصاق؟ لمَ عدم ترك فرجة للشيطان؟ لمَ تواترها خمسا؟ لم مكان جامع؟ لم إمام واحد؟ لم التصاق بالإمام؟ لم التواصل مباشرة؟
تقول: لم يكن متاحا يومها غير ذلك ولو أتيح لاختلفت الأمور! أقول كانت الرسائل متاحة، على صعوبة إيصالها لكنها تحمل ذات المعنى، ولم تغنهم عن اللقاء والمجالسة. كان يمكن الإسلام أن يجعل الصلاة في رحال الناس وبيوتهم لم المساجد؟ لمَ الجمع والجماعات؟ لمَ الأعياد؟ لمَ صلة الأرحام؟ لمَ حضور الجنائز؟ لمَ رعاية الذمم؟ لمَ تعظيم أجر الزيارة في الله؟ لمَ تعظيم أجر عيادة المريض؟ لمَ تعظيم شأن المشي في حاجة أخيه؟ كل ما سبق أو جله يستلزم اللقاء الجسدي، ولم يقتصر الإسلام ذلك على إرسال رسالة.
وقبل أن تقول: وهل التواصل غير أن تتصل بالأشخاص سواء صوتا، أو عن طريق الرسائل؟ أذا ماذا بقي؟
ألا يكون التواصل تواصلاً إلا باللقاء الحسي؟ ألا يمكن أن يكون لنا أصدقاء من العالم الافتراضي يكونون أقرب إلينا من العالم الحسي؟ وهل تنكر ما سهلته وسائل التواصل على الناس؟ هل تنكر فوائدها، هل تنكر راحتها؟
أقول: إذا صح ذلك في الدرجة الثالثة والرابعة من العلاقات فلا ينبغي أن يصح بين الدرجة الأولى الأهل والأقارب وبين الأصدقاء من الدرجة الأولى. إذا ساغ ذلك في الدائرة البعيدة لا ينبغي أن يسوغ في الدائرة الضيقة. هل يعقل أن يكون تواصلنا مع الآباء والأمهات والأبناء افتراضياً، هل يمكنك أن تحتضن أولادك وزوجتك افتراضياً؟ هل سيغنيك هذا إن فعلت؟
هل يعقل أن يتحول الأقرباء الى خوارزميات؟ هل تراه بديلاً أن يشاركك عرسك وفرحتك معجبون عن طريق الفيسبوك ولا أحد منهم في الواقع. يحتمل هذا في حال الإكراه والضرورة والحرب لا في حال السلم والحياة الاجتماعية.
الحياة الافتراضية لون وشكل بلا طعم بلا حس ولا معاني الغضب والفرح، والمواساة والتعزية والتعاطف والحمية والأنفة والتفاؤل كلها صارت أزرار تضغطها وينتهي الأمر.
هل تستطيع وأنت تقرأ رسائل الشافعي وكتب ابن الجوزي ومقالات الحريري أن تعتبرهم أصدقاء بحكم التواصل؟ وتكتفي بهم عن الواقع؟ هذا كذاك.

تقول ولكن هناك فرق والقياس باطل هؤلاء ليسوا في الواقع أما أصدقاء الفيسبوك فهم موجودون في الواقع وقد تتطور الصداقة، وهناك مرجو مأمول لا منقطع متمنى؟ نعم ولكن هناك أشياء لا تنتقل إلا بالمجالسة الحسية، ولا تتم إلا بالمخالطة المباشرة، هناك أشياء تنتقل رغما عنك وعن جليسك فلا يمكن للرائحة أن تنتقل عبر وسائل التواصل، هناك حيث الروح والجسد، حيث تكتمل الصورة بالمعاني الأصلية، إن جلسة مع والدك ووالدتك أو زوجتك وأختك لنصف ساعة أثبت في الوجدان، وأجبر للخاطر، وأرتق لثوب المحبة، وأنفع في العلاقات، من ألف مسج، وألفي كومنت، وثلاثة آلاف تغريدة.
هل ستحرك فيك رؤيتك لصورة مقبرة ما ستحركه زيارتك للمقبرة ودفن أحد بيديك؟
هل ستحرك رسالة المرض وخبر الوفيات في نفسك ما تحركه فيك زيارة المشفى وملاقاة المرضى ورؤية أصحاب البلاء؟ هل تنكر أن جل الشباب لا يملك أي مهارات اجتماعية؟ كان إن زرت جماعة لتعزيتهم بوالدهم وكان له ابن شاب عزيته فلم يعرف كيف يرد ! ولا بماذا يرد.! قد تقول هذه حالة وربما ارتبك بسبب الموقف.
تكرر هذا معي كثيرا في مختلف الأماكن وتغير الأحوال. سمعت شاباً يعزي فيقول للرجل (أنا آسف لأجلك)؟ ضعف في المهارات اللغوية، وهن في المهارات الاجتماعية، في الذكاء الاجتماعي، في المهارات الحياتية، في العادات والتقاليد، هزل في المجال العلمي، انغلاق فكري، انكبات نفسي. كلها تأثرت حتى حصلنا على جيل هش، إذا رأى ما يعجبه لايستطيع أن يعبر لأنه تعود على فعل ذلك بضغطة زر.
هب أن وسائل التواصل الحديث بديل جيد! لكنه يجب أن يكون كما قلت (بديلا) وليس (أصيلا) أي في حالة تعذر الأصل وصعبت الطريق والوسائل. صنعوا لك بديلا عن كل شيء، بديلاً افتراضياً. نعم: يمكنك أن تستخدمه في الخير لكنه غالبا سيحولك الى اللاشيئية، إلى ربوت، الى جماد كهو، إلى رقم كأرقام الخوارزميات. الناس تحولت الى أجهزة لوحية، غابت المشاعر والعواطف والأحاسيس. قلّ العلم، الأخلاق، التربية، الفرح، الحزن، التفاؤل، الكتابة، القراءة، حتى العمل، وحتى (الجهاد في سبيل الله) صار إلكترونياً. يمكنهم إنهاؤه بضغطة زر، وجرة قلم.

تخيل أنه يمكن لكل علاقاتك أن تنتهي بحظر الفيس بوك لك! يمكن أن تنتهي بفيرس إلكتروني يرسل إليك، يمكن أن تفقد الجميع اذا بلَّغ عنك البعض، بلحظة أُنس يخرج (مارك) ليقول متأسفين. لم يعد لدينا حياة افتراضية. عندها ستعود من جديد لبناء ما لا يملك استمراره، ولا يرتق فتقه. يمكن لصانعي وسائل التواصل التحكم بعقلك وبعواطفك ومشاعرك وعلاقاتك وصِلاتك، وكيف تفرغها وأين تصرفها ومتى تنفذها بصورة كاملة، بل وما تشتري، وما تقرأ، وما تتعلم ! وما تهوى، وما تكره.
إذا لم يكن هذا احتلالا فما هو الاحتلال؟ إن لم يكن هذا غزوا فكريا واجتماعيا فما هو الغزو؟ إن أقذر وأخطر احتلال في العصر الحديث هو هذا الاحتلال.
سيطرة تامة على النشئ.
لايريهم الفيسبوك إلا مايرى، ولا يوجههم إلا حيث يريد. قد يكون لهم من الأمر شيء بادئ الأمر، لكن مع تواتر الأيام يصبحون مجرد آلات. ليس عندهم موازنة. ولا يستخدمون وسائل التواصل برشد. الإنسان ابن بيئته (هكذا قالوا قديما) تساهم في صناعته العائلة ثم الجوار ثم المحيط ثم الأقرب والأقرب !
أما الآن فيمكن لقس في أقصى الأرض أن يدخل إلى مخدع ابنك وزوجك ويشارك في تربيتهم وتنشئة عقولهم.
حاول أن تقنعني أن أحدا يجلس مع والديه وزوجته وأولاده وأصدقائه أكثر مما يجلس مع (وسائل التواصل)، أقصد الجيل الجديد.
هناك فاصل زمني
منذ صارت الكتب إلكترونية قلَّ القراء بل نذروا جداً. كان أن جلست يوما مع عشرين من الطلبة فسألتهم وكانت أعمارهم بين الخامسة عشر والعشرين، كم كتابا كاملا قرأت في حياتك؟ كنت أتمنى أن يرفع احدهم يده فقط ليفسد نظريتي التي يصفها صديقي بالسوداوية. لم يجب أحد. لأن القراءة صارت لا تزيد عن ستين حرفا كما يحددها برنامج تويتر ، حتى المقالات قل القراء لها لدرجة نخجل من ذكرها، ولا يمكن لمعلومة أن تصل كاملة الجوانب إلا من خلال مقال متكامل، وبحث متواصل، وكتاب مترابط. المعلومة التي هي رؤوس أقلام تبقى كذلك ولا تتطور، ولا يبنى عليها، مبتورة، ناقصة، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أوتي جوامع الكلم فليس كل الناس كذلك.

آن لنا أن نسمي الأشياء بمسمياتها:
لايوجد عالم في الميديا هو عالم افتراضي، لايوجد تواصل اجتماعي بل تواصل افتراضي،
الإنسان لم يعد اجتماعيا بل صائر كائنا يتواصل عن فكرة الاجتماع. الدواء عادة له فوائد ولكن له آثار جانبية.
قال الأطباء لك: يؤخذ عند الضرورة إذا زادت الحاجة عن الضرر، ويجب إيقافه اذا كانت أضراره تفوق توقعات النفع.
تصوروا أن ينقطع الأنترنت عن العالم، ستجد الكثير من الوقت لربك، لوالديك، لأولادك، لهواياتك، للآخرين. ستجد أنك في العالم الحقيقي لا العالم الافتراضي. لايمكن بالطبع إيقاف وسائل التواصل، ولا إلغاؤها، ولا كبتها، ولا منع الأبناء والمحيط منها، لكن يمكن ترشيدها، وتوظيفها. أي نأخذها إلى عالمنا لا أن تأخذنا هي الى عالمها.
الأشياء عادات تبدأ مكروهة وتصبح مألوفة ثم تدخل حيز الحب فالإدمان. وكما أدمن شبابنا استعمال التكنولوجيا يمكننا أن نجعلهم يدمون القراءة. المطالعة، الرياضة، العلم، الدراسة، المكارم، الأخلاقيات.
يمكننا جعلها يستلذون بالصلاة والذكر تلذذهم بالسوشال ميديا واندماجهم بها. ما توافقت الرغبة مع الإرادة والعمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى