بحوث ودراسات

سوريا إلى أين؟ تحولات المشهد السوري وتحدياته المقبلة

المرصد الاستراتيجي

يتشكل في الساحة السورية مشهد جديد، يختلف عن المعطيات السياسية والاقتصادية في العقد الماضي، ومن أبرز ملامح ذلك التحول ما يلي: 

أولاً: التطبيع “المحدود” مع النظام

حققت الدبلوماسية الروسية اختراقاً في ملف التطبيع مع النظام السوري، مستغلة رغبة الرئيس الأمريكي جو بايدن بإقامة علاقة تعاون مع موسكو وإيران، حيث أسفر الحوار الروسي-الأمريكي عن إجراء وزارة الخزانة الأمريكية تعديلات على “قانون قيصر” تسهل عمل الجمعيات المؤيدة للنظام، ورفعت العقوبات عن شركات تابعة لسامر الفوز، فيما أصدرت الخزانة البريطانية قراراً يقضي برفع اسم رجل الأعمال، طريف الأخرس، من قائمة العقوبات ووقف تجميد أصوله، وذلك بالتزامن مع تنامي نفوذ رجل الأعمال، حسام قاطرجي، بدعم من موسكو التي وافقت على قيامه بتشغيل حقلين نفطيين في دير الزور، وتعزيز تجارته مع “قسد”.

وجاءت معظم إجراءات التطبيع عبر الملف الاقتصادي، وذلك بعد أن حصل الملك عبد الله الثاني على موافقة الرئيس الأمريكي جو بايدن بمنح لبنان استثناءً لاستجرار الكهرباء من الأردن عبر الأراضي السورية، وإمكانية تشكيل فريق عمل يجمع كلاً من: الولايات المتحدة، وروسيا، وإسرائيل، والأردن، ومصر، ولبنان، والعراق، للاتفاق على خارطة طريق لاستعادة “سيادة سوريا ووحدة أراضيها”، خاصة وأن واشنطن قد التزمت الصمت إزاء المواجهات التي جرت بمحافظة درعا، والتي تعتبر محور المشروع الأمريكي-الأردني الجديد.

وكان هذا المشروع على رأس المواضيع التي تمت مناقشتها في قمة بغداد (28 أغسطس) بمشاركة دول عربية وأجنبية منها؛ السعودية، وإيران، والإمارات، وتركيا، ومصر، وقطر، والأردن، والكويت، وفرنسا، بالإضافة إلى منظمات عربية ودولية.

ويدور الحديث في الأسابيع الماضية عن دبلوماسية عربية مكثفة تجري خلف الكواليس مع إيران، حيث جرت اتصالات مهمة بين جهازي المخابرات العامة المصرية والاستخبارات الإيرانية، بوساطة من مدير مكتب الأمن القومي في دمشق اللواء علي مملوك.

مع ضرورة التنبيه إلى أن معظم المكاسب التي حققها النظام لا تزال تراوح في إطار “الرمزية السياسية”، إذ إنها انحصرت حتى الآن في: زيارات رسمية لمسؤولي النظام إلى عدة عواصم عربية، وإعلان الخطوط الجوية السورية استئناف الرحلات المباشرة إلى أبو ظبي ودبي، واستقبال وزير الخارجية والمغتربين في حكومة النظام، فيصل المقداد، وفداً من حكومة تصريف الأعمال اللبنانية (4 سبتمبر 2021)، أعقبه حديث نجيب ميقاتي (10 سبتمبر) عن إمكانية: “إقامة علاقات مع أي بلد، بما في ذلك سوريا، من أجل مصلحة لبنان”، وانتهاء باتصال العاهل الأردني ببشار الأسد (3 أكتوبر).

إلا أن ذلك لا يعني تحقق التوافق العربي على إعادة دمشق إلى الجامعة العربية أو تدشين خطة لانتشالها من حالة التدهور الاقتصادي، فعلى الرغم من الاستقبالات التي حظي بها ممثلو النظام في الدور السابعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة وفي بعض العواصم العربية؛ إلا أن الحديث يدور في كواليس الدول المطبعة مع النظام عن تعنّت فريق بشار الأسد، وعدم قدرتهم على الإنصات لحديث مضيفيهم حول ضرورة التعاون في عملية الانتقال السياسي وتوفير البيئة الآمنة لعودة اللاجئين، خاصة بعد أن رد فيصل المقداد على المبادرة العربية، التي عُرضت عليه في مسقط، بالقول: “إن الإصلاح السياسي سيأتي بالوتيرة والعمق الذي تحدده دمشق”.

ثانياً: الاستعصاء الدولي

تزامن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان مع قرار بسحب عدد من منظومات الدفاع الجوية المضادة للصواريخ في الشرق الأوسط، ما تسبب بموجة غضب عارمة ضد السياسة الأمريكية في المنطقة، فيما تتضاءل الآمال بإمكانية تبني الإدارة الأمريكية سياسة واضحة إزاء سوريا حتى الآن.

ورغم كثافة نشاطها في شهر سبتمبر المنصرم؛ إلا أن الدبلوماسية الروسية لم تحقق أي إنجاز يذكر في الملف السوري، حيث استمر التصعيد العسكري في إدلب عقب قمة بوتين-أردوغان (29 سبتمبر)، ولم تسفر لقاءات سابقة مع الملك عبدالله الثاني (28 أغسطس)، ووزير الدفاع الإسرائيلي، يائير لابيد (9 سبتمبر)، وبشار الأسد (15 سبتمبر)، ووفد “الإدارة الذاتية” الكردية لموسكو (19 سبتمبر) عن أية إنجازات تذكر، بل لوحظ محافظة سائر الأطراف على قدرٍ من السرية، وانتهاء معظم الاجتماعات من غير مؤتمر صحفي، ودون تحديد أي موعد لعودة دمشق إلى الجامعة العربية أو تدفق المساعدات الخليجية المأمولة لإعادة الإعمار.

ويتردد الحديث في الكرملين عن ضعف كفاءة الدبلوماسية الروسية، وعجزها عن استثمار “الانتصار” الذي حققه العسكريون في سوريا، إذ لا تزال حظوظ موسكو في تحقيق أية جدوى سياسية أو اقتصادية من عمليتها العسكرية محدودة للغاية. 

وبخلاف الخطة الروسية، التي تتعجل إجراءات التطبيع غير المشروط مع دمشق؛ تعمل الإدارة الأمريكية، من خلال وسطاء إقليميين، على مفهوم تحقيق “تغيير متدرج لسلوك النظام”، بحيث تلتزم دمشق بالحد من النفوذ الإيراني، وبالتعاون في تحقيق الحل السياسي وفق القرار الدولي (2254)، مقابل حزمة “حوافز” أمريكية تتضمن: رفعاً تدريجياً لـعقوبات “قانون قيصر”، وتقديم الدعم المالي لإصلاح البنى التحتية من خلال البنك الدولي، والسماح بفتح دول الجوار حدودها مع دمشق.

علماً بأن مشروع مد شبكة الكهرباء (الأمريكي-الأردني) لا يقع ضمن دائرة المصالح الروسية، بل يعمل الكرملين على مشروع مغاير لتعزيز مصالح شركاته في مجال الطاقة بسوريا.

وتكمن العقبة الرئيسة لدى روسيا في عدم اعتراف واشنطن بمصالح موسكو في مقاربتها الجديدة، وسعيها لإفساد الترتيبات الروسية شمال شرقي سوريا، ما عرقل جهود التوصل إلى “خارطة للطريق”، إذ تظل الملفات الأساسية في الشأن السوري عالقة دون أي إنجاز، وعلى رأسها: 

  • مستقبل الإدارة الذاتية الكردية.
  • إعادة نشر القوات الإيرانية.
  • مشاريع الدعم الاقتصادي.
  • التصعيد في إدلب.
  • أعمال اللجنة الدستورية.

أما المنجزات التي تحتفل بها دمشق، والمتمثلة في؛ التوجه العربي للتطبيع مع النظام، ورفع العقوبات عن بضعة أفراد، واستقبال وفوده الرسمية بعد طول قطيعة، فهي لا تخرج عن سياسة “الخطوة بخطوة” والتي لا ترقى إلى مستوى الصفقة أو التفاهم الدولي، إذ لا يزال النظام يعاني من الإفلاس الاقتصادي، فيما كشفت المواجهات في درعا خطأ التعويل على قوته العسكرية، وأظهرت عجزه عن السيطرة على رقعة جغرافية صغيرة في الجنوب السوري دون دعم حلفائه الروس والإيرانيين.

ومن خلال تتبع موجة التصريحات، والتسريبات، التي صاحبت الحراك الدبلوماسي الدولي حول سوريا في الأسابيع الماضية، يمكن القول أنه لا توجد حتى الآن مبادرة شاملة لإخراج سوريا من أزماتها الاقتصادية والإنسانية، إذ ينحصر الموقف الدولي اليوم إزاء سوريا في كتلتين رئيستين هما:

1- القوى الخمسة الفاعلة عسكرياً على الأرض (روسيا-الولايات المتحدة-تركيا-إسرائيل-إيران): والتي لم تنجح إلى اليوم في تحقيق أي توافق يذكر، بل تنشغل جميعها في إعادة رسم دوائر التأثير والنفوذ لمواكبة متغيرات مشهد الصراع.

2- مجموعة الدول العربية التي تتجه نحو التطبيع مع النظام (الأردن، العراق، مصر، لبنان، بعض دول مجلس التعاون): وهي مجموعة الدول المذعورة والمنهكة من أحداث “الربيع العربي”، والتي لا تملك أي تأثير فعلي على الأرض، بل ينحصر دورها في محاولة الوساطة بين الدول الفاعلة لصالح بشار الأسد، ومحاولة التطبيع مع نظامه دون القدرة على إعادة تعويمه في المشهد الدولي.

ثالثاً: التراجع العسكري الإيراني

سحبت القوات الإيرانية في الأشهر الماضية من سوريا نحو سبعة آلاف عنصر باكستاني من ميلشيا: “زينبيون” نتيجة انحسار العمليات القتالية، وتعمل على إرسال عدد مماثل من المقاتلين الأفغان بلواء “فاطميون” إلى الحدود مع أفغانستان عقب انسحاب القوات الأمريكية من كابل، فيما ينحسر الجزء الأكبر من عناصر الميلشيات العراقية نحو المناطق الحدودية بين سوريا والعراق.

وتشير التوقعات إلى أن النظام الإيراني يتجه نحو تعزيز نفوذه وسط آسيا، لتغيير الموازين في المنطقة عقب انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان. ويدعم هذا التوجه إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس”، وهو الذي ظل مسؤولاً لسنوات عن تجنيد مقاتلين للفيلق من أفغانستان وباكستان، ولا يزال يولي اهتماماً خاصاً بتغذية النزاعات الطائفية في وسط آسيا، حيث تحدثت تقارير أمنية عن قيام الحرس الثوري بتنفيذ خطة انتشار للواء “فاطميون”، في: “كابول”، و”هرات”، و”فرح” بأفغانستان، لمنافسة النفوذ الباكستاني، والزج بالمزيد من عناصر اللواء، بعد سحبهم من سوريا، في المناطق الحدودية مع أفغانستان. 

ويعمل “قاآني” على خطة طموحة تتضمن تغطية أفغانستان بشبكة “شيعية” من مقاتلي الميلشيات الذين ينتمون إلى مجموعات عرقية كالأوزبك والطاجيك في مواجهة الأغلبية السنية من البشتون الذين يفضلون التعامل مع الاستخبارات الباكستانية، والتي ترغب بإبقاء أفغانستان تحت قبضتها.

أما في سوريا؛ فيمكن ملاحظة تحول السياسة الإيرانية باتجاه “القوة الناعمة”، حيث يتزامن سحب عناصر الميلشيات مع عملية إعادة انتشار واسعة النطاق، وانشغال السفارة الإيرانية بتعزيز أذرعها “الدينية” و”الثقافية” بمختلف المحافظات، بالتزامن مع حركة نشطة لشراء عقارات في مواقع حيوية بدمشق وحلب، وتعزيز حركة التبادل التجاري والاستثمار في قطاعات الطاقة والاتصالات.

رابعاً: مأزق “الإدارة الذاتية”

تعاني “الإدارة الذاتية” الكردية من ظروف عصيبة عقب سلسلة إجراءات اتخذتها الإدارة الأمريكية في الأشهر الماضية، تضمنت سحب ترخيص شركة “دلتا كريسنت إنرجي” الأمريكية للعمل في حقول النفط في شمال شرقي سوريا، وذلك بالتزامن مع استعداد شركات النفط الروسية للانتقال إلى المنطقة التي كانت ستديرها الشركة الأمريكية.

ولم تُجدِ توسلات قائد “قسد”، مظلوم عبدي، بإبقاء نشاط الشركة، والاحتجاج بتقديمها معدات للطاقة الشمسية كذريعة لذلك، ولم تلق مناشداته بإنشاء منطقة عازلة جوية، وتقديم إمدادات عسكرية تتضمن طائرات بدون طيار، واعتراف بقية سوريا بما يسميه “روج آفا” أية آذان صاغية في واشنطن.

وفي اجتماع عقد مؤخراً؛ عبّر قادة “قسد” للمسؤولين الأمريكيين عن قلقهم من إطلاق الولايات المتحدة يد تركيا لاستهداف عناصر تنظيم “حزب العمال الكردستاني” المنضوين في صفوف “قسد”، ما دفع الإدارة الأمريكية للتأكيد على أن مهمة الجيش الأمريكي في سوريا تنحصر بمحاربة تنظيم “داعش” وليس: “الدخول في أي صراع مع أية دولة مجاورة”. الأمر الذي دفع بقيادات الحزب للانسحاب إلى العمق السوري تفادياً لقصف مسيّرات الجيش التركي.

وعلى الرغم من تطمين واشنطن قادة “قسد” بأن القوات التركية لا تعتزم شن عملية عسكرية بمناطق سيطرة “قسد”، وأن عملياتها تقتصر على استهداف عناصر “حزب العمال الكردستاني” في حال رفضهم الانسحاب من سوريا؛ إلا أن ذلك لم يخفف من قلقهم إزاء المخططات التركية، حيث ألقى عبدي خطاباً “عاطفياً” في القامشلي استهله بمقارنة مؤلمة بين مناطق حكمه وأفغانستان، مؤكداً أنه لن يكون كالرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني، فيما عبرت رئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية “مسد”، إلهام أحمد، عن قلقها من إمكانية انسحاب القوات الأمريكية من المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، شمال شرقي سوريا، محذرة من أن: “انسحاب الأمريكيين من سوريا سيؤثر على إستراتيجيتهم في الشرق الأوسط ككل”.

وبعد أن أعيتهم الدبلوماسية مع واشنطن؛ توجهت أنظار قادة “قسد” نحو الرئيس الفرنسي، على الرغم من أنه من غير المرجح أن تقدم باريس أكثر من دعم رمزي، كما التقى وفد من “مسد” برئاسة إلهام أحمد، الممثل الخاص للرئيس الروسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، وطلب منه بذل وساطة روسية للتفاوض مع النظام.

خامساً: خروج المعارضة من المشهد السياسي

تراجعت قدرة الائتلاف على أداء دور فاعل وإيجابي في مسيرة الثورة السورية، وذلك نتيجة عجزه عن مواكبة المتغيرات التي طرأت في المشهد الدولي، وخاصة فيما يتعلق بالحراك الذي قام به المبعوث الأممي إلى سوريا بمجلس الأمن غير بيدرسون قبل نحو عام، حيث أكد (أكتوبر 2020) أن وضع دستور جديد للبلاد عبر مفاوضات اللجنة الدستورية لا يمكن أن يكون كافياً للحل، ودعا إلى: “تدشين عملية سياسية أوسع وأكثر مصداقية”، ثم قام بجولة مهمة أسفرت عن توافقات غير معلنة لصياغة مقاربة جديدة من خلال الدول العربية الفاعلة على أساس “خطوة-خطوة” لحل القضايا التي تتجاوز اللجنة الدستورية ومخرجاتها.

وأسفرت تلك الجولة عن إصدار عدة مسودات في الكواليس الدبلوماسية العربية تحصر المعالجة السياسية بتعاون دمشق، وتُحيّد مؤسسات المعارضة التي بقيت قاصرة دون مواكبة الحراك الدبلوماسي.

وبينما كانت الولايات المتحدة وفرنسا تفتحان القنوات الدبلوماسية الخلفية مع النظام؛ كانت الأبواب توصد أمام المعارضة، فيما سعت الدول الغربية للدفع بالملف الكردي إلى الواجهة بهدف تعزيز التمثيل السياسي للإدارة الذاتية في المحافل الدولية.

في هذه  الأثناء لم تنجح مؤسسات المعارضة في تحقيق أي إنجاز سياسي أو دبلوماسي عبر مراهنتها على أعمال اللجنة الدستورية والترويج لها، ناهيك عن بلورة موقف من تلك التحولات.

أما على الصعيد الداخلي للائتلاف؛ فتستمر أزمة تشكل الائتلاف من مجموعة أفراد لا يشكلون أي توجه سياسي متجانس، ودون أن يكون الأعضاء ممثلين حقيقيين للمكونات الرئيسة، خاصة وأن أغلب الكيانات السياسية التي يستندون لعضويتها في الائتلاف لم تعد قائمة.

وتحوّل الائتلاف واللجنة الدستورية، في صورتهما الحالية، إلى “نادٍ مغلق” يسيطر عليه بعض الأعضاء المتنفذين، مع تهميش شبه كامل للقوى السياسية، وطغيان الصفة الفردية والتوجهات الشخصية للأفراد المسيطرين، ما أدى ذلك إلى خلق فجوة بين المكونات الرئيسة وبين مؤسسات الائتلاف، فيما تهيمن مظاهر المحاصصة، والتكتل، وبناء التحالفات الشخصية لتمرير القرارات. 

سادساً: غياب أفق التعافي الأمني والاقتصادي

تستمر معاناة سكان إدلب من التصعيد العسكري، حيث يواصل الطيران الروسي وقوات النظام قصفهم لقرى وبلدات المحافظة رغم الاتفاق على التهدئة في لقاء أردوغان-بوتين الأخير، ويبدو أن الأزمة ستسمر حتى يتم الاتفاق على خارطة نفوذ جديدة في الشمال السوري.

وتعيش مناطق “التسوية” التي أجراها النظام برعاية روسية في كل من الغوطة الشرقية، وريف حمص الشمالي حالة عدم استقرار عقب أحداث درعا، فيما يسود التوتر ضفتي نهر الفرات في محافظة دير الزور بعد أن شهدت المنطقة مواجهات بين القوات الأمريكية من جهة، والقوات الروسية والميلشيات الإيرانية من جهة ثانية. 

أما في الساحل؛ فيتنامى التذمر في صفوف الطائفة العلوية، جراء التدهور الاقتصادي، والخسائر البشرية، ما دفع ببشار الأسد إلى اتخاذ إجراءات لترتيب البيت العلوي الداخلي وإجراء حركة تعيينات بهدف تمكين سيطرته على مفاصل الطائفة، وإبعاد الشخصيات المتذمرة تحت ذريعة بلوغ السن القانونية للتقاعد أو النقل لمناصب رمزية لا تمثل خطورة على رأس النظام.

وكانت المواجهات التي شهدتها محافظة درعا قد ألقت الضوء على تفاقم التوتر بين “الاستخبارات العسكرية” و”المخابرات الجوية” التي اختار كل منها معسكراً في معركة التنافس الروسي-الإيراني، بالإضافة إلى الصراع المحتدم بين “الفرقة الرابعة” الموالية لإيران و”الفيلق الخامس” الموالي لروسيا.

في هذه الأثناء؛ يعاني المقيمون في سائر مناطق سيطرة النظام من: سوء الأوضاع المعيشية جراء تنامي مظاهر الفقر، وانهيار قيمة الليرة، وارتفاع الأسعار، وانقطاع التيار الكهربائي، وتدهور القطاعات الصناعية والتجارية، ما دفع بنحو خمسين ألف مواطن من التجار والصناعيين لمغادرة البلاد خلال الأسابيع الماضية، بعد أن استهدفتهم أجهزة النظام بحملة إغلاق معاملهم والحجر على أموالهم.

وكشفت مصادر الأمم المتحدة عن أرقام مهولة فيما يتعلق بالفقر وتنامي أزمة الغذاء، نتيجة معاناة البلاد من موسم حصاد ضعيف بسبب الحرائق والجفاف وارتفاع التكاليف التي أنهكت المزارعين، فيما تشهد سائر المحافظات حالة غير مسبوقة من التردي الأمني، حيث تنتشر جرائم السرقة ومظاهر تواطؤ الشرطة مع العصابات التي ينتمي معظم عناصرها إلى “اللجان الشعبية” أو “المخابرات الجوية”.

وبالإضافة إلى دمشق وحلب؛ تتنامى مشاعر السخط في مدن الساحل وفي السويداء، حيث شهدت اللاذقية وجبلة سلسلة احتجاجات شعبية، تخللها قطع للطرقات عن طريق إحراق الإطارات المطاطية، فيما شهدت العديد من بلدات السويداء اقتتالاً بين عناصر “حزب اللواء السوري” وميلشيا “الدفاع الوطني” بالأسلحة المتوسطة والثقيلة.

وعلى الرغم من مظاهر التطبيع الإقليمي التي يحتفي بها النظام، إلا إنه لا يبدو للعيان أية بارقة أمل في البدء ببرنامج “مارشال” خليجي لانتشال الاقتصاد السوري من كبوته، حيث دار الحديث في كواليس الدبلوماسية العربية عن حزمة من شروط اقترحتها بعض دول مجلس التعاون على دمشق مقابل العودة للجامعة العربية وتدشين مشاريع إعادة الإعمار، الأمر الذي قابله النظام بتحفظ وانزعاج.

ودفع تعنت النظام لاستبدال ذلك العرض، بمشروع (مصري-أردني) بديل يقوم على سياسة “خطوة بخطوة”، بدعم أمريكي-فرنسي، ينص على تشجيع النظام بالمزيد من الحوافز كلما قدم المزيد من التنازلات، ولا يرقى هذا العض الحذر إلى مستوى إعادة تعويم النظام أو إخراجه من أزمته الاقتصادية.

سابعاً: بروز واقع مجتمعي جديد

يرتسم في الساحة السورية مشهد مجتمعي جديد خارج إطار الجغرافيا السورية التقليدية، إذ يتوزع أكثر من نصف السكان خارج مناطق سكناهم في مناطق النزوح واللجوء، وفي المهجر، حيث يقدر تعداد الجاليات السورية في الخارج بالملايين.  

وكان تقرير أصدرته منظمة “يونسيف” قد كشف، في شهر مارس الماضي، عن ولادة خمسة ملايين طفل سوري منذ عام 2011، ما يعني أن مجموع عدد مواليد الفترة (2000-2020) يبلغ نحو 10 ملايين نسمة (منهم 4,95 مليون ولدوا في الفترة 2000-2010، وخمسة ملايين ولدوا في الفترة 2011-2020). 

علماً بأن أرقام “يونسيف” تقديرية ولا تشمل فئات كثيرة من السوريين، وخاصة لدى الجاليات التي توطنت في الخارج وحصلت على جنسيات دول أخرى، أو القابعين الجدد في الشتات من الذين لم يتم تصنيفهم بعد، ويقدر عددهم بنحو مليون نسمة، ما يؤكد خطأ توقعات سابقة بتناقص سكان سوريا خلال العقد الماضي، إذ بات من المؤكد أن جيل “ما بعد الألفية” (2000-2020) يفوق في تعداده الجيل السابق، “جيل الألفية” (1980-2000)، والذي بلغت مواليده 7,48 مليون نسمة.

ووفقاً لتلك الأرقام؛ فإن التقدير الفعلي لعدد السوريين اليوم يتراوح بين 28 و30 مليون، نحو 70 بالمائة منهم دون سن الأربعين، ويؤدي ذلك إلى زيادة نسبة الضخ البشري إلى سوق العمل من نحو 350 ألف نسمة سنوياً قبل عام 2000، إلى نحو نصف مليون نسمة سنوياً بعدها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الغالبية العظمى من أبناء الجيل الجديد لم يدخلوا مجال التفاعل السياسي والاقتصادي بعد.

وإذا كان الجيل السابق (1980-2000) هو الذي أوقد نيران الثورة عام 2011؛ فإن أبناء جيل ما بعد الألفية يعانون اليوم من أكبر كارثة بشرية يشهدها العالم في القرن الحادي والعشرين، حيث تقدر مصادر الأمم المتحدة أن 90 بالمائة منهم بحاجة للمساعدات الإنسانية، منهم مليون ولدوا في دول الجوار، ونحو 2,5 مليون طفل لاجئ و3 ملايين طفل نازح، لا يذهب نحو 3,5 مليون منهم للمدارس، ومن غير المتوقع أن يعودوا إلى البلاد في غضون السنوات الخمسة المقبلة على أقل تقدير.

وتُفرز هذه المعطيات حزمة جديدة من التحديات التي لم تكن واردة في الحسبان قبل عشر سنوات، ما يدعونا للمسارعة إلى بحث خطورة وحجم التحول المجتمعي الذي طرأ على المشهد السوري، حيث يشهد المجتمع السوري أكبر تكدس سكاني عرفته البلاد في تاريخها المدون (تضاعف عدد سكان سوريا نحو خمسة أضعاف خلال العقود الخمسة الماضية، حيث بلغ عددهم 6,7 مليون نسمة عام 1970).

ويصاحب تلك الزيادة السكانية والهجرات واسعة النطاق؛ ثورة في الاتصالات تسهم في تشكيل رأي عام سوري فاعل خارج إطار الجغرافيا التقليدية للقطر السوري، ما يتيح لملايين الأفراد مجال المشاركة اليومية في سائر الأحداث والتفاعل معها، ويدفع بتيارات منظمة كشبكات الغلو والتطرف إلى ركوب موجة ثورة الاتصالات، ومحاولة التأثير في الملايين من الشباب السوري الذي لا يجد من يخاطبه أو يتفاعل معه في أوساط النخب السياسية أو الدينية التي لا تزال تتحرك من خلال الأطر التقليدية التي اعتادت عليها في الحقبة الماضية.

وبالإضافة إلى الزيادة السكانية؛ تؤثر تلك التحولات الديمغرافية على مفهوم “المركزية السياسية” بصورة أساسية، حيث يفقد نظام دمشق السيطرة (العسكرية والاقتصادية) على العديد من المحافظات، وخاصة في الشمال السوري، مع عجزه عن استعادة السيطرة على تلك الأقاليم في المستقبل المنظور.

وتعزز تلك التحولات مشاريع التقسيم الخارجية، ففي ظل التنافس الروسي-الإيراني على النفوذ، وصراع القوى الأخرى الفاعلة معها، تتنامى ظاهرة تباين ولاءات الميلشيات وتضعف قدرة السلطة على استعادة مركزيتها، وبسط السيطرة على مواردها، ما يمكن أن يؤدي بدوره إلى إفراز نظام حكم “فيدرالي” أو أقاليم “إدارة ذاتية” تتمتع ببنية اقتصادية مستقلة ودعم خارجي.

وسواء أبقي بشار في سدة الحكم، أو غادر خلال السنوات المقبلة؛ فإن التحديات التي تشهدها سوريا في العقد الثالث من الألفية تتخطى مسألة بقاء الأسد من عدمه، خاصة وأن التحول الأكبر يتمثل في تغير مفهوم “سوريا” الوطن، على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتبرز ظاهرة أقرب ما تكون إلى تجربة الشتات الفلسطيني حيث يكمن الثقل الفعلي والتنظيمي خارج الجغرافيا الفلسطينية، ويصبح التأثير الفعلي مرهوناً بقدرة الجاليات السورية في الخارج على الفاعلية والتأثير أكثر من قدرة المقيمين داخل البلاد على تحقيق ذلك.

وبناء على تلك المعطيات فإن مواجهات العقد المقبل ستندرج ضمن إطار “معركة الهوية”، بمختلف أبعادها، كالعلاقة بين الدين والسياسة في نظام الحكم، والإشكاليات المتنامية حول الهوية الوطنية والقومية في ظل الانسياب الإقليمي والأدوار التخريبية التي تمارسها الميلشيات العابرة للحدود، وتدهور العلاقة بين الهوية الجامعة والهويات الفرعية داخل الوطن، وهيمنة مشاكل الهوية في إعادة تشكيل النظام السياسي: كاللامركزية والحكم الذاتي والفيدرالية، وتنامي المطالب الفئوية بإعادة الفرز على أساس إثني-طائفي، بالإضافة إلى مشاكل العولمة السياسية والتي تدفع بعض الشباب المهاجر لتقمص هويات بديلة مغايرة للغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم.

ويمكن القول إن التحول الذي شهده المجتمع السوري خلال العقد الماضي، قد غير صورة “سوريا” كوطن جامع للسوريين بصورة جذرية، وأفرز مشهداً جديداً يتطلب معالجة وأدوات مغايرة لتلك التي اعتاد عليها الفاعلون في العقود الماضية.

ولا شك في أن المحاولات اليائسة التي تبذلها بعض دول الجوار الإقليمي للتطبيع مع الأسد لا ترقى إلى معالجة تلك التحولات الجذرية، ولا تصل إلى مستوى “تعويم النظام”، ناهيك عن معالجة التبعات الإنسانية والاقتصادية والأمنية لأكبر كارثة إنسانية وأعظم حركة تهجير قسري شهدتها البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يمكن لسياسة “خطوة-خطوة” أن تعيد سيطرة نظام بشار الأسد على الأزمة السورية التي باتت تتخطى أبعادها الجغرافية بمراحل.

ويمكن تناول آليات التعامل مع تلك التحولات في ورقة استشرافية لاحقة تفصل أبرز التحديات المقبلة، والتي لم يسبق التعامل معها في التجربة الجمهورية (1936-2011) وسبل معالجتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى