مقالات

وسائل التمزيق الاجتماعي وتشوية الفطرة الإنسانية!

محمد علي الباز

كاتب وباحث في العلوم السياسية
عرض مقالات الكاتب

ظل تدخين السجائر، منذ بداية تصنيعها فى العام 1840م، شائعا زمنًا طويلًا، قبل التنبه لخطره والتحذير من آثاره السلبية على الفرد والمجتمع، مُنع التدخين على الطائرات لأول مرة عام 1988م، وتطور الأمر بإلزام الشركات وضع التحذيرات المكتوبة والمصورة، على علب التبغ.

اليوم يزيد عدد المدخنين على 1.3 مليار مدخن، كلهم أو أغلبهم على الأقل، يعرف خطر التدخين على نفسه وعلى الحياة العامة والمجتمع والمناخ.

بطريقة شبيهة، اشتعلت أول شرارة لمواقع التواصل فى العام 2004م، واستعرت نيرانها حتي بلغ عدد مستخدميها اليوم 3.8 مليار إنسان حول العالم، تقريبا نصف سكان الكرة الأرضية، ومع مثل هذا الإنتشار يكون أثر هذه الوسائل كبيرا فى حياة الناس.

كيف تشوه هذه الوسائل فطرتنا الطبيعية؟

تعظيم الرغبات وترسيخ التعاسة

أصبح كل شيء متاحًا أمام أعين الناس، ومع تسابق فئة من مشاهير هذه الوسائل، فى عرض وتجسيد وتحليل كل شيء، من حياتهم الخاصة وتجاربهم الشخصية، والتي لا يعدو كثير منها محض سفه وانحطاط، مع جرعة مكثفة من التشويق والإثارة، وتصّنع سخيف للسعادة والنجاح.

كل هذا عظّم فى قلوب المتابعين، رغبات واحتياجات فيما لا فائدة منه، ومع محدودية الإمكانيات عند غالب هؤلاء المتابعين، يتولد الإحساس بالعجز، ما يرسخ مشاعر الحزن والألم.

وَالنَفسُ راغِبِةٌ إِذا رَغَّبتَها  –   فَإِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ

يقول جان جاك روسو “إننا لا نعرف ما هو كُنه السعادة فى ذاتها، ولا ما هو كُنه الشقاء فى ذاته، لكننا ندري أن فقدان التوازن والتناسب بين رغباتنا وبين استطاعتنا هو الذي يخلق فينا الشعور بالشقاء”

الدياثة واستمراء الحرمات

كانت الدياثة منذ القدم وستبقى حتي الساعة، سلوكًا مستهجنًا مقززًا، وخُلقًا وضيعًا مُنَفرًا. يتسابق شياطين المشاهير على هذه الوسائل فى جذب المتابعين، وبمزيد من التوغل فى حرمات البيوت، وتناول تفاصيل الحياة الأسرية التى كانت تُعد سرًا حربيًا فى الماضي، يستجلبون المتابعين.

تواتر على هذه الوسائل ما أسميهم “المُتزاوجون”، فما ظنكم ياسادة بكائن يمتهن تصوير زوجته، وعرضها أمام الناس، فى كل ركن من أركان البيت، إن الكتابة عن هؤلاء تثير الغثيان والتقزز.

ولعلنا على موعد نري فيه نبوءة الأستاذ أحمد خالد توفيق يرحمه الله تتحقق، حين قال: “في المواسم القادمة لحلقات رامز جلال، سوف يتناوبون على اغتصاب فنانة أمام الكاميرات، ثم يعلن رامز عن شخصيته ويطلب منها الصفح وهي تلملم ثيابها الممزقة، من ثم يضحك الجميع. لابد أن هذا سيحدث ما دام مؤشر الفظاظة يتصاعد بهذا الشكل”.

فى الحقيقة لا أشعر بأي شفقة تجاه هذه المسوخ البشرية، ولكن الانتشار الكبير لهؤلاء جعلهم كالخلايا السرطانية التي تهدد المجتمع، وما يؤلم حقًا هو الاستمراء والألفة مع هذه السلوكيات ومع هذه الكائنات!

جنون التقليد والتفرّد

تُفرز لنا هذه الخلايا السرطانية الخبيثة، بين الفينة والأخري خُرّاجات وتقيّحات، يتسابق فيها هؤلاء فيما يسمونه “الترند”، ينطلق الترند كالنار فى الهشيم فيتسابق هؤلاء فى ركوبه، فى ماراثون عجيب من التقليد الأعمي والحماقة المركبة.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، وإنما يتعداه نحو توليد واستحداث “التريندات”، التي لم يسبق إليها أحد، ما يستلزم مزيدًا من الولوغ فى المحرمات، طلبًا للتفرد والسبق، واستظهارًا للبراعة فى التفاهة.

ويحكي لنا الشيخ على الطنطاوي رحمه الله، فى مقالة بعنوان “لون من الترف العقلي”، منشورة فى مجلة “الرسالة” سنة 1935، “قصة الرجل الذي قالوا إنه كان يُلقي على الأرض إبرة، ثم يلقي عليها بأخرى وهو قائم، فتقع في خرمها، ولا يزال يرمي واحدة بعد واحدة حتى يجمع مئة إبرة ًمتصلا بعضها ببعض. فرُفع أمره إلى حاكم البلد- وكان عاقلا كريما – فأمر له بمئة دينار وأن يجلد مئة جلدة، فسألوه فقال: أما الدنانير فلهذه البراعة النادرة، وأما الجلد فلأنه صرف همته إلى هذا العبث ولم يوجّهها وجهة ينتفع بها الناس”.

متلازمة الأخذ والعطاء، بين الشياطين والمتابعين

يتابع الناس هذه المشاهد يوما بعد يوم حتى يألفوها، ثم يدمنوا الاطلاع عليها وترصّد تفاصيلها، حتى تتولد لديهم الرغبة فى التلقيد والعرض، وتتطوع إرادتهم طوعا أو كرها، علما أو جهلا، إلى المبادرة بالمساهمة، ولو بالقليل فى هذا السباق نحو المستنقع الآسن.

لا شك عندي أنه سيأتي يوم، تُجبر فيه هذه المواقع على إظهار رسالة تحذيرية، قبل الدخول إليها، سيكتبون فيها “احذر! هذه المواقع تشوه الفطرة وتقتل الإنسانية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى