بحوث ودراسات

الأزمة السورية: ما الذي يدور في موسكو؟

المرصد الاستراتيجي


سبتمبر: أجندة مزدحمة دون نتائج
يدور الحديث في الآونة الأخيرة عن محاولة صياغة تسوية شاملة في سوريا بين واشنطن وموسكو، فيما تشهد الدبلوماسية الروسية حراكاً مكثفاً في الشأن السوري، يمكن تلخيص أبرز محطاته فيما يلي:
1- (9 سبتمبر): لقاء وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بنظيره الإسرائيلي، يائير لابيد، في موسكو، لمناقشة “التسوية السورية”، حيث أكد لافروف على ضرورة التطبيق الكامل لقرار الأمم المتحدة (2254)، وأهمية تقديم المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار البنية التحتية في سوريا.
2- (14-15 سبتمبر): لقاءين عقدهما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع بشار الأسد في الكرملين، أكد فيهما أن: “القضية الرئيسية تنحصر في وجود قوات مسلحة أجنبية على الأراضي السورية من دون موافقة الأمم المتحدة”.
3- (16 سبتمبر): عقد جولة محادثات بين مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي بريت ماكغورك وبين نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فريشنين والمبعوث الرئاسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، في جنيف، استكمالاً لمحادثات عقدت بين الجانبين في يوليو الماضي بناء على مخرجات قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي جو بايدن (16 يونيو) بجنيف.
4- (16-19 سبتمبر): سلسلة لقاءات عقدها وفد من “الإدارة الذاتية” الكردية و”مجلس سوريا الديمقراطية” مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي الى الشرق الأدنى، ميخائيل بوغدانوف في موسكو، لبحث تطورات الملف السوري، وسبل: “توسيع الدور الروسي في مناطق سيطرة قسد”، ومطالبة الخارجية الروسية “بالمساعدة في إطلاق جولة حوار جديدة مع الحكومة السورية، بضمانة روسية”.
5- (24 سبتمبر): عقد لقاء بين وزراء خارجية دول الخليج، مع الوفد الروسي على هامش أعمال الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أكدت وزارة الخارجية الروسية بحث: “المسائل المتعلقة بالتطوير اللاحق لعلاقات روسيا مع دول الخليج، وتبادل الآراء حول القضايا الآنية لمنطقة الشرق الأوسط”.
6- (29 سبتمبر): اجتماع رئيسي أركان روسيا والولايات المتحدة؛ فاليري غيراسيموف، ومارك ميلي، قرب هلسنكي، دون الكشف عن مخرجات ذلك الاجتماع، مع تسريبات عن مناقشة تفاصيل ميدانية حول سوريا.
7- (29 سبتمبر): لقاء جمع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بنظيره التركي، رجب طيب أردوغان، في منتجع “سوتشي”، دون مؤتمر صحفي، خلافاً للبروتوكول، وأشارت التسريبات إلى تناول الزيارة: “رزمة من الموضوعات المتعلقة بتعزيز التفاهمات السابقة، ووضع آليات لتهدئة الوضع حول إدلب، والتمهيد لاتفاقات جديدة في هذه المنطقة”.
8- (30 سبتمبر): إعلان نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف بحث إمكانية عقد لقاء بين سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف ونظيريه الأمريكي والإسرائيلي، وذلك على غرار اللقاء الثلاثي الذي عقد (يونيو 2019) بين؛ سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف، ومستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي آنذاك جون بولتون، ورئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي آنذاك مئير بن شبات، لمناقشة الوضع السوري في إطار ثلاثي.
9- (30 سبتمبر): جلسة جديدة من “الحوار الإستراتيجي” الذي بدأه الرئيسان فلاديمير بوتين وجو بايدن في شهر يونيو، في محاولة للحد من الخلافات التي تقوض العلاقات بين البلدين، برئاسة نائبة وزير الخارجية الأمريكي ويندي شيرمان من الجانب الأميركي ونائب وزير الخارجية سيرجي ريابكوف من الجانب الروسي، والتي عُقدت خلف أبواب مغلقة وفي غياب وسائل الإعلام.
10- وكانت روسيا قد استضافت الملك عبد الله الثاني (28 أغسطس) لمناقشة تطورات الأحداث في سوريا وأفغانستان، واستقبلت الخارجية الروسية وفوداً من لبنان، تضمنت: وفداً من “حزب الله” بقيادة النائب محمد رعد، وسعد الحريري، وزعيم التيار الوطني الحر، جبران باسيل، أعقبها إرسال موسكو وفداً من المسؤولين ورجال الأعمال الروس إلى بيروت.
ويلاحظ في هذه اللقاءات محافظة سائر الأطراف على قدرٍ من السرية، وانتهاء معظم الاجتماعات دون مؤتمر صحفي، ما فتح المجال واسعاً للتكهنات حول وجود مقاربة روسية جديدة لمعالجة “الأزمة السورية” تشمل حزمة من الملفات التي كان بوتين قد وضعها على طاولة لقائه بالرئيس الأمريكي جو بايدن في سويسرا (16 يونيو 2021).
وتوالت الأنباء، عقب ذلك، حول تفاصيل خطة يسوق لها الكرملين، وتتضمن: فك العزلة عن دمشق، وتدشين حقبة جديدة من العلاقات الإقليمية والدولية، تشمل تطبيع مصر والأردن مع النظام وعودته إلى الجامعة العربية، وإمكانية اتخاذ بعض دول مجلس التعاون خطوات لإبعاد الأسد عن شراكته مع إيران نظير إخراجه من أزمته الاقتصادية.
إلا أن الدبلوماسية الروسية -التي رمت بكامل ثقلها في الملف السوري منذ شهر مارس الماضي- لم تحقق أي اختراق يذكر، إذ لا تزال سوريا تعيش أسوأ “كابوس” في تاريخها، حسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة، دون عودة دمشق إلى الجامعة العربية أو تدفق المساعدات الخليجية المأمولة لإعادة الإعمار.
ويتردد الحديث في الكرملين عن ضعف كفاءة الدبلوماسية الروسية، وعجزها عن استثمار “الانتصار” الذي حققه العسكريون في سوريا، وفشلها في تحويل روسيا إلى لاعب مهم ومؤثر في المنطقة، إذ لا تزال حظوظ موسكو في تحقيق أية جدوى سياسية أو اقتصادية من عمليتها العسكرية محدودة للغاية.
وكان من اللافت في لقاء بوتين مع بشار الأسد؛ حضور وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، وغياب وزير الخارجية سيرغي لافروف، حيث تشير المصادر إلى أن بوتين يوجه أصابع اللوم إلى وزير خارجيته، في عدم القدرة على تحقيق أي اختراق يذكر، ووصف أداءه بالمتردد والرديء.
ويبدو أن وزير الدفاع، شويغو، يوافق بوتين على هذا التقييم، حيث يُحمّل كل منهما وزير الخارجية لافروف مسؤولية فشل روسيا في التوصل إلى توافقات دولية صلبة تضمن مصالح روسيا في المنطقة.
واشنطن: معالجة مغايرة للخطة الروسية
وعلى الرغم من الحراك الدبلوماسي الروسي بالتنسيق مع واشنطن؛ إلا أن جميع المؤشرات تؤكد على أن الولايات المتحدة تعمل ضمن إطار مقاربة مختلفة عن الخطة التي تحاول موسكو فرضها، إذ تعود بواكير المبادرة الأمريكية إلى شهر يونيو الماضي، عندما أجرت مع مدير الأمن العام اللبناني “عباس إبراهيم” اتصالات بشأن مسألة عودة اللاجئين السوريين في لبنان، وتسليم المساعدات الإنسانية، وغيرها من القضايا المحورية في الملف السوري، وأكد تقرير أمني غربي أن “إبراهيم” قام بدور “الوسيط المثالي” بين واشنطن وموسكو باعتباره المسؤول عن الشؤون السورية في بيروت، حيث تُمثّل عودة نحو مليون ونصف لاجئ سوري في لبنان إلى بلادهم أولوية لدى موسكو.
وجاء الحدث الأبرز في شهر يوليو، عندما انتزع الملك عبد الله الثاني من الرئيس الأمريكي جو بايدن موافقة على مشروع شامل، يتضمن منح لبنان استثناءً لاستجرار الكهرباء من الأردن عبر الأراضي السورية، على أن تتم العملية عبر استيراد الغاز المصري للأردن لتشغيل الخط وتزويد لبنان بالكهرباء والغاز، حيث تملك سوريا شبكة كهربائية واسعة مع الأردن تم تشييدها بتمويل من الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لربط الكهرباء بين مصر والأردن بتكلفة بلغت 145 مليون دولار آنذاك.
وكشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن نجاح مساعي العاهل الأردني في إقناع الرئيس الأمريكي جو بايدن بتشكيل فريق عمل للمساعدة في استقرار سوريا، يجمع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإسرائيل والأردن، ودولاً أخرى لم تُحددها الصحيفة، للاتفاق على خارطة طريق لاستعادة “سيادة سوريا ووحدة أراضيها”، خاصة وأن واشنطن قد التزمت الصمت إزاء المواجهات الدائرة بدرعا، والتي تعتبر محور المشروع الأمريكي-الأردني الجديد.
وكان هذا المشروع على رأس المواضيع التي تمت مناقشتها في قمة بغداد (28 أغسطس) بمشاركة دول عربية وأجنبية منها؛ السعودية، وإيران، والإمارات، وتركيا، ومصر، وقطر، والأردن، والكويت، وفرنسا، بالإضافة إلى منظمات عربية ودولية.
وفي نكسة للدبلوماسية الروسية؛ كشف موقع “ستراتيجي بيج” عن إرسال بشار الأسد مبعوثاً خاصاً من طرفه إلى واشنطن، لإبلاغ الإدارة الأمريكية باستعداده للعمل والتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة في شأن جميع القضايا التي تخصها في الشرق الأوسط، مقابل دعمه، وتضمنت رسالة دمشق تطمينات للأمريكان حول الوضع في الجنوب، حيث تم التأكيد على رغبة النظام في ضمان أمن المنطقة بالتعاون مع “إسرائيل”.
وبخلاف الخطة الروسية، التي تتعجل إجراءات التطبيع غير المشروط مع دمشق؛ تعمل الإدارة الأمريكية من خلال وسطاء إقليميين على مفهوم تحقيق “تغيير متدرج لسلوك النظام” تلتزم فيه دمشق بالحد من النفوذ الإيراني، وبالتعاون في تحقيق الحل السياسي وفق القرار الدولي (2254)، مقابل حزمة “حوافز” أمريكية تتضمن: رفعاً تدريجياً لـعقوبات “قانون قيصر”، وتقديم الدعم المالي لإصلاح البنى التحتية من خلال البنك الدولي، والسماح بفتح دول الجوار حدودها مع دمشق، وتبادل الزيارات رفيعة المستوى.
ويجدر التنبيه إلى أن مشروع مد شبكة الكهرباء (الأمريكي-الأردني) لا يقع ضمن دائرة المصالح الروسية بالضرورة، حيث يعمل الكرملين على مشاريع مغايرة لتعزيز مصالح شركاته في مجال الطاقة بسوريا، حيث تعمل شركة “كابيتال إل إل سي” الروسية على تنفيذ سلسلة اتفاقيات مع “المؤسسة السورية العامة للنفط”، تتضمن التنقيب عن الغاز، فيما تعمل شركة “ستروترانس غاز” الروسية في لبنان على منافسة النفوذ الأمريكي في مشروع الغاز المرتقب عبر الأراضي السورية.
ودفع التجاهل الأمريكي لمصالح روسيا ببوتين إلى ترتيب اجتماع لأعمال اللجنة الحكومية السورية-الروسية المشتركة، بالتوازي مع لقائه ببشار الأسد (15 سبتمبر)، حيث تم “إجراء تقييم عميق لصيغ ومشاريع التعاون الاقتصادي بين البلدين وكذلك مناقشة عدد من الاتفاقات والمشاريع المشتركة في مجالات الزراعة والصناعة والطاقة والمياه وتكنولوجيا المعلومات، وتعزيز التبادل التجاري بين البلدين مع التأكيد على الدور المحوري لقطاع الأعمال في البلدين في هذا المجال”.
ويشرف فريق بالكرملين على تنفيذ خطة اقتصادية في سوريا، تتضمن دفع المستثمرين الروس وشركات النقل الأجنبية لبناء محطة جديدة في مطار دمشق، بالإضافة إلى الاستثمار في قطاعات الطاقة والموانئ والنقل البحري، وعلى سير أعمال شركة: “إيست ميد أمريت” بالتنقيب عن الغاز، وتنقيب شركة “كابيتال” عن البترول في البحر المتوسط مقابل ساحل طرطوس.
وسبق وأن وقعت شركات روسية (“ميركوري”، و”فيلادا”، و”ستروي ترانس”، و”نفتا غاز”) عقوداً مع النظام للتنقيب واستخراج النفط والغاز، وترميم وتطوير منشآت نفطية، وأخرى لتنفيذ مشاريع لتوليد الطاقة واستخراج الثروات المعدنية، والتنقيب واستخراج الفوسفات، بالإضافة إلى تأجير مرفأ طرطوس لشركة “اس.تي.جي اينجينيرينغ” لمدة 49 عاماً.
وتكمن العقبة لدى روسيا في عدم اعتراف واشنطن بمصالح موسكو في مقاربتها الجديدة، وسعيها لإفساد الترتيبات الروسية شمال شرقي سوريا.
هموم بوتين “الإستراتيجية”
يرى الكرملين الفرصة سانحة لتعزيز نفوذه من خلال موجة “المصالحات” التي تشهدها المنطقة، والتي يمكن أن تسفر عن توافقات تساعد روسيا على تحقيق موطئ قدم، وذلك من خلال لعب دور الوسيط بين “إسرائيل” ودول مجلس التعاون الخليجي من جهة، وإيران من جهة ثانية.
كما يرغب بوتين في توظيف الغضب الإقليمي من الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان، ومفاوضات واشنطن مع إيران في معزل عن حلفائها، لفتح قنوات تفاوضية بديلة يمر معظمها عبر روسيا.
ولتحقيق ذلك فإن موسكو ترغب في معالجة الأزمة السورية ضمن صفقة إقليمية تتضمن ترتيب حزمة اتفاقيات بين إيران والدول الخاضعة لنفوذها (بغداد-دمشق-بيروت- صنعاء)، مع دول مجلس التعاون ومصر.
وأسهمت نتائج انتخابات الدوما عن أغلبية مريحة دفعت بوتين للتركيز على المسائل الإستراتيجية، حيث يعكف على صياغة رؤية لتعزيز موقف الروسي دولياً، عبر رؤية جديدة للأمن القومي، تمت المصادقة عليها مؤخراً، وتتضمن: تعزيز الأمن السيبراني، وخوض مجال التأثير من خلال توظيف القوة الناعمة في الخارج، وتحديث الأجهزة الأمنية والعسكرية.
ونظراً لما يمثله الملف السوري من أهمية محورية في الخطة الروسية؛ فقد شكل بوتين فريقاً من الخبراء المخضرمين خدموا سابقاً في الأجهزة الأمنية والعسكرية، أبرزهم:
1- سيرغي فيرشينين: نائب وزير الخارجية، وهو سياسي خبير في شؤون المغرب العربي والشرق الأدنى، ويركز في الوقت الحالي على سوريا.
2- ميخائيل بوغدانوف: مساعد لوزير الخارجية لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط، وممثل خاص للرئيس لشؤون الشرق الأدنى وأفريقيا.
3- ألكسندر لافرنتييف: الممثل الخاص للرئيس للملف السوري.
4- ألكسندر إيفيموف: السفير الروسي السابق بدولة الإمارات، والذي انتقل إلى السفارة الروسية بدمشق عام 2018.
5- سيرغيو أفاناسييف: أحد كبار مسؤولي الاستخبارات العسكرية الروسية الخارجية، والضليع في الملف السوري.
6- سيرغي فيازالوف: الأمين العام لوزارة الخارجية، والذي يُعتبر عين الرئيس بوتين في الوزارة.
وأسند الكرملين إلى أعضاء الفريق سلسلة مهام، تتضمن الإشراف على: خفض العمليات القتالية، وتأمين الموارد لإعادة الإعمار، ودفع تل أبيب لخفض غاراتها الجوية، وحمل إيران على إعادة نشر قواتها، ويلاحظ التركيز على العنصر الاستخباراتي والعسكري في مقابل تراجع المعالجة الدبلوماسية التي لا تزال قاصرة دون تحقيق طموحات بوتين.
إخفاق الدبلوماسية، وضبط الإيقاع الإقليمي… بالقوة
ومن خلال استعراض العمليات الروسية الأخيرة؛ يمكن ملاحظة تعويل الكرملين على ثلاثة عناصر رئيسة في المعادلة السورية:
1- المعالجة المجتزأة: حيث تعمل موسكو مع مختلف القوى الفاعلة بصورة منفصلة، ووفق معادلات متباينة، عبر دبلوماسية منفصلة، حسب كل دولة.
2- المراهنة على التأزيم بدل التهدئة: إذ لا تزال السياسة الروسية ترتكز على تأزيم المشهد السوري، وإدارة الصراعات القائمة فيه، وليس على معالجتها أو حتى تهدئتها، حيث تدرك موسكو أن أي توافق إقليمي أو دولي لن يكون في صالحها، بل سيدفعها ذلك إلى تقديم تنازلات ليست مضطرة إلى تقديمها في الوقت الحالي.
3- إدارة الصراع القائم دون معالجة دبلوماسية رديفة: حيث يعمد الكرملين إلى ممارسة الضغوط لدفع غرمائه للانصياع باستخدام القوة الخشنة التي لا تزال السمة الرئيسة لسياسة موسكو في الملف السوري، فقد لجأت القوات الروسية إلى تفعيل منظوماتها الدفاعية (SA-17) و(SA-22) لاعتراض معظم الصواريخ الإسرائيلية، في رسالة تهدف إلى تقليص العمليات الإسرائيلية في سوريا، والضغط على تل أبيب للقبول بقواعد جديدة.
وعندما انضمت الأردن للمناورات البريطانية قبالة الأراضي السورية، بادرت موسكو إلى إرسال قوات إلى البحر المتوسط، وإجراء مناورات بمشاركة خمس سفن حربية. وفي مواجهة تحركات حلف شمال الأطلسي على مقربة من حدود بيلاروسيا؛ أجرت روسيا عدة تدريبات في البحر المتوسط، قبالة السواحل السورية في منتصف شهر سبتمبر الجاري.
ووفقاً لمصادر أمنية فإن تقارب أردوغان مع مصر ودولة الإمارات قد أثار حفيظة بوتين، الذي شعر بالامتعاض من إمكانية توجه نظيره التركي لدعم مشروع خط الكهرباء المدعوم من قبل أمريكا وإسرائيل، ومن إمكانية تأثير مشاريع الاستثمار التي أعلنها وزير التجارة بدولة الإمارات العربية المتحدة (14 سبتمبر 2021) مع ثماني دول، من بينها تركيا، على مشاريع الاستثمار الإماراتية في روسيا، ودفعت تلك التطورات بوتين لتصعيد الموقف العسكري في إدلب، ما اضطر أردوغان لزيارة بوتين على عجل والتأكيد على صفقة منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس 400″، والمضي في مشروع محطة “آق قويو” للطاقة النووية في ولاية مرسين (جنوب)، وتدشين خطين لنقل الغاز من روسيا إلى كل من تركيا وأوروبا مروراً بالبحر الأسود، ودراسة إنشاء محطتين نوويتين إضافيتين، والمطالبة بخروج القوات الأمريكية من سوريا، مقابل تعهد موسكو بتهدئة الوضع في إدلب.
ولا تبدو موسكو معنية بالتوصل إلى إجماع دولي حول سوريا، بل تعمل على توظيف خطوط الصدع بين مختلف القوى الفاعلة للمضي في خطتها الهادفة إلى دفع الولايات المتحدة وحلفائها للاعتراف بنفوذ روسيا ومصالحها في سوريا.
وفيما تمنع روسيا تحقيق أي توافق في الأمم المتحدة حول الملف السوري؛ ترمي سياسة الكرملين بثقلها خلف مفهوم “الدبلوماسية المجتزأة” كسبيل أوحد لدفع مختلف الدول لتطبيع العلاقات مع النظام السوري من خلال التحكم بأوراق التأزيم والتهدئة، ويبدو أن الوضع لن يهدأ في الشمال السوري قبل أن يُذعن أردوغان لكامل الخطة الروسية التي تتضمن التطبيع مع النظام وإعادة رسم خطوط التماس على طول الطريق الدولي (M4).
رهانات خاسرة
وفي خضم الدبلوماسية المكثفة حول سوريا، يتساءل المراقبون إن كانت هنالك خطة في الكواليس لمعالجة الأزمة السورية؟
والإجابة هي أن المشهد الدولي لا يزال بعيداً عن تحقيق أية توافقات مشتركة، ناهيك عن التوصل إلى “خارطة للطريق”، وهو أمرٌ لا يزال بعيد المنال، إذ تظل الملفات الأساسية في الشأن السوري عالقة دون أي إنجاز، وعلى رأسها: مستقبل الإدارة الذاتية الكردية، وإعادة نشر القوات الإيرانية، ومشاريع الدعم الاقتصادي، والتصعيد في إدلب، وأعمال اللجنة الدستورية.
أما المنجزات التي تحتفل بها دمشق، والمتمثلة في؛ التوجه العربي للتطبيع مع النظام، ورفع العقوبات عن الأفراد، واستقبال الوفود الرسمية بعد طول قطيعة، فهي لا تخرج عن سياسة “الخطوة بخطوة” والتي لا ترقى إلى مستوى الصفقة أو التفاهم الدولي، ولا يزال النظام السوري يعاني من الإفلاس الاقتصادي ومن الصراع الطاحن على مختلف الجبهات، ولم تسفر الدبلوماسية الروسية خلال الأشهر الستة الماضية (مارس-سبتمبر) عن أية منجزات حقيقية في المشهد السوري، وذلك على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها وزارة الخارجية لإقناع الدول العربية بتسريع وتيرة التقارب مع دمشق، فيما كشفت المواجهات في درعا خطأ التعويل على قوة النظام وأظهرت عجزه عن السيطرة على رقعة جغرافية صغيرة في الجنوب السوري دون دعم حلفائه الروس والإيرانيين.
ومن خلال تتبع موجة التصريحات، والتسريبات، التي صاحبت الحراك الدبلوماسي الدولي حول سوريا في الأسابيع الماضية، يمكن القول أنه لا توجد حتى الآن مبادرة شاملة لإخراج سوريا من أزماتها الاقتصادية والإنسانية، حيث تنشغل سائر القوى الفاعلة على الأرض (روسيا-الولايات المتحدة-تركيا-إسرائيل-إيران) في إعادة رسم دوائر التأثير والنفوذ لمواكبة متغيرات مشهد الصراع، فيما تعمل القوى غير المؤثرة ميدانياً (وأغلبها في جامعة الدولي العربية) على صياغة وساطة تسير لصالح نظام بشار.
أما على الصعيد السوري، فثمة انزعاج كبير لدى النظام من إقصائه عن كواليس الدبلوماسية الروسية مع واشنطن وأنقرة وتل أبيب، ومن بذل بوتين تعهدات بالنيابة عن دمشق دون موافقتها.
ويخوض وفد “الإدارة الذاتية” و”مسد” مفاوضات مصيرية بواشنطن وموسكو تراوح بين السيء والأسوأ، فيما تقف المؤسسات التي تدعي تمثيل قوى الثورة والمعارضة خارج المعادلة بالكامل، ولا تحظى بأي اهتمام مُعتبر أو تأثير يُذكر في المشهد الدولي.
وعلى الرغم من العناوين الكبيرة التي يروج لها الموقف الرسمي العربي بشأن سوريا؛ إلا أنه لا يمثُلُ للعيان نجاح الدبلوماسية العربية في تطويع الدب الروسي، أو دفع إدارة بايدن المترددة لاتخاذ أي إجراء جاد وملموس إزاء سوريا، ولا يخرج الموقف العربي (الخائف والمنهك بعد عشر سنوات من الفوضى) عن إطار: إستراتيجية “الخطوة بخطوة” التي يدعو إليها المبعوث الأممي غير بيدرسون، والرهانات الخاسرة بإمكانية “تعديل سلوك النظام”، والتسويق لأكذوبة إقناع بشار الأسد بالتخلي عن الظهير الإيراني، وأوهام تحقيق توافق أمريكي-روسي حول سوريا، الأمر الذي لا يزال بعيد المنال منذ إخفاق موسكو وواشنطن في تنفيذ بنود اتفاق كيري-لافروف عام 2016.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى