منوعات

الضريرة

فيصل عكلة

صحفي سوري
عرض مقالات الكاتب


تجدّ الحاجة سهلة السير عبر زقاق ضيّق و متعرج و يفضي إلى الساحة المستطيلة قبالة باب الدار ، و ذلك في طريق عودتها الصباحية المعتادة من زيارات أقاربها في الحارة الشرقية و تحمل في يدها عكازها و في اليد الثانية سطلا نحاسيا صغيرا له زنار ذهبي و فيه أجرتها من الذبدة التي حصلت عليها من خضّ اللبن ..
هي ضريرة و تحمل على كاهلها ثمانين حولا إلا أنها تملك بصيرة نافذة و تستطيع معرفة من يمر بجوارها من حسفته و تنادي عليه ، يحترمها الجميع و يقدرها الكبير و الصغير عبر عشرة طويلة فهي لم ترزق بالولد و كانت متزوجة من أحد أقربائنا الذي أورثها نصف بيت الغمس في هذه الدار التي آلت على نفسها أن تمضي ما تبقى لها من أيام فيها مع من أحبتهم و أحبوها …
تلقي تحية الصباح على ختايرة الحارة المتوزعين على الدكّات الحجرية على أطراف الساحة و قد عكست أشعة شمس الصباح على جباههم حكايا السنين المليئة بالفقر و ضنك العيش ، و منهم من يتحدث عن ذكريات الحرب و السفربرلك و من يستمع و من يدرج سيكارته و من يحفر الأرض بعكازه ..
تسأل الحاج أبو ابراهيم عن أخبار مرض المرتعية الذي أصابه و تؤكد عليه الالتزام بعلاج الأعشاب و المرهم الذي صنّعته له ، و تصيح على الحاج حمدو لتسأله عن البقرة هل ولدت و تنصحه أن يسقيها مغلي ورق الزيتون ، و تعاتب حسن العلي لتقصيره مع جاره حسين في مساعدته في تطيين السطح و تقول :
الجار للجار ، و ما جاورك من قلة الجيران ..
ثم تدلف الحجة باب الدار قاطعة الدرجات الحجرية الثلاث و تنحرف نحو اليسار حيث موقع بيتنا الطيني الرحيب ، و تنادي على أمي و تتبع النداء فورا بموشح من البهادل و التأنيب و تحذرها من النوم إلى هذه الساعة فالشمس قد علت و اقتربت من كبد السماء و المرأة التي تنام إلى هذا الوقت وجب طلاقها حسب رأيها ، تستعجل أمي الرد عليها فهي تحسب حسابا لزعلها و للسانها و تدعوها للصعود على المسطبة البيضاء و تطلب مني سحبها و أحمل عنها السطل لتضع يدها على كتفي و تقول :
(و الله كبرت يا ابن فطيم الحماش و ما عاد هزلك ، الله يكون بعون أمك على الخرس ) في اشارة إلى أخواي الأصمّان ..
أحاول تغيير الطريق إلى المصطبة و الذي حفظته لكنها تشدني نحو الخلف و تصيح بي :
لوين رايح يا ابن١٦
تفك من زنارها لطيشة أم الخمسة و تفرشها تحتها و تتكوم فوقها في ذات الوقت الذي تحضر فيه أمي سرير أختي الصغيرة إلى جانبها و تطلب من أمي إحضار العدة على السريع ، تطلب أمي من أختي ملئ خلقين الماء النحاسية من الجب و أرافقها في هذا المشوار المحبب و بعد أن تدلي أختي بدلوها أنظر داخل الجب و تدفعني أختي و تحذرني من الخطّافة التي تسكن الجب و أبعد رأسي على مضض و أتعلق بالدلو الصاعد من الجب و تفسح لي أختي المجال لأشرب من الماء البارد و أشعر بالسعادة و أنا أحسّ بالماء المتدفق على ثيابي لتسحب أختي مني الدلو و تفرغ ما تبقى منه في الخلقين ..
أسمعها و هي تسأل أمي عن أم حسين و تخبرها أمي أنها نائمة و ذلك لاستفزازها لتبدأ الحجة بقولها :
الله …الله ..على الدنيا ، نسوان آخر زمان ، كيف لها أن تنام بعد شروق الشمس من عندها أولاد و زوج و أرض و منيحة في اشارة إلى الأغنام و فدان للدلالة على دواب الحراثة ..
و تقف عن الحديث هنيهة و كأنها تستذكر الماضي البعيد و تقول :
في زماننا كانت المرأة تستيقظ قبل الفجر لتخبز على التنور و تطبخ على التفية و تضع للدواب الإفطار بعد أن تنظف تحتها و تعود لتوقظ زوجها و أولادها و تضع له الزوادة و تخرج له الدواب و عدة الحراثة لتسفره قبل شروق الشمس أما اليوم فيا ويح اليوم و تضرب بقبضتها على صدرها ثلاث ضربات متتالية في اشارة إلى ضجرها من نساء هذا الزمان ..
انظر إليها الآن و هي تفرغ الشنينة في الطناجر و الطاسات مستخدمة اصبعها في تحسس الكمية و أتذكر كيف يتجمع عندها عدد من أهل الحارة بعد غن تنهي جولتها اليومية في الاطمئنان عن الجميع و كيف كانت تزود النساء بوصايا الصبر و تستاء من بكاء الأطفال و تزجر الأمهات ، اذكر أنها تقدم لهم طبق الكبة النية التي كانت تتقنها أكثر من النساء المُفتِحات على قولة أمي و كيف تضع جانبه جرن الفليفلة المدقوقة و المزينة بزيت الزيتون و حبات الرمان في مشهد اختزن في الذاكرة و لم تستطع عشرات السنين من محوه.
تسكب الحجة اللبن في جرة الفخار و تضيف له الماء و تبدا حركتها الاهتزازية في عملية خض اللبن عبر حركة رتيبة و لكنها تسرع من ترددها بعد انحسار الظل عن المصطبة و أرى حبات العرق تتلألأ على جبهة الحجة و هي تنادي على أمي لإحضار الفوارغ في اشارة إلى وصولها خط النهاية و لتقتطع لي (لهمودة ) من الزبدة و تضعها لي على رغيف تنور و أغادر و أنا فرح بصيدي الثمين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى