مقالات

الخروج من قصور آيات الله 12

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب


الفجر للصلاة والدعاء وذكر الله فقط كما قال الله تعالى في محكم كتابه “وقرآن الفجر إن قران الفجر كان مشهودا”، وليس بوقت فطور كي نستضيف زوارنا على مائدته، ولم يكن وقت غداء أو عشاء كي ندعوهم إلى المائدة، وربما لا تتكرر مثل هذه المشاهد إلا في حالتين إما وفاة وأما مناسبة استثنائية مثل عودة ميت إلى الحياة كما حصل معي، ومع ذلك من هو الذي يمتلك فرصة الانتقال من عالم الفرح بعودة ميت إلى الحياة إلى حالة التفكير بموجبات إكرام الضيوف؟ بل ومن هو ضيف الآخر في مثل هذه الساعة ومن هو المضيف؟ ربما كان الجميع متساوين في الصفتين؟.
كان الظلام يتلاشى عن الأفق ببطء شديد، وبدأ الخيط الأبيض من الفجر يظهر من جهة الشرق، مع أن الغيوم الكثيفة تحجب خيوط الشمس التي كانت تريد أن تشق طريقها بصعوبة بالغة من بين الثغرات التي كانت تفصل الغيوم الركامية التي كانت تغطي سماء بغداد، والتي تغطيها غيومُ خطر داهم من نوع آخر قادم من الشرق والجنوب ومن الغرب البعيد، ولما كنت أنظر لنفسي على أنني واحد من هؤلاء الزوار، فقد فضلت التعامل مع الأمر بصمت وتركت لزوجتي تدّبر تفاصيله لوحدها، فقد عاشت من دون وجودي عشرين عاما ومن المؤكد أنها نجحت في ترتيب أمورها كما ينبغي، ولهذا فليس من الحكمة أو المرؤة أن أصادر قرارها من اللحظة الأولى لوصولي إلى المنزل، هذا باستثناء صلية الرصاص التي منعتها من إطلاقها، ليس في هذا شيء من الإنصاف أو الحكمة أو المروءة.
بعد أن استقرت زوجتي في البيت وتركت ضيوفنا لتنفيذ أمر آخر أكثر إلحاحا، بدأت اتصالاتها التلفونية في أول إدارة لقرص التلفون مع شقيقتي أم أحمد رحمها الله “زوجة السيد عجاج عبيد غلاب” رحمه الله، والتي قالت إنها لن تتصل بها خشية عليها من تأثيرات هذه المفاجأة، بعد ذلك اشتعلت الخطوط إذ بدأ جهاز التلفون برنين متصل لا يكاد يتوقف إلا ويبدأ في الرنين، وكانت تكرر كلمات مختصرة “نعم وصل، نعم هو هنا، نعم هو بخير، شكرا لكم” كانت هذه العبارات تتردد على لسانها من دون انقطاع، ثم تغلق الخط ليبدأ الرنين مجددا، لقد توزعت سهام بين الضيوف والتلفون، ولم تجازف بأن تقول لأحد تفضلوا احكوا معه، وكأن الأرض لا تسعها من الفرحة التي نزلت عليها من السماء بلا موعد، فأزالت كل ما فيها من حزن تراكم عبر سنين القحط، وكأنها تريد الاحتفاظ بسعادة عودة زوجها إلى دنياها بلا منازع.
بعد قليل من الوقت بدأ بعض أقربائي بالتقاطر إلى المنزل تباعا، كانت كبرى شقيقاتي أم أحمد رحمها الله أول الداخلين علي، كانت تعاني من مرض القلب، وسبق وأن أجريت لها عملية جراحية لزرع صمام للقلب عام 1966 من قبل الدكتور يوسف النعمان، ونتيجة الخوف عليها من رد فعلها فيما لو سمعت بخبر مذهل كخبر عودة شقيقها الأكبر من الأسر، أن تتعرض لسكتة قلبية، فقد كانت زوجتي قد عقدت العزم على عدم البدء بها للإعلان عن عودتي، ولكن سهام التي أخذت يدها على الاتصال بأم أحمد، قالت بأنها ومن دون تفكير لم تشعر ألا ويدها تدير قرص التلفون عليها لتكون أول العارفين بالخبر الكبير، لأنها أكبر شقيقات نزار ولأنها كانت تحمل له حباً لا يمكن الوصول إلى أعماقه، لتبلغها بالخبر، فلم يتأخر وصولها إلى حي العدل إلا ما يتطلبه الطريق من وقت لقطع المسافة بين العامرية وحي العدل، ثم بدأ الآخرون يتقاطرون، كان في مقدمتهم عمي الدكتور شامل السامرائي رحمه الله، وشقيقتي أم عمر وأم إحسان وأبنائهما وشقيقي إياد “أبو فاطمة” حتى اكتملت العائلة بوصول أشقائي من مدينة سامراء، وإذا كنت قد عانيت ربما لعدة دقائق من مشكلة التعرف على زوجتي في قاعة فرع أبي جعفر المنصور، فقد تضاعفت معاناتي مع إخوتي وأخواتي وأقاربي، كانت زوجتي المجهولة بالنسبة لي قبل عدة ساعات، قد انتقلت إلى دليل سياحي يُعرّفني بإخوتي وأخواتي الذين فعلت بهم السنون فعلها، كما قامت بهذه المهمة مع كل من يدخل البيت، في بيت اختلط فيه الصراخ مع الزغاريد، وكأن الفرح تداخل مع الحزن في لوحة تراجيدية لم يرسمها بعد أشهر فناني عصر النهضة
فرحة العودة تختنق بعَبرَة رحيل الوالدين
وجدت أن أصغر أشقائي إياد “أبو فاطمة” كان يقيم في بغداد في منطقة الأعظمية بعد أن تزوج من غزوة وهي صغرى بنات عمي شامل رحمه الله بعد تخرجه من الكلية العسكرية، وكنت قد تركته طالبا في السنة الأخيرة من الدراسة الثانوية في ثانوية سامراء، يومها قال لي “إن نجحتُ فأنا ذاهب إلى الكلية العسكرية، وإن رسبت في الامتحان الوزاري سألتحق بالخدمة العسكرية الإلزامية”، وجدته وقد تخرج من الكلية العسكرية ودخل صنف القوات الخاصة ووصل إلى رتبة رائد، ولم يشأ لأسباب خاصة، البقاء في الجيش فاضطر إلى أن يستقيل، ولكن استقالته لم تقبل إلا بشرط أن يتحول إلى جندي ويدفع البدل النقدي كي يترك العسكرية بكل ما فيها من مغريات الرتبة وآلامها، وصل مبكرا جدا يوم وصولي هو وزوجته غزوة “أم فاطمة”، ووجدت أن أربعاً من شقيقاتي يسكّن في بغداد، وكان ذلك مفاجأة لي، لأنهن كن مقيمات إما في سامراء أو خارج العراق، ولكن واحدة منهن وهي الصغرى “أسماء “أم ماجد” كانت في زيارة سامراء، ولهذا كانت الشقيقات الثلاث أول من وصل إلى المنزل من أهلي، فأصبح البيت مكانا اختلط فيه الفرح والصراخ والعويل مع صياح الأطفال، الذين كانوا يتفاعلون مع نثر الحلوى إذ يتسابقون لجمعها، بعض النسوة كن يزغردن بلا انقطاع، وبعضهن يذرفن دموع الفرح الممتزج بآهة الألم لأن الوالد والوالدة كانا قد رحلا قبل العودة بعدة سنوات، ولم يجرؤ أحد على إخباري بذلك انتظارا لمجيء أكبر أخوتي مأمون “أبو زيدون” الذي يصغرني بأكثر من عشر سنين ليفعل ذلك، امتلأت غرف المنزل عن آخرها، وجاء عمي الدكتور شامل السامرائي “أبو أندلس” رحمه الله، وقد كنت ظننته قد فارق الحياة، لأن أحد الضباط الأسرى ممن كان معي في المعسكر، وهو من مدينة سامراء وهو برتبة مقدم ركن واسمه ضرغام السامرائي، قد أخبرني بأن عمي قُتل في عيادته الكائنة في البياع من قبل العامل المصري الذي كان يتولى مهمات التمريض وترتيب دخول المرضى، ولكن فرحتي كانت غامرة لما رأيته لأول مرة هو وأم أندلس وبناته عروبة وليلى قد وصلوا بعد وقت قصير من شروق الشمس تعبيرا عن ابتهاجهم بعودتي، وكان لقاءً حارا مع الجميع، لا جدول أعمال محددا للحوار والحديث، وليس كل من يريد الحديث يستأذن من الآخرين، كان الكل يتحدثون في وقت واحد، ولهذا اختلطت الموضوعات مع بعضها ولم يستطع أحد أن يعرف كيف يبدأ وأين ينتهي، حينما كنت أتطلع بوجوه أخواتي برغبة بأن أهضم وجوههن التي تركت السنون عليها تأثيرات معلومة، كنت حريصا أن تبقى الصور في شاشة الذكريات، وجدت صعوبة بالغة في التعرف على أشقائي وشقيقاتي ناهيك عن أولادهم لذلك أكدت عليهم أن يذكروا أسماءهم في كل حديث معي، هل هناك محنة جديدة بانتظاري حتى الآن؟
ثم تقاطر عليّ أولاد عمي عبد الرحمن رحمه الله وأمّهم أمّ عوف الله يرحمها، وعماتي أمّ عدنان رحمها الله، وكم اعتصرني الألم عندما جاءتني مع أنها مصابة بجلطة دماغية شلت حركتها تماما، ولكنها بمجرد سماعها بعودتي أصرّت على زيارتي، عندما رأيتها بكيت بحرقة، لا أدري هل هو الألم لأنني رأيتها بهذه الحالة؟ أم لأنني لم أبادر لزيارتها وأوفر عليها مشقة المجيء؟ أم هي دموع لقاء بعد عشرين سنة؟ لم تتمكن من النزول من السيارة فسارعت إليها وقبلّتها بحرارة، كما جاء معها أولادها من دون استثناء، وجاءت عمتي أم عامر وزوجها العم العميد المتقاعد شاكر محمود السامرائي رحمهما الله وأولادهما أيضا، والعمة سجاح صغرى عماتي، فلم يبق في بغداد من أقاربي أحد لم يزرني.
مع كل داخل جديد كانت الزغاريد ترتفع لتزيل بعضا من وحشة الماضي، ولتؤكد أن الغائب عاد حقا إلى بيته بعد رحلة طويلة وموحشة بين قبور الأحياء، كانت النسوة ينثرن الحلوى فوق رأسي احتفاء بعودتي، وهذا تقليد عراقي أصيل وقديم يعبر عن معاني الفرح والاعتزاز بالإنسان المحتفى به، بعض قطع الحلوى كانت تسبب ألماً أثناء سقوطها على رأسي بقوة، ولكنه يشبه ألم الأرض حين يصطدم بها الغيث، هذا اليوم يجب أن يكون خاليا من أي تذمر أو شكوى فاليوم تسقط فيه كل التحفظات الشخصية.
لم يمر وقت طويل إلا وكانت أصوات السيارات القادمة من سامراء تملأ كراج المنزل ضجيجا، فقد وصل أخوتي “أبو زيدون وأبو مروان ومحمد وأبو سارة” وعائلاتهم من سامراء بعد أن وصلهم خبر عودتي ووصلت معهم شقيقتي إقبال “أم سرمد”، كما أن عددا من أقاربي وصلوا معهم في توقيت واحد أو متقارب كان في مقدمتهم لبيد صبحي السامرائي “أبو عبد الله”، ولم يشأ أي منهم التأخر حتى يتوقف المطر عن الهطول، توزعوا على سيارات عدة وتسابقوا مع بعضهم، مع ما في الأمر من مجازفة مؤكدة، كل واحد منهم كان يريد أن يصل قبل غيره ليعيش أجواء الفرح، في بيت لم يعرف الفرح الحقيقي منذ عشرين سنة، كنت حريصا على توزيع مشاعري بالتكافؤ بين الجميع، مع وصولهم تضاعفت متاعبي في التعرف على كل الوجوه، أعرف أنهم جميعا عانوا في غيابي، ولكنني وقد وجدت زوجتي على قيد الحياة وقد حافظت على عهد الزوجية وصانت نفسها لعشرين عاما بأيامها ولياليها، مع أننا لم نرزق بأولاد، وعاشت فترات طويلة لوحدها في منزلنا في حي العدل، وتحملت من وحشة الطريق فوق ما تحمل النساء من آلام الوحدة وبعضٍ من ضيق المعيشة التي قد تصادفها كل زوجة يغيب عنها زوجها، وخاصة في زمن الحصار، ويكون عليها تحمل كل ما يواجهها من مسؤوليات بصورة منفردة، فقد كان من الطبيعي أن تنال مني رعاية خاصة وتقدير وأمحصّها مشاعر الامتنان العلني وربما كنت اتعمد إظهار ذلك أمام الجميع.
سألت أخوتي وأخواتي بإلحاح ويأس، أين أبي وأمي لقد اشتقت إليهما كثيرا؟ لماذا تأخرا عن المجيء إلي؟ صحيح أنا من يجب أن أذهب إليهما فور وصولي، ولكنني كنت خائفا من أية صدمة تمر عليّ، كان هذا هو الأمر الأكثر أهمية عندي، قال لي أخي مأمون إنهما في سامراء، قلت له تكلم بصدق وصراحة ولا تخفي عني شيئا، هل تراني ساذجاً إلى هذه الدرجة؟ صحيح أنني عشت عطالة فكرية طويلة في معسكرات الأسر، ولكن ليس إلى الحد الذي تمر عليّ كذبة بيضاء بهذا الحجم، نعم إنهما في سامراء، ولكن هل بهما شيء يمنعهما من المجيء؟ وإلا هل أصدق أن أمي وأبي يعرفان بعودتي ويتأخران عن المجيء لرؤيتي بعد غياب عشرين سنة ولو على حمالات؟ محال أن يحصل مثل هذا ولو جاءا حبوا على الرمال كما يقول المثل، هنا استذكرت أن حادثاً وقع لي عندما اصطدمت عام 1981 بباب زجاجي فحطمته وأصبت بجروح طفيفة في وجهي، بعد ساعات من معرفتهما بما حصل وجدتهما وقد دخلا علي وأنا جالس في غرفة الضيوف، وعندما رأى أبي رحمه الله سمك الزجاج الذي حطمته برأسي قال مازحا رغم كراهيته للمزاح، “والله يا نزار كنت أعرف أن رأسك قوي، ولكنني لم أكن اتصوره بهذه القوة بحيث يحطم زجاجا بهذا السمك”، ضحك الجميع حينها، وقال بعض الأصدقاء، إنه التمسك بالمواقف رغم احتمال التعرض للخطر، ولكنني وبصدق وعلى وفق ما كنا نراه من أحلام في زمن الأسر ويفسره لنا مفسرو المعسكر، لم أكن قد وضعت والديّ بين الراحلين ومع ذلك فقد أعترف أبو زيدون بأنهما رحلا قبل بضع سنوات وهما في حسرة لفراقك الذي طال كثيرا.
كنت أتصور بأنني لن أجد زوجتي على قيد الحياة، ففي أحد الأحلام التي رأيتها “وما أكثر أحلام الأسرى” وكأنها تُخطبُ لشخص آخر، فأكد لي أحد المفسرين المعتمدين من قبلنا في المعسكر، لأنه أسير معروف بتقواه وصدقه، وبعد أن أخذ مني المواثيق ألا أحزن، بأنها توفيت قطعاً، على العموم أخفق المفسرون الجدد عن هذا العلم القديم فليس بينهم من له علم سيدنا يوسف عليه السلام في تأويل الأحاديث، وجدتها في منزلنا في حي العدل هي وابنة شقيقتها هدى، والتي تبرعت بها أمها لزوجتي، فعاشت معها سنوات طويلة ولم تفقد الأمل بأنني سأعود ذات يوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى