مقالات

وداعاً “ماما ميركل” سيدة الإنسانية

نعيم مصطفى

مدير التحرير
عرض مقالات الكاتب


في عصر يسود فيه ظلام القهر والظلم والاضطهاد والعنصرية والطغيان وسفك الدماء، تخرج علينا بوارق الأمل ونجوم الخير والحب؛ ليبددوا بعض تلك الظلمات، وليعلنوا أن الشر وأهله مجافون للفطرة الإنسانية وأن وجودهم حالة عارضة لا بد من مناهضتها والعمل على التخلص منها.
لو نظرنا إلى المشهد السياسي العالمي لوجدنا أنه متخم بالتناقضات، بين من يعمل على تأجيج الحروب والصراعات والترويج لسفك الدماء، وبين من يدعو إلى نشر السلم والسلام والأمن والطمأنينة، وبالتأكيد فإن الفريق الأول مبتلى بأمراض نفسية لا حصر لها.. جنون العظمة، والذهان النفسي، والنرجسية، والغطرسة …
والفريق الثاني يمارس مفهوم الإنسانية الحقة بكل صفاتها وأشكالها وألوانها.
ولو أردنا ذكر بعض الأسماء لتجلت الفكرة أكثر.
ثمة من الزعماء من ينتشي فرحاً ويفاخر بما اقترفت يداه من آثام الإجرام، وبأنه قتل وشرد واعتقل الملايين، كبشار الأسد وبوتين وخامنئي.. ومن لف لفهم، وهم الكثرة – مع الأسف – لكن هناك بالمقابل من ينضح حباً وإنسانية وحضارة ومدنية كرئيس وزراء كندة جاستن ترودو، ورئيسة وزراء نيوزلندا جاسيندا أرديرن، والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.. التي سيدور المقال حول شخصيتها المتميزة والتي تستعد ألمانيا لتوديعها .
منذ أن وصلت السيدة ميركل إلى سدة الحكم عام 2005 شرعت برسم سياستها التي تدعو إلى بث روح الأمن والأمان ونشر السلام على جميع البسيطة، ولم تكن كبعض السياسيين المخادعين الماكرين الذين يقولون مالا يفعلون، وإنما حاولت ترجمة كل مادعت إليه إلى واقع محسوس وملموس، فكانت من أكبر الداعمين والمساهمين في إيقاف الحروب ومنعها وفي انتقاد الديكتاتوريات والطغاة.
ومن أهم المواقف والمآثر الخالدة التي سيكتبها التاريخ بحروف من ذهب في سجلها الناصع الأبيض هي وقوفها ودعمها وإيواؤها للسوريين الذين دفعت بهم آلة الحرب إلى ضفتها.
فقد حدثني صديق، وهو دكتور ألماني من أصل سوري ينتمي إلى حزب السيدة أنغيلا، أنه قابلها وشرح لها أوضاع السوريين والظلم والاضطهاد الذي حلّ بساحتهم من قتل واغتصاب واعتقال…، فما كان منها إلا أن اغرورقت عيونها بالدموع، ومن ثم فتحت ذراعيها لهم، لتكون ألمانيا ميركل الحضن الدافئ للمعذبين بالأرض.
وصلت ميركل في عام 1990 إلى برلمان (بوندستاغ) ألمانيا التي كانت قد توحدت للتو كنائبة عن دائرة انتخابية في ألمانيا الشرقية سابقاً. وصارت بعد عشر سنوات زعيمة “الحزب الديمقراطي المسيحي” (سي د يو). وقد خدمت بين عامي 1990 و2000 في مناصب عدة، استهلتها بعضوية حكومة كول حيث عملت على التوالي كوزيرة لشؤون النساء والفتيات ثم وزيرة للبيئة. وانتُخبت في أعقاب هزيمة كول الانتخابية عام 1998، أميناً عاماً للحزب ورئيسة له (زعيمة الحزب). وتولت عام 2002 زعامة التحالف البرلماني المعارض لحزب “سي د يو” وشقيقه حزب الـ”سي أس يو” ( الحزب الاشتراكي المسيحي)، وتلك كانت نقطة التحول التي شهدت اختيارها منذئذ مرشحة لجناح يمين – الوسط لمنصب المستشار في الانتخابات التي كانت ستجرى في عام 2005.

وتدل مراجعة الماضي على أن صعودها المطرّد لتتربع على قمة السياسة الألمانية قد تمّ بطريقة منهجية، فقد سهلت جهود ميركل تقدمها بشكل أقل مما فعله آخرون ممن مهدوا لها الطريق إلى الأعلى بأخطائهم وكانوا سيعرقلون صعودها لو استطاعوا.

بيد أنها تمتعت أيضاً بحسنات وميزات حاسمة، في طليعتها أن شخصية نافذة كانت تشملها برعايتها، إذ اكتشفها في وقت مبكر هيلموت كول الذي كان حينذاك المستشار. فقد اختارها لتسلم منصب وزراي في غضون عام واحد من دخولها البرلمان واعتاد أن يدعوها بـ”فتاتي”، مع أن علاقتهما كانت طبيعية كما يبدو ولم تشتمل على علاقة حميمة أو غيرها من الأشياء غير المناسبة. لكن ربما لاحظ كول أيضاً أن ميركل لم تكن موهوبة سياسياً فحسب، بل كانت تتحلى أيضاً بشخصية مثالية لمنصب مستشار ألمانيا الموحدة في وقت كانت موجة الإثارة الناجمة عن التوحيد قد بدأت تخبو.

كانت ميركل “أوسي”، وهو الاسم غير المحبب الذي أطلقه أحياناً الألمان الغربيون على مواطنيهم من الشرق، بداعي الاستخفاف والهزء. وقد قضت حياتها في بلدة صغيرة هناك، عمل فيها والدها كاهناً للكنيسة اللوثرية البروتستانتية، هي “تيملين”، الواقعة إلى الشمال من برلين المقسمة في ذلك الوقت. كان لدى العائلة أقارب في الغرب زودوها أحياناً أشياء كانت تعتبر في تلك الأيام في ألمانيا الشرقية من الكماليات، مثل بنطال الجينز، كما قضت معهم عطلاتها من حين إلى آخر. وخلافاً لذلك، فقد اتبعت ميركل طريقاً تقليدياً. فهي تجنبت السياسة ومضت بعد تخرجها من جامعة لايبزيغ بشهادة في الفيزياء لتحصل على منصب بحثي في ما كان يسمى أكاديمية العلوم في جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي اتخذت من برلين مقراً لها.

ولم تخطُ ميركل خطواتها المترددة الأولى في عالم السياسة حتى بدأ نظام ألمانيا الشرقية يترنح قبيل سقوطه الوشيك. وعندئذ تحولت إلى عضو نشط في “التحالف الديمقراطي” الذي اندمج لاحقاً في “الحزب الديمقراطي المسيحي”. وفي عام 1990 ترشحت لاحتلال مقعد في البرلمان كنائبة عن ميكلينبرغ – فوربوميرن، وذلك في وقت كانت السياسة في الشرق لا تزال منفتحة على نحو فريد وكان حزبها الـ”سي د يو” رائجاً للغاية في أعقاب توحيد الألمانيتين. يُشار إلى أن المستشارة الألمانية لا تزال تمثل هذه الدائرة الانتخابية منذ ذلك الحين.

وكانت ميركل شخصية تدعو إلى الفضول في “الحزب الديمقراطي المسيحي” بوصفها بروتستانتية، وامرأة، ومطلقة علاوة على ذلك، إذ كانت قد انفصلت عن زوجها أولريخ ميركل بعد زواجهما المبكر الذي دام خمس سنوات. بيد أن مصدر ذلك الفضول كانت امرأة نفيسة، جسّدت مسيرتها السياسية حتى ذلك الوقت كل ما كانت ألمانيا الموحدة تطمح إليه.

ولاحظ البعض حتى في تلك المرحلة المبكرة أنها تتمتع بطموح طاغ وعزم لا يلين يخفيهما مظهرها الخارجي الخجول الذي ينمّ عن التواضع وإنكار الذات. لكن سواء كانت تلك الحماسة لديها في البداية، أو أنها طورتها في مرحلة لاحقة، فهي أثبتت أنها على مستوى المسؤولية التي كانت تُناط بها في كل ترقية حصلت عليها في ما بعد، ولم تكن لتستطيع المضي قدماً إلى الأمام في حزب ومؤسسة سياسية تهيمن عليهما العقلية الذكورية لو أنها لم تثبت تمتعها بكفاءة قياسية.

ثمة حادثان على وجه الخصوص يوضحان الطموح الذي كانت تتحلى به ميركل. يتمثل الأول في خطوتها الجريئة التي كانت قاسية وتاريخية فعلاً، للانشقاق عن كول، مع الاعتراف بأن عبء الفساد الناجم عن تورطه في مشاريع تمويل حزبية غير قانونية، كانت أكبر من قيمته للحزب بوصفه المستشار الذي قام بتوحيد الألمانيتين بعد انهيار جدار برلين.

واعتبر كول أن ما جاء في مقال نشرته ميركل لاحقاً في صحيفة “دي تسايت” الأسبوعية بعد عام على هزيمة ائتلاف حزبي “سي د يو” والـ”سي أس يو”، في انتخابات عام 1998 أمام الاشتراكيين الديمقراطيين، كان ذروة الخيانة وأشبه بطعنة نجلاء جاءته من سياسية تتلمذت على يديه. ومع أنه لم يكن مستشاراً أو زعيماً للحزب في ذلك الوقت، فهو كان لا يزال نائباً في البرلمان ورجل الدولة الأكبر في الحزب بلا منازع. مع ذلك، وجهت إليه ميركل في مقالها ذاك كلمات كانت كالرصاصات، جاء فيها: “يجب أن يتعلم الحزب أن يمشي الآن وأن يجرؤ على خوض معارك المستقبل ضد خصومه السياسيين من دون حصان الحرب القديم، كما كان يروق لكول أن يسمي نفسه غالباً… نحن الذين نتحمل حالياً مسؤولية قيادة الحزب، وليس هيلموت كول، سنقرر كيف نقارب المرحلة الجديدة”.

لم تكن ميركل تهدف من خلال هذه الكلمات إلى دعوة الحزب للتخلي عن كول فقط، بل إلى طرح نفسها بجسارة لتسلم زعامة الـ”سي د يو”، وهو المنصب الذي فازت به بعد عام واحد. كما أظهرت خطوتها تلك الإحساس الحاد بالتوقيت الصحيح الذي تميزت به في مسيرتها المهنية. وقطعت لاحقاً شوطاً طويلاً على طريق رأب الصدع مع ذلك الرجل العظيم حين عينته مستشاراً غير رسمي بعدما أُسند إليها منصب المستشار. وبحلول ذلك الوقت، كانت ميركل قد مضت بالحزب إلى “عصره الجديد”، وبات بوسعها أن تتخذ موقفاً شهماً كهذا حيال كول.

وكانت الفرصة قد سنحت بإلقاء نظرة خاطفة على مدى طموحها، المحاط بالكتمان ولكنه معبر بشكل جيد، وذلك بعدما صارت الأمين العام لحزب الـ”سي د يو”، وبات يُنظر إليها كزعيمة مستقبلية للحزب.

تتوافر الأدلة الكافية على حنكة ميركل السياسية وحماستها الرصينة، غير أنها لم تستطع اكتساب بعض المهارات السياسية بسهولة. لا بل كانت لا تزال عاجزة عن القيام بحملة انتخابية فعّالة حتى بعد ما يزيد على عشر سنوات في الصف الأول للسياسة الألمانية.
لكن ميركل برهنت بعد ذلك من جديد على أنها تملك ذلك المزيج من القدرة على البقاء في السلطة وعلى التركيز، الأمر الذي خدمها جيداً. فقد جاءت للمشاركة في الطاولة المستديرة التقليدية التي يبث التلفزيون وقائعها بثاً حياً ليلة الانتخابات ويتحلق حولها قادة الأحزاب، وهي تعكس على الهواء مباشرة بشكل مؤلم الجوانب الخاطئة والصحيحة. وكان على ميركل أن تستمع في تلك الجلسة إلى ما لا نهاية لشرودر وهو يتباهى بفوزه المزعوم. وتركته يتحدث ويطيل الحديث كما يشاء، قبل أن تعلن بهدوء إن حزبي “سي د يو” والـ”سي أس يو” كان يتقدمان على حزب شرودر، وكانت مصيبة في ذلك تماماً.

واستطاعت ميركل أن تعلن في غضون ثلاثة أسابيع تخللها الكثير من جولات المفاوضات، عن تشكيل “تحالف كبير” ضم حزبي “سي د يو” والـ”سي أس يو” إلى جانب الحزب الديمقراطي الاشتراكي، بقيادتها كأول مستشارة في تاريخ ألمانيا. أما شرودر منافسها، فترك السياسة نهائياً.

راج في ذلك الوقت الكثير من التكهنات بأن التحالف كان أكثر هشاشة من أن يستطيع الاستمرار. لكنه في الواقع، لم يبقَ حتى نهاية الولاية الكاملة فحسب، خلافاً لتحالف “الأحمر- الأخضر” الذي سبق وأقامه شرودر، بل فتح الباب أمام ميركل للفوز بعدد أكبر من النواب والاحتفاظ بمنصبها، إذ أعيد انتخابها لأربع سنوات أخرى.
وعلى الرغم من أنها لم تُرزق بأي طفل، وإن كان لدى زوجها سوير ابنان بالغان، فهي نالت لقب “الأم”، أم ألمانيا.
تصدرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل القائمة السنوية التي وضعتها مجلة فوربس الأميركية لأقوى النساء في العالم لعام 2019.
وتُعد فوربس كل عام، قائمة بأسماء النساء القياديات الأكثر تأثيراً في جميع أنحاء العالم، ضمن قطاعات تشمل السياسة والأعمال والترفيه.
تربعت ميركل على رأس القائمة للعام التاسع على التوالي، أشادت المجلة “بقدراتها الفولاذية، من وقوفها في وجه دونالد ترمب إلى السماح لأكثر من مليون لاجئ سوري بالدخول إلى ألمانيا”.
وداعا ميركل، ونرجو لك حياة جديدة مفعمة بالسعادة والحبور، وخالية من الهموم والشرور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى