مقالات

الخروج من قصور آيات الله9

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب



لم يزرني النوم مع أنني كنت في غاية النعاس إذ لم أنم منذ أكثر من 48 ساعة إلا لماماً، عندما كنتُ أمنح نفسي استراحة مسافر على طريق طويل، إذ أخذت في بعض مراحله إغفاءات قصيرة وقلقة أثناء رحلة السفر عكس الجغرافية، فمن طهران إلى مشهد في سفرة عبثية لمجرد أن يقول الإيرانيون إنهم ما زالوا يمسكون بتلابيبنا، ثم من مشهد إلى طهران مرة أخرى، ومنها إلى كرمنشاه في الغرب وآخر فصول مسرحية الألم الطويل إلى قصر شيرين ثم خسروي، ثم العبور من جهنم الدنيا إيران، إلى جنة الله في الأرض العراق، لم أتمكن من النوم لهفة لسرعة الوصول إلى بغداد، ويبدو أنني استعدت شيئا من ماضٍ يعشق السفر، فأردت أن أرى الطرق الفاصلة بين المدن الإيرانية، كنت مشدود الأعصاب إلى أبعد الحدود، ومشغولاً بأفكار أخرى تسافر بعيدا وتعود كطائر تائهٍ ومهاجر في غير أوان هجرته، بحثاً عن عشٍ يأوي إليه يريحه من عناء السفر وينفض عنه وعثاء الطريق، أو كغريب عن سربه يشعر بالغربة من كل شيء.
وأنا جالس على مقعدي في قاعة فرع أبي جعفر المنصور، ووسط تداخل صاخب بين الأفكار وتداعياتها، سمعت أحد عناصر الجيش الشعبي، ينادي بصوت خفيض وكأنه لا يريد جلب انتباه الأسرى الآخرين.. نزار السامرائي، ولمّا كانت القاعة مكتظة بالأسرى العائدين والذين يتحدثون بلا انقطاع في شؤونٍ وهمومٍ وشجونٍ وتطلعات وآمال عريضة، أو لتمضية الوقت، وبعضهم في قلبه شيء من قلقٍ مجهول، تعلو أصواتهم أحيانا وتخفت أحيانا أخرى، بسبب ذلك كله لم تلتقط أذني النداء من أول مرة وربما شعرت أن ذلك جزءٌ من الوهم الذي ما زال يتحكم بحواسي ويضغط عليها، وعندما كرر النداء للمرة الثانية وربما الثالثة أو الرابعة، ولكن بصوت أعلى سمعت أسمي وليس غيره، يصلني متعبا من طول السفر، ولم أنتبه لعدد المرات التي نودي فيها عليّ، التفت إلى الوراء بتثاقل رتيب وأعطاني الرجل إشارة بالذهاب إليه، تذمرتُ في داخلي وإنْ كنت لم أُفصح عنه، فليس هذا وقت جدل لا أراه مناسباً مع أحد، قلت مع نفسي، ماذا يريد هذا الرجل مني؟ ألم يكن حريّا به أن يأتي إليّ بنفسه بدلا من استدعائي؟ وهو يعرف معاناتي من تعبِ أسرٍ طويل وتعبِ سفرٍ شاق، وعُمْرٍ لا يسمح بمثل هذه الممارسة المتعالية؟ ومع ذلك أعطيته الحق بعد أن قدرت أنه لم يفكر بالأمر على هذا النحو لفرط تعبه الطويل من الواجبات شبه العسكرية المتلاحقة، المهم حملت نفسي ونهضت من الكرسي وتقدمت نحوه، قال هذه زوجتك حضرت لتستلمك، أُصبتُ بدوار داخلي ومع ذلك حاولت المحافظة على تماسكي أمامها نظرت إليها بتدقيق، ولكنني لم أعرفها وكيف أعرفها وقد تركتها عشرين سنة، ليس عيباً أن يَنسى رجلٌ زوجته لتقادم الزمن بعيدا عن بعضهما، ولكنه قد لا يرضى أن تنساه هي مهما تعرّض شكله لمتغيرات السنين هو يريد صورته منحوتة في قلبها وعقلها وليس في عينيها فقط، ولكنني فكرت بسرعة بحجم الألم الذي يُسبّبه عدمُ تعرّف الرجل على زوجته من حزن داخلي لها قد يصل إلى مستوى جُرحٍ لا يندمل.
وجدتها كئيبة شاحبة يقطر الحزن من عينيها، وقد ترك عليها الزمن الصعب والانتظار من دون أمل يرتجى، أخاديدَ وحفراً واضحةً ووقاراً وعُمراً مضافاً يفوق سنين العمر الحقيقية، بمجرد وصولي إليها قفزت برشاقةِ شابةٍ في العقد الثالث من عمرها على أحسن التقديرات، قفزت إلي واحتضنتني بقوة شوق عتيق وصبرٍ مقيم، وبدلا من أن تفعل ذلك بصمت ليبقَ المشهدُ محصورا بيننا نحن الثلاثة، أجهشت بنحيب صاخب كسمفونية حزن تراجيدية امتزج بفرح مجهول هبط عليها دفعة واحدة على حين غفلة، وقالت (ليش تركتني وحيدة للقهر عشرين سنة؟)، هكذا أفلتت مشاعرها الحبيسة دفعة واحدة ولم يكن ممكناً لها السيطرة على مشاعرها، فلفتت إليها انتباه كل من في القاعة من الأسرى أو الرفاق الحزبيين، لا أدري ماذا أفعل وأنا الذي عقدت المفاجأة لسانه وعطلت قدرته على النطق لأن آخر شيء فكرت هو أن نلتقي أنا وسهام هنا؟ أثناء اللقاء وخلال الدقائق اللاحقة، رحت بعيدا وأخذت أتساءل بصمت جديد مستجمعا آخر ما في الذاكرة من خزين قديم عن نبرات صوتها وما تبقى من معالم شكلها، أهذه حقا زوجتي؟ وهل يحق لي عناقها بهذا الشكل وخاصة ونحن أمام الملأ؟ لو أن الأمر اقتصر على هذا الجزء لأجبت بنعم، فلأن الناس ربما اعتقدوا أن كتلة السواد التي أمامي هي شقيقتي أو أية واحدة من أسرتي، ولكن القاعدة تقول “الضرورات تبيح المحظورات”، وليس هناك ضرورة من التأكد المتبادل من كل طرف أن الطرف الآخر هو المقصود بهذا الفيض من اللهفة، فغربة بهذه القسوة لا يمكن لأحد أن يرسم معالم طقوس خاتمتها.
لم أستطع فعل شيء إزاء ما كان يحصل خارج القدرة عن السيطرة، غير أنني أطلقت لعينيَ حريتهما في ذرف دموع فرحٍ أو دهشة بهذا اللقاء المفاجئ حد الصدمة السعيدة، كنت أمنع نفسي من إظهار مثل تلك الدموع لعشرين عاما خَلَتْ، كي لا يُفسر الأمرُ في غير موضعه، فرح لم أعشه منذ زمن طويل، كانت زوجتي تقبّلني من وجهي ويدي ورأسي، وهي مستمرة في صراخ كان يعلو وينخفض من دون وعي منها، حتى بدت وكأنها فقدت السيطرة على مشاعرها وأعصابها تماما، ودخلت مرحلة انعدام الوعي والوزن أمام من في القاعة، أخيرا قالت بلغة اليائس ومن لم يعد في جعبته مزيدا من التحمل وبلهجة عراقية استنكارية “شبيك نزار آني سهام شنو ما عرفتني لهسة؟” أي ما بك يا نزار أنا سهام ألم تعرفني ماذا جرى لك؟ لماذا لم تعرفني لحد الآن؟ تظاهرت بأنني استعدت بعضا من ذاكرتي القديمة، كي لا أتسبب لها بصدمة إضافية وهي التي تعيش تلك اللحظات احتفالا عالي الوتيرة، قلت لها نعم عرفتك فاهدئي رجاء، ربما كنت أريد منها أن تخفض صوتها في القاعة، أكثر من محاولتي إعطائها الطمأنينة بأنني أنا، وكي أُعيد إليها أمنها المفقود عشرين سنة، سألتها كيف صحة أمي وأبي؟، قالت الحمد لله الكل بخير، لم أشأ أن استرسل بأسئلتي واكتفيت باطمئنان على أبي وأمي، تبين لي أنه اطمئنان زائف، فقد رحلا يرحمها الله في وقتين مختلفين في عقد التسعينيات.
ترى هل كانت هذه التراجيديا الإغريقية ضرورية لتضاف إلى عذابات أفراد أسرتي، أمي وأبي وزوجتي وأخوتي وأخواتي وأقاربي، عندما تعمدّت إيران إخفاءنا عن اللجنة الدولية عن الصليب الأحمر طيلة مدة أسرنا الممتدة لعشرين سنة، ويبدو أن الصليب الأحمر استساغ هذه اللعبة، فلم يبذل جهدا حقيقيا لانتزاع موقف إنساني واحد من السلطات الإيرانية، إما لتخاذله المعيب، وإما لتواطؤ مدان مع الدولة الآسرة؟ ولكن ماذا لو أن إيران أكدت أن معاملتها مع الأسرى تتخطى تعامل الصليب الأحمر وحولت القليل القليل من شعاراتها المعلنة عن تعاملها الإسلامي المزعوم مع الأسرى العراقيين إلى واقع ميداني؟ أنا أجزم أنها لا يمكنها أن تفعل ذلك، لأنها إن فعلت فسوف تفقد قيّمها وتقاليدها التي ترسخت في الوجدان الإيراني عبر مسيرة طويلة من التعامل مع الأسرى، يقفز إلى الواجهة منها سابور ذي الأكتاف، وإن فعلت فسوف تخسر نفسها ولن تكون هي أبدا.
من يدري ماذا يدور في رؤوس أفراد أسرتي وخاصة أمي وأبي واخوتي وأقاربي وأصدقائي، عن سلامتي العقلية أو عما إذا فقدت ذاكرتي، التي كنت اعتبرها أهم هدية حباني الله بها وأعتز بها وكذلك ينظر إليها أولئك؟ أم ما زلت محتفظا بها، هذه مشاعر متبادلة بين الطرفين وقد لا يجرؤ كلاهما على الإفصاح عنها صراحة خشية من خدش مشاعر الآخر.
انتبه جميع من في القاعة إلى ما يحصل، حتى تدخل موظف المكتب الذي استدعاني وقال لها يا خالة لِمَ هذا الصراخ وأنت تسلمتِ زوجك وها أنت تمسكين به بيديك؟ هل هذا وقت الصراخ وهو أمامك؟ أم عليك أن تعبري عن مشاعر الفرح بطريقة أخرى؟ انتبهت لنفسها وكأنها ما فكرت بما حصل منها، بعد أن هدأت وبدأنا حديث اللقاء الأول بعد عشرين عاما من الفراق، جاء الموظف بورقة وطلب منها التوقيع عليها كناية عن استلامي رسميا، رأيت أن تدابير تسليمي لزوجتي كانت سريعة جدا فحمدت الله وشكرته على هذه المنة إذ لو لم تأت لكان عليّ انتظار تحرك حافلة تابعة للفرع لتوزيعنا على بيوتنا وربما لا يتم ذلك قبل صعود قرص الشمس إلى وسط السماء، وربما يسبب وقوع صدمة لأهلي لو هبطت إليهم من الجو بدون مظلة، أو لو أنني وجدت ما لا يسرني في بيتي.
ما الذي أدرى زوجتي بأنني قادم ضمن هذه الدفعة من الأسرى بالذات؟ لم أسمح لهذا السؤال أن يبقى حبيسا في صدري، على الرغم من أنني امتلك فسحة كبيرة من الوقت لطرحه لاحقا، لكنني تعجلت قبل أن تفلت الفرصة مني، وكأنني لم أتحرر بعد من مخاوفي القديمة عندما يأتي جندي إيراني من دون سبب ليضع قيدا صارما على التحدث مع من يجلس إلى جانبه، قالت على الرغم من أننا قطعنا الأمل بوجودك حيا، فإنني كلما سمعت بعودة أسرى، كنت أتجه إلى فرع أبو جعفر المنصور للحزب وأرابط وأنتظر، وهذا كان يحصل منذ عام 1990 من دون انقطاع، فكانت الآمال تتلاشى مع كل دفعة تصل ولست فيها، وتتقلص فسحة الأمل وكأن الحزن يبدأ من نقطة الصفر، وقبل أسبوع سمعت بأن دفعة جديدة ستصل بغداد فحضرت على أمل أن تكون فيها أو الحصول على أية معلومة عنك، وحينما وصلت الدفعة إلى بناية فرع أبو جعفر المنصور أبلغني هذا الشخص وأشارت إلى الموظف الذي يقف إلى جانبنا، بأن هذه الدفعة تشمل مجموعة من أسرى عام 1991 الذين غدرت بهم إيران على عهدنا بها دائما، وقال بأن الدفعة التي ستصل الأسبوع القادم (دفعتنا) هي من أسرى القادسية، ولهذا علقت آمالا عريضة عليها، ولهذا بقيت أجئ هنا وأعود إلى أن جاءت حافلتكم، وعندما طلب منا الموظف الذي اعتلى ظهر الحافلة، الهدوء بهدف قراءة الأسماء، أصبت باليأس لأن الأسماء كانت تتلاحق ولكن اسمك ظل غائبا، فأوشكت أن أفقد الأمل وأعود إلى المنزل لولا أن قفز من دنيا الغيب اسمك على لسان المنادي “نزار فاضل السامرائي” فغاب الوعي عني ولم أعرف ماذا أفعل هل أهلهل مع أنني لا أجيده أم أصرخ هل أبكي أم أضحك؟ تلاشت مداركي ولم أجد غير الجري نحو من أعطاني خبراً قبل أسبوع عن مجيء دفعة من أسرى الحرب، فجاء بي إلى القاعة وها أنا معك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى