مقالات

نرجسيَّة الأسد التي أحرقت البلد!

عبد الحافظ كلش

صحفي وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب

تقول الأسطورة اليونانية: “إنَّ صياداً اسمه نركسوس كان معجباً بنفسه أشدَّ العجب، ومفتتناً بصورته الجميلة المنعكسة على ماء البحيرة، وهكذا ظلَّ نركسوس المغرور يحدِّق بصورته مداوماً على ذلك؛ إلى أن غرقَ بماءِ البحيرة”.

ذاك ما قالته الأسطورة التي اتكأ عليها سيجموند فرويد في وضع نظريته التي تتحدث عن العقدة النرجسيَّة.

 وللأمانة، على غرار نركسوس، فإنَّ أغلب رؤساء الدول العربية قدَّموا خدمات جليلة لعلم النفس والتحليل النفسي؛ كونهم بيئة خصبة للأمراض النفسية التي يجد الباحث فيها ـ حتى الباحث غير المتخصص ـ أنواعاً مدهشة في السلوكيات اللامنطقية واللاأخلاقية في العصر الحديث، والمضحكة المبكية في الآن ذاته.

تبدأ أولى هذه السلوكيات بتضخم الذات المتسلِّطة ثمَّ التمدُّد أفقياً وعامودياً وصولاً إلى مرحلة النرجسيَّة التي تنتهي بصاحبها إلى عبادة ذاته وإجبار الشعب على ذلك.

ولأنَّ هذا الشعب ـ في نظر الذات المتسلِّطة عليه ـ ليس ناضجاً من الناحية الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية فلابدَّ له من (أبٍ/ قائدٍ/ رئيس/رمز) يتبنَّاه ويأخذ بيده نحو التطوير والتحديث، مبتعداً به عن رفاق السُّوء الذين ربَّما يطلبون منه أن يفتحَ عقلَه غيرَ المؤهَّل لذلك.

في المقابل، لابدَّ لهذا الشعب/الطفل أن يبدي خضوعه المطلق وامتثاله الأعمى لكلِّ ما يصدر عن الأب/ الرئيس من أقوال وأوامر.

بمعنى تراثي أدق: على الشعب أن يُطفئ سراجَ عقله ويتبع ويفنى ويتفانى مع الأب القائد، بثقةٍ إيمانية مطلقة بقدرات الرئيس الخارقة تجعله يصل إلى مراتب عالية وسامية في الولاء والمقاومة، وذلك وحده ما يفضي إلى الخلاص والنصر.

ولكن أيُّ خلاصٍ وأي نصر وأي سُخام!

ذلك الأب/ القائد لا يكتفي بكلِّ ذلك؛ لأنَّه بحاجة للوصول أيضاً، الوصول إلى أقصى درجات النشوة في التملّك والابتلاع ودائميَّة الحضور بين الجماهير الهاتفة باسمه الممجِّدة لحكمته، المستنبطة له أوصافاً مبتكرة في البطولة والزعامة والإلهام والجبروت والأحقية في كلِّ ما يفعل، فهو الرئيس ” الموَّان على شعبه” لأنَّه أبٌ لهذا الشعب اليتيم!

إنَّ تضخم الذات عند الأب القائد المُلهِم للشعب بحاجة دائمة إلى الارتواء، فالقائد بالرغم من اصطناع الحكمة في ابتسامته الهادئة الحزينة الحاملة همومَ الأمة يبقى في تعطُّشٍ صحراوي لعبارات المدح والتزلّف والإكسسوارات الإعلامية المبرِّرة لحماقاته، لكنَّ المشكلة في أنَّ هذا التضخم ـ عند الأب القائد ـ  يتناسب طرداً مع استكانة الشعب المُستلَب؛ ما يجعله دائمَ الفَجَع.

ولا يقف الأمر عند ذلك الحد؛ فهناك ما يسمَّى بالبكتريا النفسيَّة؛ لأنَّ الأب القائد الرئيس يعيش مع جلاوزته في دائرةٍ مغلقة لا تُفتَح فيها النوافذُ إلى بقية العالم، دائرةٍ تمنع وصول أوكسجين الحياة إلى الشعب المُدَاس المُستغنَى عنه إلى حين.

 ثمَّ يُصاب الأب القائد بعدها بالتوجُّس والخوف حتى من دائرته المقرَّبة المُعاينة والمدرِكة لنقاط ضعفه، خصوصاً مع الضغط الإعلامي الحر، المضاد، الفاضح لجرائم سيادة الرئيس والمؤرِّخ لخيانته، فيُتخَم مع مرور الزمن بصفاتٍ وسواسية أخرى مشكِّكة بكلِّ ما وبكلِّ مَن يحيط به، وسرعان ما تستبدُّ به الغيرة من كلِّ شخصٍ قد يشكل خطراً عليه في المستقبل، هذا إن كان هناك مستقبل.

 ولأنَّ النفاق علمٌ يُدرَّس ويُورَّث في جمهوريات الاستبداد ـ خاصة في سوريا الأسد ـ سرعان ما يلاحظ البعض توتر وغضب القائد من قلة الصور والتماثيل التي تشعره بالتموضع في كلِّ شبر وحيِّزٍ مكاني، دون أن يُفصِح الأب القائد عن ذلك، فتأتي الأوامر إلى الفنانين والرسامين والنحَّاتين ومصممي الفوتوشوب؛ برسم ونحت وطباعة المزيد من الصور الجميلة للقائد، وحبذا لو كانت كبيرة وضخمة جداً؛ لأنَّها تشير إلى صاحب القلب الكبير.

الصور المليونية الكثيرة المتبرعمة للقائد بما تحمله من رمزية، إضافة إلى أقوال وحكم القائد والشعارات البعثية المكتوبة على جدران المدارس والمشافي والمؤسسات الحكومية، تصبح مع مرور الزمن عنواناً للوطن، بل يصبح الوطنُ ذاتُه صورةً عن القائد/الأب نفسه، ولا ضيرَ من عملية التماهي هذه في نظر الأتباع المستفيدين المقلدين حركات الرئيس والحافظين أقواله؛ لأنَّ الوطن بالنسبة لهم هو القائد الرئيس، وبما أنَّ القائد يمثل الوطن فمن الواجب الوطني ـ في رأيهم ـ أن يُسحَق كلُّ من يخالف أوامر الرئيس/الوطن، وليس هناك أسهل من إطلاق الأوصاف السيئة على من يخالف أو يتمرَّد أو يحاول فتح النوافذ!

هكذا يكون الانزياح المرعب المُكرَّس والمُستأنَس به والمرضي عنه من قِبَل القائد المريض المستبِد، في مفهوم الوطن والانتماء إليه.

وهكذا يكون الضياع الوجودي للفرد داخل الوطن، والنزف المستمر للكفاءات والطاقات البشرية الهاربة من نرجسيَّة القائد.

وهكذا يكون الاغتراب.. 

ختاماً، ثمَّة طرفةٌ شعبية قديمة منتشرة في منطقة الساحل السوري، في الريف تحديداً، وقد ذكرها الكاتب السوري ابن الساحل نفسه “بو علي ياسين” في كتابه (بيان الحد بين الهزل والجد) الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر، تتحدَّث هذه الطرفة عن: [ شخص جاهل اسمه “بوعلي العيروف” جاء إليه أناسٌ من الضيعة وشكوا له قائلين: يا “بوعلي العيروف” دخل رأس الفدان(الثور) في الخابية (وعاء كبير من الفخار) و”عِصِي” فيها، فكيف نُخرِج رأس الثور؟

قال لهم: بسيطة، اقطعوا رأس الثور.

فقطعوا رأس الثور لكنَّ الرأس بقي في الخابية، فذهبوا إليه وقالوا: يا “بوعلي العيروف”، رأس الثور مازال في الخابية!

أجابهم “بوعلي العيروف”: بسيطة، اكسروا الخابية.

فكسروا الخابية دون تردُّد.. وهكذا حُلَّت المشكلة بمشورة بوعلي العيروف، وانصرف أهل الضيعة يشكرون “بوعلي” ويشيدون بعبقريته وذكائه الألمعي وقيادته الحكيمة! ].

ونحن الآن، بعد عشر سنوات من الدمار والاعتقال والتهجير وحرق البلد، يحقُّ لنا أن نندهش ونقول: يا لَلعجب، ما أشبه تصرُّف بيت الأسد ومخلوف بما فعله “بوعلي العيروف”!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى