مقالات

في حرب المصطلحات

زهير سالم

مدير مركز الشرق العربي
عرض مقالات الكاتب


“الإسلاميون” في تعريف الإمام أبي الحسن الأشعري..
لاشك أن الأقوياء في الدورات الحضارية، هم الذين يصنعون المصطلحات، ويفرضونها حتى تصير جزء مسلّما به في واقع قهري سياسي وفكري وثقافي.
وكما اشتكى بعض الرهبان يوما أن أبناء المسيحية باتوا يتظارفون بالنطق بالألفاظ والمصطلحات العربية والإسلامية، فقد دارت الدورة علينا في هذه المرحلة من دورة الحضارة الإنسانية. فصرنا نشكو مما كانوا منه يشكون.
فالغربي اليوم -أوربي وأمريكي- هو الذي يصنع المصطلحات ويفسرها على مستويات الواقع والعلوم والفنون كافة، وينقل عنه أو يتماهى معه الأكثرون. وهو الذي يختار لأصدقائه وأعدائه الأسماء والأوصاف، ويلبسهم ما شاء من الثياب، ويستعين بكل أدواته المعرفية والتقنية لجعل ما يريد حقيقة واقعة. وقد تنامت هذه القدرة وانتشرت هذه الظاهرة أكثر في عصر الانفجار المعرفي ، وانتشار طرائق التواصل بين البشر ، ووصول الكرة التي تم تلوينها وإلقاؤها في الفضاء إلى أقدام الذين لا يعلمون والذين يعلمون.
وما ينبيك شيء مثل مصطلحاتنا اليومية ” حداد افرنجي – نجار افرنجي – خبز افرنجي – حلويات افرنجية..”
وقد وقع الكثير من الأمم والشعوب ضحايا هذه اللعبة غير البريئة، والتي تعتمد على السيطرة والهيمنة والمكر والخداع. فماذا يفعل الإنسان – الأمة حين يسميه عدوه اسما، أو يلقي عليه وصفا، فيذيع ويشيع فيبقى الضحية حائرا ؛أينفي عن نفسه ما ألقي عليه، أو ينفي عنه تبعته وظله الذي أراده الظالمون ..
وهكذا أيضا يدخل الخلل في عالم الضحايا فترى الفئام منهم يختلفون كيف يستجيبون؟ أو كيف يقاومون؟ أو كيف يوضحون ..؟
يستبد المهيمن الحضاري في هذا العصر فيزين كثيرا من القيم والسلوكيات تحت عناوين براقة جميلة بحيث يحشر من خالفها في زواية العداء للعصر أو للحرية أو للفن أو للتقدم أو للجمال ..ويقطع عليهم الطريق بأوصاف مثل رجعيون متخلفون جموديون …
وكذا يختصر قواعد الحكم الرشيد على مستوى السياسة – مثلا – في مرتكزات ، وأساليب بحيث يحاصر من يريد أن يبين عوارها، بين محاولة تأنيسها، أو محاولة مواجهتها ؛فيدخلهم في معارك جانبية مع كثير من المغرَّرين والمغرِّرين..
ثم مصطلح الإرهاب مثلا ، وإعلان الحرب العالمية عليه، مع التفسير الرغائبي الذرائعي لتحديد مفهومه وتوضيح محدداته . ويخرج عليك رجل من بني قومك يستشهد بقوله تعالى “ترهبون به عدو الله وعدوكم ” وينسى أنه يواجه موجة عالية من التضليل أعتى من صوته الكليل. الأمم المتحدة، ومجلس الأمن ، وبعد عقود من الحرب على الإرهاب، التي قُتل تحت عنوانها مئات الآلاف من الأبرياء والمدنيين والنساء والأطفال، لم يتفقوا بعدُ على تعريف الإرهاب، ولو اتفقوا لن يغنوا من الحق شيئا ..ولو نطقوا بالحقيقة لقالوا إنما فصلنا التهمة على مقاس المسلمين لنقتلهم على أسمائهم وأسماء آبائهم وأجدادهم ، فوجا بعد فوج، وجيلا بعد جيل..
وفي إطار الحرب المكشوفة على الإسلام ، والتي أصبحت أكثر انكشافا في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين، وتعززت أكثر بعد الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي ؛ بدأت الساحة الثقافية والفكرية في عالمنا تموج بأفكار ومصطلحات يروجها أناس ” من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا” في تمييز المسلمين فصائل وفسائل تحت عناوين وأطياف منها ” الإسلاميون” ومنها ” الإسلامويون” ومنها ما يخص الإسلام نفسه فهذا “إسلام سياسي” وآخر “إسلام خلاسي”
وطبعا كل الذي يراد من هذه التسميات الفرز ، والتقليل، والانفراد بأهل الإسلام طيفا بعد طيف على طريقة الثور الأبيض والأسود والأحمر ..
إن الذي يقلق ويزعج حتى الآن أن أهل الإسلام أنفسهم قد تماهوا مع هذا المكر، وانساقوا وراءه، ورأو عناوينه صالحة للاندفاع وراء تناقضاتهم البينية وتغطيتها والانتصار لها،غرور لا يقل سذاجة عن غرور الذي ينشر جذع الشجرة التي ينتمي غصنه إليها..
وأعود بكم إلى ما وعدتكم في هذا العنوان، كيف كانت الأمة تصنع مصطلحاتها؟ وتضع عناوينها، يوم كانت تصنع المصطلحات وتضع العناوين؟ وهذا مصطلح ” الإسلاميون ” اليوم ينبي عن حقيقة، فهذا المصطلح كما أراده واضعوه ، هو مصطلح تقليلي أرادوا أن يشقوا صفا، ويقللوا من قيمة أتباع دين هم سدس سكان المعمورة ، فهم مسلمون وإسلاميون، وليطمئن من يعتبر نفسه مسلما إذ تدار الحرب على من عنونوه بالإسلامي . اطمئنوا الحرب ليست عليكم ، وإنما هي على مجرد تيار أو حملة فكر!! كل ذلك لتسهيل معاركهم، وكسب بعض عدوهم مؤقتا إلى صفوفهم. وتأملوا ماذا نفهم من عنوان ” الإسلاميون ” اليوم …
وأعود بكم إلى ما اقترحه ووضعه إمام أهل السنة الإمام الأشعري منذ القرن الثالث الهجري عن المصطلح نفسه في كتابه ” مقالات الإسلامين واختلاف المصلين” والذي يعتبر بحق موسوعة دينية فكرية ثقافية لكل الأفكار التي راجت تحت عباءة الإسلام حتى عصره ، فتتبع فيه كل ما اعتقده أصحاب الأفكار من عقائد وآراء …مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ليس كتابا في الملل والنحل فقط ، بل هو مدونة في تاريخ الأفكار التي راجت تحت مظلة الإسلام حتى عصر الإمام – 325 للهجرة
الإمام أبو الحسن الأشعري كان في كتابه جامعا محيطا مجمعيا، يحشر تحت مظلة واحدة كل من قال أنا مسلم ، وكل من صلى إلى القبلة ، ويقول لك هؤلاء هم الإسلاميون ، ومن عباءة الإسلام خرجوا، ولا علاقة لهذا الحكم بمصيرهم إلى جنة أو إلى نار …
فاسمعه يقول في مقدمة كتابه ” مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ” : اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة ، ضلل فيها بعضهم بعضا، وبرئ فيها بعضُهم من بعض، فصاروا فرقا متباينين، وأحزابا مشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم.
ثم مع قوله ” الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم ، تقرؤه يقول في الصفحة الخامسة ” اختلف المسلمون عشرة أصناف : الشيع والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية والضرارية والحسينية والبكرية والعامة وأصحاب الحديث والكلّابية” ثم يقسم الشيعة إلى ثلاثة أصناف ويبدأ بالغالية منهم ويقول هم على خمسة عشرة فرقة ..فيذكرها ويبين لك أن في الفرق الغالية منها من ادعى ألوهية وربوبية ونبوة …ولا يمنعه كل ذلك من اعتبارهم ” “إسلاميين” معتقدا أن هذا التصنيف لا يغني شيئا في أمر الفوز بالجنة والنجاة من النار ..ووو
لقد كان الإمام الأشعري رحمه الله وغيره من جيل علماء القرون الأولى يملكون، من رجاحة العقول، وبعد النظر، والتمييز بين المصالح والمفاسد ما يؤهلهم ليكونوا بالفعل قادة لأمة تصنع حضارة وتسوس العالم، وتقدم له نماذج ما يزال البشر يتطلعون إليها في القرن الحادي والعشرين..
لقد أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة الإسلام الربانية وتوجه بها إلى العالمين . وجاء العلماء الراسخون من بعده فأقاموا أسس الشريعة وأحكموا قواعدها وفصولها بما يلبي آفاق وتطلعات هذه الدعوة في آفاقها الربانية…
ويتعلق بها اليوم من إذا أردت أن تبهرهم تسألهم عن الكرة الأرضية وعن حبة البندق…هل تتسع إحداهما للأخرى ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى