بحوث ودراسات

الإبراهيميَّة: أحدث حيل نشْر الدّين العالمي الجديد 2من 7

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

1.4 استغلال مفهوم التَّعدُّديَّة الدّينيَّة في تطوير الدّين العالمي

يبدو أنَّ من بين وسائل الإقناع بإمكانيَّة تطوير عقيدة دينيَّة جامعة لكافَّة العقائد المنتشرة بين مختلف الأمم نشْر مفهوم التَّعدُّديَّة الدّينيَّة (Religious pluralism)، الَّذي يقوم على التَّسامح بين أتباع الدّيانات المختلفة، انطلاقًا من افتراض إنَّ كافَّة الدّيانات واحدة في الجوهر والمضمون، ومختلفة في الفروع. يعني ذلك أنَّ الخلاص في الآخرة متاح لكلّ معتنقي الدّيانات، طالما أنَّ الحقَّ ليس مقتصرًا على ديانة دون غيرها. وليس من المستبعَد أن تنطوي أكثر من ديانة على تعاليم صحيحة يمكن اتّباعها من باب تعزيز التَّفاهم الإنساني التَّماهي مع الآخرين. ولعلَّ أكثر ما يميّز مفهوم التَّعدُّديَّة الدّينية الاعتقاد بأنَّ نشأة ديانات مختلفة هو تعبير عن الحقيقة الأزليَّة الَّتي عرفها الإنسان منذ القِدم، وتوارثتها الأجيال، وأضافت إليها خبراتها، وفق ما تروّج له الفلسفة الدَّائمة (Perennial philosophy). أمَّا عن الدَّافع الأساسي وراء نشْر هذا المفهوم، فهو ادّعاء وجود تناغُم بين الدّيانات؛ ممَّا يمكن تطويره للخروج بعقيدة موحَّدة تنطوي على جوهر كافَّة تلك الدّيانات، وتهمل غير المتوافق من التَّعاليم (ويكيبيديا، 2021).

يُعتبر عالم اللاهوت والفيلسوف الدّيني البريطاني “جون هيك” (John Hick) من أكثر المدافعين عن التَّعدُّديَّة الدّينيَّة، إيمانًا منه بأنَّ المسيحيَّة لا تنفرد بالحقيقة المطلقة، وتحديًا منه لما يُقال عن أنَّ النَّجاة تتمثَّل في شخص المسيح وأنَّ الخلاص ينعم به المؤمنون به وحدهم. رأى “هيك” كذلك أنَّ تعاليم المسيحيَّة لم تعد صالحة لزمن ما بعد الحداثة الَّذي نعيش به اليوم، نافيًا اقتصار حقيقة الإيمان على شخص المسيح (سميد، 1998-1999). يخبر قانصو (2007) في كتابه عن نظريَّة التَّعدُّديَّة الدّينيَّة عند جون هيك أنَّ اللاهوتي البريطاني يرى أنَّ كافَّة الدّيانات تتمركز حول حقيقة إيمانيَّة واحدة، هي الحقّ الخفي عن الأبصار والمتجاوز لأي وصْف. والإيمان، وفق تعريف هيك، هو تجربة روحانيَّة خالصة، يقوم فيها العقل برحلة استكشافيَّة شاقَّة وطويلة، تتجاوز حدود الجسد البشري المحسوس، وتتطلَّب تحرُّرًا للعقل من المادّيات؛ لكي يصل في النّهاية إلى الحقائق العلويَّة الفائقة. بذلك، يمكن الوصول إلى الإله من خلال ما أعطاه للبشر من إشارات مرئيَّة، بعد تحويل تلك الإشارات إلى معرفة قلبيَّة خالصة.

من الملفت أنَّ هيك، خلال محاضرة ألقاها عام 2005م في كليَّة الفلسفة الإيرانيَّة بطهران، أشار إلى أنَّ القواسم المشترَكة بين الإسلام والمسيحيَّة، والَّتي من أهمّها أنَّ القرآن الكريم والكتاب المقدَّسة تنزَّلا بوحي إلهي، وأنَّ محتوى كلّ منهما تعبيرٌ عمَّا جاء في اللوح المحفوظ المذكور في القرآن الكريم [البروج: الآية 22]. من التَّناقضات في المسيحيَّة الَّتي تثير استهجان هيك ادّعاء إنَّ الوحي الإلهي تمثَّل في شخص المسيح، برغم أنَّ المسيح لم يُعرف إلَّا في العهد الجديد، مؤكّدًا عدم موثوقيَّة الأناجيل الأربعة، الَّتي تنسب إلى المسيح، ما لم يقله أو يفعله. أمَّا بالنّسبة إلى الإسلام، فبرغم عدم وجود خلاف حول موثوقيَّة النَّص القرآني، فهناك خلاف بشأن التَّفاسير. يختتم هيك محاضرته بالإشارة إلى مسألة من شأنها تحفيز دمْج عقائد الإسلام والمسيحيَّة، حيث يرى أنَّ “هناك صور للإسلام والمسيحيَّة مختلفة، ولكن غير متنافرة، ومن الممكن تعايشهما جنبًا إلى جنب في علاقة قوامها السَّلام والإثراء المتبادَل” (John Hick official website، 2021). ولم يجد عالم اللاهوت المسيحي حرجًا في الدَّعوة إلى تطوير عقائد الإسلام واليهوديَّة بما يسمح باندماج الدّيانتين مع المسيحيَّة، الَّتي اجتهد هو في تطويرها، برغم المعارضة الشَّديدة من الكنيسة الكاثوليكيَّة والأصوليين والإنجيليين غير الكاثوليك.

يجد “طيرشي” (2015) في مفهوم التَّعدُّديَّة الدّينيَّة ما يتَّفق مع مفاهيم فلسفيَّة متوارَثة تُعنى بتقبُّل الآخر، وإن اختلف عقائديًّا ودينيًّا، طالما يوجد اتّفاق حول “معبوديَّة الإله الأوحد”، وبرغم عدم الاتّفاق حول “طبيعة هذا المعبود”، الَّذي قد يكون أزليًا وأبديًّا وفائقًا في طبيعته؛ وقد يُصوَّر في ثالوث الأقانيم؛ وقد يدركه البعض “بالطَّبيعة أو بالكيانات البشريَّة أو الحيوانيَّة أو التّمثاليَّة” (صـ5). أمَّا عن أهمّ مزايا تطبيق هذا المفهوم، فهي التَّوصُّل إلى التَّسامح الكوني، من خلال تبادُل الخبرات الإيمانيَّة، ليس بين المؤمنين بالدّيانات السَّماويَّة وَحدهم، إنَّما بين المؤمنين بمعبود واحد ومعتنقي الدّيانات غير التَّوحيديَّة، على حدّ قول الباحث. لا يعتبر “طيرشي” أنَّ “جون هيك” يرجع إليه وحده الفضل في تطوير مفهوم التَّعدُّديَّة الدّينيَّة، إنَّما كان للحكماء ورجال الدّين الهنود دورٌ كبير في نشأة المفهوم من الأساس، وعلى رأس هؤلاء يأتي رام موهن راي، الَّذي أسَّس في القرن التَّاسع عشر للميلاد حركة براهما ساماج (المجتمع الإلهي)، وأشاع أنَّ الإيمان يقوم على وحدانيَّة الإله، كما أشارع أنَّ الدّيانات تتساوى في مضمونها. تطوَّرت هذه العقيدة على يد سري راماكريشنا، وهو متصوّف من البنغال اعتنق الإسلام ثمَّ المسيحيَّة واستقرَّ أخيرًا على الهندوسيَّة، واعتقد أنَّ للدّيانات غاية واحدة، وإن اختلفت في أدوات التَّعبير. عرف العالم الإسلامي التَّعدُّديَّة الدّينيَّة فقط بعد الاحتكاك المباشر بين أبنائه والحضارة الغربيَّة، من خلال البعثات التَّعليميَّة والهجرات إلى العالم الغربي، في أعقاب الحرب العالميَّة الثَّانية، أي منذ الخمسينات من القرن العشرين. ويلقي الباحث الضَّوء على حقيقة في غاية الأهميَّة، وهي أنَّ تطوُّر هذا المفهوم الشَّائك في العالم الإسلامي يُنسب جزئيًّا إلى عدد من “الصُّوفيَّة الباطنيين الغربيين”، ممَّن اعتنقوا الإسلام، علاوة على إسهامات عدد من المفكّرين الشّيعة، منهم عبد الكريم سروش وسيّد حسين نصر (صـ7).

يتَّضح ممَّا سبق وجود ارتباط وثيق بين مفهوم التَّعدُّديَّة الدّينيَّة وعقائد الصُّوفيَّة؛ وهذا دفَع “الأعرجي” و”العبيدي” (2019) إلى افتراض أنَّ التَّعدُّديَّة الدّينيَّة ووَحدة الأديان “تعبيران لمعنى واحد”. فالمفهومان يركّزان على المشترَك بين مختلف الدّيانات، دون اعتبار للاختلافات العقائديَّة الجذريَّة الَّتي قد توجد بين تلك الدّيانات (صـ204). يجد الباحثان أنَّ التَّعدُّديَّة الدّينيَّة من أحدث المفاهيم الَّتي طرأت على مجال البحث في الفلسفة الدّينيَّة، بفضل إسهامات “جون هيك”، الَّتي وجدت قبولًا لدى المفكّرين الإسلاميين، ومن بينهم الإيراني “عبد الكريم سروش”. ومع حداثة المفهوم، فهو في أصله تعبير جديد عن فكرة وَحدة الأديان، الَّتي طالما تناولها أقطاب الصُّوفيَّة، من المعنيين بالتَّأويل العرفاني، أو لِنَقُل الباطني، للدّين. ويجتهد الباحثان في إثبات أنَّ مفهومي التَّعدُّديَّة الدّينيَّة ووَحدة الأديان يشتركان في نفي اقتصار الحقّ على ديانة دون غيرها، والإيمان بأنَّ الخلاص ممكن مع اعتناق أيّ ديانة؛ وفي ذلك ما يتوافق مع عقيدة وَحدة الوجود الصُّوفيَّة، ويتقارب مع عقيدة المرجئة الَّتي ترى أنَّ الإيمان شرطه الأوحد هو الإقرار بوحدانيَّة الله، بغضّ النَّظر عن التَّعاليم. وتجدر الإشارة إلى أنَّ المستشرق البريطاني “رينولد نيكلسون” قد أورد في كتابه (1969) أنَّ ممَّا يرتبط بعقيدة وَحدة الوجود اعتقاد الصُّوفيَّة في “صحَّة كلّ العقائد الدّينيَّة أيًّا كانت”، مستندين في ذلك، كما يوضح “نيكلسون”، إلى قول “محيي الدّين بن عربي”، أحد أكبر غلاة الصُّوفيَّة المتَّهم بالزَّندقة، عن الحقّ أنَّه “لا تحصره عقيدة دون غيرها” (صـ88).

وكما تقوم وَحدة الأديان عند الصُّوفيَّة على الإيمان بمعبود واحد، هو أصل الحكمة ومنبع الشَّرائع والتَّعاليم، تؤمن التَّعدُّديَّة الدّينيَّة بجوهر واحد لكلّ الدّيانات وبوجود عقائد مشترَكة بين مختلف الدّيانات يمكن استغلالها في التَّوفيق بينها. وعلى أساس اشتراك كافَّة الدّيانات في الجوهر والمضمون، يجد معتنقو الصُّوفيَّة، المؤمنون بوَحدة الأديان، تبريرًا للتَّعدُّديَّة الدّينيَّة، الَّتي لا يعتبرونها خروجًا عن إطار وَحدة الأديان إلَّا من حيث الشَّكليَّات. من هذا المنطلَق، يُفترض أنَّ لكلّ ديانة جانبًا من الحقيقة، يمكن الوصول إلى الخلاص باتّباعه؛ وتقدّم التَّعدُّديَّة الدّينيَّة بذلك مبرّرًا فلسفيًّا لاختيار كلّ فرد لديانته، الَّتي تحتفظ بجوهر غيرها من الدّيانات. ويرى الأعرجي والعبيدي (2019) أنَّ “على فرْض أنَّ وَحدة الأديان تعود أساسًا إلى أنَّ للأديان جوهرًا واحدًا وحقيقة واحدة، يمكن أن يُقال باقترابها من معنى التَّعدُّديَّة الدّينيَّة الخلاصيَّة الَّتي تجعل التَّمحور والتَّمركز حول الحقيقة مدارًا لنيل الخلاص” (صـ216). وقد توصَّل “خوجه” (2011) من خلال تتبُّعه لأصل مفهوم وَحدة الأديان إلى أنَّ وجود ذلك المفهوم في “بنية الفكرة الصُّوفي”، استنادًا الافتراض أنَّ “المعبود واحد مهما اختلفت صوره”؛ ممَّا يعني “جواز التَّديُّن بكلّ دين وملَّة، ما دام أنَّ المعبود فيها واحد” (صـ88).

 وفي محاولة لإثبات أنَّ الإسلام لا يمانع التَّماهي مع الدّيانات الأخرى، ولو من قبيل تعزيز التَّسامح والتَّرابط الاجتماعي والتَّعايش السَّلمي، يرى “كيشانة” (2015) أنَّ نبيَّنا مُحمَّد (ﷺ) بوثيقة المدينة، الَّتي حُرّرت بعد هجرته من مكَّة إلى يثرب الَّتي سكنها اليهود من قبل هجرته بعقود طويلة، وضَع دستورًا “يراعي حقَّ المواطنة”، ويشجّع على “التَّواصل…بين أبناء الوطن الواحد، ويستبعد “منهج الإقصاء” (صـ15). حدَّدت الوثيقة، الصَّادرة عام 5 هجريًّا، الحقوق والواجبات وقواعد التَّعامل بين النَّاس، بغضّ النَّظر عن الانتماءات الدّينيَّة والقَبَليَّة، كما يدَّعي الباحث. أيَّدت الوثيقة حقَّ المواطَنة، واعترفت بحق غير المسلمين في ممارسة شعائرهم، كما أقرَّت بحقّ الجميع في الأمان في النَّفس والعِرض والمال. ويستدلُّ الباحث بقول الله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: الآية 118]، وكذلك بقوله عزَّ وجلَّ ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام: الآية 35]، على إقرار الإسلام بحريَّة الاعتقاد الدّيني. ومن القيم الإسلاميَّة الَّتي يجدها الباحث فيها تأسيسًا لمبدأ التَّعدُّديَّة الدّينيَّة في الإسلام إنصاف غير المسلمين، وضمان حقوقهم، والاشتراك معهم في حماية الوطن.

ويستنج “كيشانه” (2015) ممَّا سبق، أنَّ برغم نشأة مفهوم التَّعدُّديَّة الدّينيَّة في الهند وأوروبا، فهو “من النَّاحية التَّطبيقيَّة لا نعدمه في البيئة الإسلاميَّة” (صـ23). غير أنَّ الباحث فاته أنَّ وثيقة المدينة لم تقر إمكانيَّة الاستناد إلى شريعة اليهود في تصريف الأمور السّياسيَّة والاجتماعيَّة؛ كما لم تشجّع المسلمين على اعتناق عقيدة اليهود من باب حريَّة العقيدة؛ والأهمُّ أنَّها لم تمنع اليهود من الكيد للمسلمين ومعاونة أعدائهم من المشركين عليهم. ويشترط المفكّر الإسلامي الكبير “محمَّد عمارة” (2008) وجود مرجعيَّة واحدة ينتمي إليها الفرقاء لكي يُسلَّم بوجود تعدُّديَّة، ضاربًا المثل في ذلك بالفرق الدّينية المتنوّعة المحسوبة على الإسلام، مثل السُّنَّة والشّيعة والمعتزلة. ويعني ذلك أنَّ عمارة ينفي أن تكون المدينة المنوَّرة في عهد النُّبوَّة، في فترة وجود اليهود بين أهلها، نموذجًا للتَّعدُّديَّة الدّينيَّة، في الوقت الَّذي كانت فيه السّيادة للإسلام. ويشدّد “عمارة” (1997) على أنَّ التَّعدُّديَّة لا بدَّ وأن تفضي إلى التَّعايش السَّلمي بين المختلفين فكريًّا وعقائديًّا، على أساس التَّسامح وقَبول الآخر. وبرغم اختلافه مع “عمارة” بشأن التَّعدُّديَّة الدّينيَّة في وثيقة المدينة، يؤيّد “عبيدي” (2015) رأي “عمارة” حول ضرورة التَّعايش السَّلمي عند الاختلاف، مؤكّدًا على أنَّ التَّعدُّديَّة “لا تعني قَبول الظُّلم من الغير، أو المداهمة وتخلّي المرء عن معتقداته والتَّهاون بشأنها في سبيل إرضاء الآخرين” (صـ62).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى