مقالات

حين أصبحت أميًّا!

أحمد الهواس

رئيس التحرير

عرض مقالات الكاتب

فجأة وجدت نفسي أميًا لا أجيد القراءة والكتابة ، ليس هذا فحسب بل انقلبت عندي الأمور ، وكأني أعيش في عالم اللاوعي أو اللامعقول ! فبدلًا من أن أقوم بتدريس أولادي والمراجعة لهم ومتابعة دروسهم ، وجدتُ نفسي أحتاجهم في تعليمي بل أرهقهم كثيرًا بمساعدتي في محو أميّتي التي عرقلت ومازالت حياتي الجديدة التي ما اخترتها عن طيب خاطر ولم أكن أملك خيارًا في التخيّر !

أن تنقلب المفاهيم دون مقدمات فتلك مشكلة ، ولكن أن تساهم بها وأنت تعلم بذلك ، وتتقبلها وتخال أنّك تحقق نصرًا، فتلك تتعدى مفهوم المشكلة لتصل حدّ المصيبة! ليست فلسفة أو وهمًا ، ما أتحدث عنه، وليست حالة خاصة بي بل هي قاسم مشترك لجل المهاجرين أو المهجّرين دون إرادتهم أو بإرادتهم سيّان ، فالهجرة قاسية والخروج من الديار دون عودة أو أمل بالعودة أكثر قسوة ..

قبل سنوات وقع انقلاب في مصر ، ربما ألّا غرابة فيما حصل ، فثمة أنظمة تمت صناعتها على عين الغرب ، ولها مهام محددة فإن خرجت الشعوب عن السيطرة وهددت بسقوط ذلك البناء الذي بات يُعرف بالبناء الرسمي العربي ، فإن مهام أخرى ستتولاها “الدولة العميقة” وهي أكثر وضوحًا في مصر من خلال الأقلية التي تحكم وهي الأقلية العسكرية ، فلا مكان لديمقراطية في مصر ولا مكان لحكم إسلامي ، ولا مكان لمن يفكر بأن يجعل مصر خارج السيطرة !

انقلاب أدّى لإغلاق عدد من القنوات الفضائية ،ومنها التي كنت أعمل بها لنحو عشر سنوات ،أغلقت في يونيه 2014، فوجدت نفسي بلا عمل وبلا تعويضات تذكر والأهم بلا وطن ! وهذا دفعني للتواصل مع “مراسلون بلا حدود” وانتهى بي المطاف لاجئًا في ألمانيا منذ 25- آب أغسطس 2015..

تجربة اللجوء بكل ما فيه من مرارة فُرضت علينا ،وليس ثمة بلد عربي يمكن أن يفتح لك ذراعيه بعد أن تم توقيع عقوبات عليك، فأنت ناقل أمراض تؤذي المجتمعات المستكينة أو التي استكانت ، وكان لابد من تأديبك أيها السوري لتكون عبرة لتلك الشعوب ..

اللغة ، ما اللغة ؟ درست يومًا في دار العلوم جامعة القاهرة مادة علم اللغة العام ، وكانت من أحب المواد إلى قلبي ،ويعد العالم اللغوي السويسري الشهير دي سسيير واضع قواعده الحديثة ، حيث كنّا ندرس اللغة بذاتها ولذاتها ، وليس لغة بعينها ، بل كيف نتكلم ولماذا نتكلم ؟ وكانت الإجابة لكي يتكلم الإنسان لغة يحتاج لأن يعيش في مجتمع ناطق ..

هنا، الناس ينطقون ، ونحن منعزلون عنهم ، فلا اختلاط ولا حديث ، وبذلك بقي ما تعلمناه في مدارس تعليم اللغة ، نحاول أن نقلبه ذات اليمين وذات الشمال لكي نفهم أو نُفهم من نتواصل معه ..

كثيرًا ما سألتُ نفسي : لماذا لا تهتم بلادنا “النفطية” بلغتها العربية ، وتجعل من ضمن شروط العمل لديها تعلم العربية ؟ فنحن في بلاد النفط نضطر لأن نعوج ألسنتنا “بإنكليزية مكسّرة” لكي نكلم عامل محطة الوقود أو موظف الاستقبال في الفنادق، أمّا الشخصيات من أمثال مدربي الفرق الرياضية ومدراء المنشآت فنخصص لهم مترجمين لكي ينقلوا لنا عنهم !

 إن اهتمام الألمان بلغتهم نوع من تأكيد السيادة الوطنية، ولذلك يحرصون على دمجنا بالمجتمع ومفتاح ذلك اللغة وتعلم القوانين والأنظمة فضلاً عن معرفة التاريخ السياسي الحديث للدولة ، ولكي تنال الجنسية فلابد من مستوى لغوي ، واجتياز للفحص السياسي ، وعقد عمل دائم يغطي تكاليفك وضرائبك وسنوات إقامة وسجل خال من المشاكل!

العمل هنا مرتبط باللغة، فكلما تحصّلت على مستوى متقدم من اللغة انفتحت لك أبواب العمل ، وقد برع من هم في سن صغير في التعلم فيما تعرقلت جهود من زادت سنو أعمارهم أو تقدّمت بهم ، فضلاً عن أنّها تحتاج ذهنًا غير مشغول ، فكيف ونحن مشغولون حدّ الثمالة ؟ ولكي أهرب من ذل ” الجوب سنتر” ومن العمل المهني الصعب ،عملت خلال السنتين الماضيتين على تأمين نصف دخلي أو أكثر بقليل من خلال نشاطي الصحفي ، مستذكرًا ما قاله لي يومًا د. محمد عمارة رحمه الله قبل ستة عشر عامًا : إنّ دخلي كان ومازال من كتاباتي ولقاءاتي .

ولكنه تراجع حتى توقف نتيجة الظروف الاقتصادية التي تمرّ بها كثير من المواقع والصحف ، كما أن الموقع الذي أشرف برئاسة تحريره ليس مدعومًا من فئة أو جماعة أو حزب أو رجال أعمال أو بوقًا لنظام عربي ، وكبرت على نفسي ومازالت أن أتحدث بما نعانيه ،لاسيما أن ثمة مواقع وصحفًا كبيرة لا تدفع بل هناك من يمنع ما نكتب على الرغم من أننا لا نتقاضى عما نكتب ، فالمال ” الشللي” أصبح قاسمًا مشتركًا لمصائب وخفايا الكتابة الصحفية في زمن الانفلات القيمي ، ففتح الباب لأنصاف الكتّاب وغيّب كثيرين، وحاول إذلال آخرين ! وليس أصعب من أن يقف الكريم بباب اللئيم فيصده ، وما مضى من العمر أكثر مما بقي منه، ولعل ما بقي ساعات أو أيام أو شهور أو سنوات. فليس مهمًا أن تعرف متى الرحيل ، بل الأهم اليقين بذلك ، والاستعداد له ،فالموت أقرب إلينا من حبل الوريد وما بقي من العمر – رغم الانكسارات- لا يستحق أن نبعثره في الأمنيات، ولا أن نكسر أنفسنا في الرغبات …

تجربة الاغتراب القسري جعلتني أخاطب نفسي : الحياة محطّات تفضي بعضها لبعض ، خطأ في واحدة يؤدي لكوارث لا حلّ لها؛ فاحرص على اختيار المحطة الصحيحة ، واجتازها بنجاح أو دعها ولا تمرّ بها وأنت تمني النفس أنّ ما بعدها سيكون أفضل

فاختيار الصحبة محطة والعمل محطة وقبله العلم محطة والزوجة محطة وهكذا..

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. ماأدليت به إخي الدكتور أحمد، هو واقعنا نحن المهجرين في بلاد أوربا، أصبحنا صفر على الشمال، بسبب هذه اللغة اللعينة، العزله والشعور بالمذله، لم يقبلنا أحد للعمل بسبب هذه اللغة،والعمر الكبير، والجيوب سنتر يدق على ظهورنا لتأمين عمل…. كيف كنا، وكيف أصبحنا، نطلب من الله الفرج العاجل لنا ولأهلنا في سورية، سواء بأدوار الذل لتأمين لقمة العيش، أو المعتقلين في سجون الطاغية بشار وأعوانه.

  2. تحياتي لك أخي العزيز د.أحمد الهواس تبقى شامخاً مهما قست عليك الحياة فأمثالك أصحاب المبدأ وعزة النفس والكرامة هم الفائزون.

  3. كلمات موجعة صادرة من صميم قلب اكتوى بنار الغربة، في زمن عز فيه الأحرار الأباة، ولنا العزاء فيما قاله الشاعر:
    غرباء و لغير الله لا نحني الجباه
    غرباء و ارتضيناها شعارا للحياة

    ان تسال عنا فإنا لا نبالي بالطغاة
    نحن جند الله دوما دربنا درب الاباة

    نقلتَ بعض معاناة الغربة في وسط الأعاجم، فكيف نصف معاناة الغربة في وسط “المسلمين”؟؟ المنشغلين بتوافه الأمور عما هم فيه من ضعف وذل وتحكم الحكام الرويبضات في أمور العامة، و ارتكابهم للموبقات جهارا نهارا، يمكّنهم من ذلك أجهزة القمع والبطش التي زودهم بها حكام الغرب رافعو تمثال الحرية و شعارات حقوق الإنسان المزيفة….
    قلت لصاحبي حين أزف وقت خروجنا من السجن: ها نحن نخرج من السجن الصغير إلى السجن الكبير، فنسأله سبحانه العون والثبات في طاعته.
    فاستعن بالله أخي د أحمد (ومن يتق الله يجعل له مخرجا (

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى