مقالات

الخروج من قصور آيات الله 5

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب

أما الهدايا التي جلبناها معنا من إيران، والتي أخبرنا اللواء حسن الدوري أنه ليس من حق أحدٍ أن يأخذها منّا، فهي مصحف شريف وسجادة للصلاة، ومبلغ بالريال الإيراني ربما لا يصل إلى دولارين أو أقل من ذلك، ولكن هذه الملاحظة آلمتني شخصيًا إلى حدود بعيدة، كيف يمكن لعسكري أن يمدّ يده إلى ما في حوزة غيره وخاصة أسير بائس، لو كان في الأمر تفسير أمني فأنا أول من يقف معه، ولكن هذا القول الذي سمعته من اللواء يعكس حالة جديدة قد تكون تسللت إلى أهم مؤسسة في أي بلد لأنها الجدار الأخير في خط الصمود الوطني، أنا على يقين أنها لم تكن ظاهرة عامة بل هي حالة مقطوعة ضُبطت عند فرد واحد فقد عزة نفسه، لكن التعميم بالحديث كان لافتاً، واقع الحال، لم يكن اللواء حسن الدوري يريد من أحد من الجنود أن يتسبب بأي إزعاج لنا ولو بمصادرة أشياء لا قيمة لها أمام عودتنا لوطننا، وكان يريد بث الطمأنينة في نفوسنا.

أعود إلى حديث اللواء الدوري فيما يتعلق بالمبلغ الممنوح لكل أسير عائد، كان الأسرى العائدون بمعظمهم، خلاصة الموقف الوطني الذي أفشل كل محاولات الاختراق التي تعرضوا لها، ومن المؤكد أن كثيراً منهم لم يفكر في الحصول على مكافأة أو ثمنٍ لمواقفه المبدئية، ولكنهم عندما عرفوا مقدار المبالغ المخصصة لكل فئة منهم وهم يعرفون ماذا ترك الحصار الظالم على وطنهم، انتابتهم تساؤلات عن حجم هذا المبلغ الكبير المخصص لهم، نعم لم يزهدوا بما خصصه لهم وطنهم، ولكنهم ظنوا أنه مبلغ كبير جدا وقد يؤثر على بلدهم لا سيما وأن عدد الأسرى كبير، ومع ذلك انتقلوا إلى أسئلة أخرى عن أبواب إنفاقه، فلا أحد كان يعرف إلا القلة ممن كانت تصلهم أخبار العراق من دون انقطاع، أن سعر صرف الدولار الأمريكي كان يساوي ألفي دينار عراقي تقريباً، ربما تَخيّل بعض الأسرى أن هذا المبلغ سيمكّنه من قضاء كل احتياجاته ويحقق له أمنياته كاملة، فالمتزوج كان يظن أنه سيجدد بيته ويشتري سيارة حديثة، ويضمن لأولاده تعليما ممتازا في مدرسة يختارها لهم بعد دراسة متأنية، وغير المتزوج منّى نفسه بأن المبلغ سيوفر له كل مستلزمات بيت جديد وزوجة حسناء وسيارة حديثة، لم يكن أحدّنا يعرف حقيقة أوضاع العراق الاقتصادية وما سببه الحصار الجائر من اختناقات، إلا بعد عودته إلى بيته بعد أن لاحظ استهانة أفراد أسرته بما كان يحمل معه من مال كبير الحجم محدود القيمة، أما نحن المدنيون الذين تطوعنا للقتال إلى جانب قواتنا المسلحة، والقتال ليس من اختصاصنا أو من واجبنا الوظيفي والمهني وإنْ كان من واجبنا الوطني، فكانت تساؤلاتنا مختلفة تماماً، فإذا كان الجندي والضابط مكلفاً بحكم مهنته التي يتقاضى مرتبه من الدولة بسببها، عليه أن يخوض القتال فيُقتل أو يُجرح أو يؤسر، فإن المدني وحتى إذا كان بحكم انتمائه لوطنه مكلفاً بالدفاع عن حياض الوطن، فإن ذلك لا يتحقق إلا عندما يُدعى إلى الخدمة العسكرية ليلتحق بخدمة الاحتياط، أو بعد الدعوة إلى النفير العام، وليس القتال كمدني، أما إذا تطوع للقتال إلى جانب القوات المسلحة لبلده وهو محتفظ بصفته المدنية، فإن الرأي هو أن تكريمه ينبغي أن يكونَ أكبر من تكريم العسكريين المحترفين، بل هو تكريم مضاعف حتى ولو وقع في الأسر فالأمر لم يكن خيارا، ثم إن صيانة الخط الدفاعي هي من مسؤولية القادة العسكريين الكبار على مستوى قادة الفيالق والفرق والألوية وليس من مسؤولية المتطوعين المدنيين، بل ليس من مسؤولية الضباط الأعوان، نعم من واجب العسكريين أن يقاتلوا لأن هذه هي مهنتهم التي اختاروها وهم يعرفون ما تحمله لهم من وجاهة المنصب والرتبة، واحتمالات الوقوع في منطقة الخطر، أما المدنيون فليس من واجبهم القتال وبالصورة التي وقعت، أي تطوعهم للقتال في تشكيلات شبه نظامية إلا في حالة النفير العام، التي لم تكن قد أعلنت بعد في ذلك الوقت على الأقل، فيدفع هؤلاء إيمانُهم بعدالة قضية وطنهم في مواجهة العدوان الإيراني للتطوع في تشكيلات الجيش الشعبي وفي ألوية المهمات الخاصة، فقاتلوا وأبلوا بلاءً حسناً، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من تعوّق ومنهم من وقع في الأسر، وهؤلاء لم يُشعروا بقيمة ما قدموه لوطنهم لدى عودتهم إليه من أسرٍ مرير لاقوا فيه صنوف العذاب لاسيما وأن كثيرا منهم يحملون درجات حزبية أو يشغلون وظائف كبيرة، وبالتالي كان تعامل الإيرانيين معهم على هذا الأساس، وعلى هذا فإنهم يجب أن يتميزوا بطريقة الاحتفاء بهم، والمكافأة المالية ليست أكثر من تعبير لتكريم معنوي، وما لم يرحنا أن كل إجراء يتخلص من مسؤوليته المسؤولون والقاء تبعاته على الرئيس صدام حسين رحمه الله، وكأن الرئيس هو الذي فكر لوحده بهذه القضية ولم تأته من جهات أدنى درست ظروفها وملابساتها وحددت سقوف الإكرامية المالية.عندما غادرنا آخر معسكر إيراني للأسرى، جردنا الإيرانيون من ملابسنا السميكة التي تقينا برد الشتاء، على الرغم من أن الثلوج كانت تنهمر بغزارة لعدة أيام، وقالوا لنا إن الحافلات مكيفة حتى توصلنا إلى نقطة الحدود، ربما كان الأمر كذلك ولم نشعر بالبرد أيام السفر، وحتى عندما كنا ننزل لغرض تناول الطعام، فإن الجانب الإيراني اختار لنا مطاعم مكيفة، ولكننا عندما دخلنا العراق توقعنا أننا سنجهز بملابس جديدة وقماصل عسكرية تقينا لسعة البرد القاسي، ولكن شيئا من هذا لم يحصل.كنت قد علمت من أكثر من مسؤول كبير في الدولة العراقية، أن الرئيس صدام حسين رحمه الله، أمرّ بمتابعة قضية أربعة أسرى، هم اللواء الركن دخيل علي الهلالي والشهيد علي المشهداني عضو قيادة فرع في الحزب الذي اغتيل في بيته من قبل مليشيا موالية لإيران، والشاعر اللبناني عمر شبلي ونزار السامرائي “كاتب هذه السطور”، بعد أن وصلت معلومات مؤكدة للقيادة، عما كان يعانيه هؤلاء في الأسر من تعذيب وسوء معاملة وإهمال طبي يرمي إلى قتلهم دون رصاصة ووصول حالتهم إلى حد الخطر على حياتهم، فقد أُجريتْ اتصالاتٌ رسميةٌ عراقية معقدة ومطولة، مع أعلى المستويات من الجانب الإيراني لإطلاق سراحنا، ولكن الجانب الإيراني أصر على إطلاق سراح 169 أسيراً من ضباط استخبارات الحرس الثوري تم أسرهم أثناء صفحة الغدر والخيانة عام 1991، كانت إيران قد بعثت بهم لقيادة عمليات التخريب وحرق المؤسسات الحكومية وإثارة الشغب في الشارع العراقي فاعتبرهم العراق وثيقة ميدانية ناطقة على التدخل الإيراني الشرير بشؤونه الداخلية، على ذلك وافق العراق غير مختار على إطلاقهم لأنهم صاروا عنده سلعة من دون قيمة، بعد أن انحاز القريب والبعيد إلى جانب إيران، عند ذاك تم إطلاق دفعتنا.

كانت الأسئلة تتدافع داخل رؤوس الأسرى العائدين إلى بلدهم وهم في أقصى درجات الشوق إليه بعد طول غياب، هل سيتم احتجازنا لإعادة تأهيلنا سياسيا وفكريا ونفسيا، كما سمعنا أو كما جرت عليه العادة، في التعامل الرسمي أمنيا وسياسيا مع أسرى عاشوا مدة طويلة في بلد يحمل توجهاً فكرياً وسياسيا متصادما مع الخيارات العراقية؟ وكم ستستغرق مدة الحجز إن حصلت؟ وكيف سيتأكد الوطن من أن أبناءه قد أعيد تأهلُيهم وتخلصوا مما علق في عقولهم من أفكار بالية؟ وهل سيبّلغ أهلونا بوصولنا أم أنهم لن يطلعوا على ذلك إلا بعد انقضاء الزمن المقرر لإعادة التأهيل؟لكن الجواب لم يتأخر كثيرا إذ قال المسؤولون في المعسكر، إنكم ستعودون إلى بغداد الليلة وتذهبون إلى بيوتكم، كان كل أسير منّا يراقب كلماته بدقة كي لا تنزلق من فمه عبارة قد تذهب به إلى حافة حادة، ربما تكون سببا في إهانة يمكن أن توجه إليه من أناس لا مانع عندهم من استعراض بطولاتهم في قاعات مكيفة وأمام مسؤوليهم، ولم يعرفوا كيف كان الأسير يواجه أسوأ ما أفرزته البشرية من مخلوقاتها؟ يُواجِه ذلك بصدر مكشوف وصبرٍ نادر، مما كان يتعرض له من فنون التعذيب، ومختلف الضغوط فوق التي لا يمكن تحملها من أي كائن حي، لأنها فوق طاقة البشر.كما سمعنا عندما كنا في معسكرات الأسر في إيران كان التعامل في العراق الرسمي مع الأسرى العائدين هو مزيج من إهمال ورعاية مقننة، كي لا يذهب الأسير إلى أبعد مما هو مرسوم له، أو مما خططت له أجهزة الدولة الأمنية، التي بالغ بعضها كثيرا في تدابير الاحتراز، كما كنا نتصور أن الأسير سيوضع تحت دائرة الرصد السلوكي، ومراقبة كل ما ينطق به أو هكذا كان يشاع، أو أن الأجهزة كانت تجتهد في تقديم فروض الطاعة للسلطة كي تحصل على ما تتمناه من تلطيفات، كانت الأسئلة صامتة أو تتقافز من عيون الأسرى الذين لا يريد الشعور بالخذلان مفارقتهم، والتي تنظر بدهشة إلى كل الأرجاء من أجل تكوين تصور سليم عن توجهات الأجهزة الحكومية، إذ ذهب بعض الأسرى إلى تصور أن الجميع يخضعون لنظام رقابة صارم أمنياً، وحتى من جانب المنظمات الحزبية على كل أسير عائد، وعلى مدار ساعات اليوم، ولكن عندما عدتُ إلى بيتي وجدت أن الأمر على خلاف ذلك تماماً، بل تأكدت أن الأجهزة المتخصصة قصرّت في متابعة الوضع الفكري للأسرى، تماما كما أهملت كثيرا من شؤونهم المالية والاجتماعية، والأهم هو اهمال الجانب السلوكي لبعض الأسرى العائدين من الخونة “التوابين”، والذين تمت معرفة أدوارهم التخريبية في صفحة الغدر والخيانة التي حصلت عام 1991.

الكياسة تقتضي من كل أسير الظهور بمظهر الرزانة الزائدة عن حدودها المعقولة حد التمثيل في بعض الأحيان، حتى لو كان فيها من التطبع أكثر مما فيها من الطبع الأصيل، متى نغادر إلى بغداد؟ من المؤكد أننا بعد أن نركب الحافلات، فإن أسئلة أخرى ستطفو على السطح، أين سأذهب؟ ومن سأجد ممن أظنه ينتظرني؟ من رحل من الأهل ومن جاء؟ كانت الكياسة مطلوبة في سلوكنا، لأننا كنا نظن أننا متهمون بنظر السلطات والجهاز الحزبي والأجهزة الأمنية، والناس سيبالغون في توجيه نظرات الشك إلينا.أخيرا وبعد أمسية مملة وممطرة وباردة وطويلة جدا، نودي علينا لركوب حافلات أخرى، قيل لنا إنها تابعة لشركة الظلال للنقل أو للسياحة وهي حافلات تابعة لجهاز المخابرات على ما علمنا فيما بعد، وكانت مخصصة لنقل الزوار الإيرانيين للمراقد في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء.

٦٨٦٨٧ تعليقاتمشاركتانأعجبنيتعليقمشاركة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى