ثقافة وأدب

رحمو … الشهيد العائد !

فيصل عكلة

صحفي سوري
عرض مقالات الكاتب

ناديتُ الطلابَ المُتوَجّهينَ نحوَ المدرسةِ :

 (يا ولاد هذه الزَنّانةُ اللعينةُ من نصفِ ساعةٍ و هي تجولُ فوق المدارسِ، لو تُوقفونَ الدوامَ اليومْ ) ؟

الله هو الحامَي يا عمّ ! أجابَ الطلابُ.

تابعَ التلاميذُ طريقَهم إلى المدرسةِ، عبرَ أمواجٍ منهم تُغشي الأرضَ !

عدتُ إلى البيّتِ و أنا أسألُ نفسِي :

هربْنا من ريفِ حماةَ الشماليّ من الطيرانِ وها هو الآن يحومُ بالأجواءِ، ستركَ يا رب !

 طلبتُ من زوجتي أنْ تَمدّ لي الحصيرَ تحت شجرةِ التِينِ، استلقيتُ ورحتُ أسمع القبضةَ اللاسلكيةِ التي تُحذّر الناسَ من( السيخوي22 )في الأجواء(السيخوي) نفذ ، نفذ !

نعم ها هو صاروخٌ يتهادى الآن عبرَ مَظلّةٍ دائريةٍ من جهةِ الشرقِ، وأظنُّه قريبًا من المدارسِ ورَحمو ابني فيها !

صوتُ الانفجارِ ملأ المكانَ، وكتلةُ النّارِ والدخانِ صعدتْ نحو السماءِ،  النّاسُ من حولي علتْ أصواتُهم بالدعاءِ والتضرعِ إلى الله.

انطلقتُ بينَ آلافِ النّاسِ بحثًا عن ابني رغمَ التحذيراتِ بالابتعادِ عن منطقةِ التنفيذِ لأنّ الغرابَ قد عادَ إلى المكانِ.

النّاسُ يركضونَ على غيرِ هدًى وحوادثُ التصادمِ بين العابرينَ تمرُّ دون تعليقٍ، حتى سائقِي (الموتوراتِ) لحظةَ التصادمِ كلٌّ يرمي (موتورَه) و يتابعُ طريقَه دونَ أدنى عتابٍ.

عيونُ الأطفالِ تجوبُ وجوهَ المارّيِن بحثًا عن قريبٍ أوجارٍ وكلمةُ ( دخِيلك) يا عمّي تملأ الأجواءَ، و كلماتٌ تترددُ (شْفتْ أخوي ، شفتْ اختي ، شفت ابن عمي، هلق كان معي، تَصوّب، انقطعت ايدو، مات .) من بين الشفاهِ  المُرتجفةِ دون أن تَجدَ لها إجابةً.

يا رب !

  هذا الغرابُ يُنفّذُ الآن و هذا صاروخٌ جديدٌ بالجهةِ المقابلةِ، المدرسةُ أضحتْ الآن خاويةً على عروشِها إلا من بِرَكِ الدّمِ وأثارِ الدمارِ، ومئذنًة الجامعِ تدعو من فقدَ أحد أبنائِه للحضورَ إلى المسّجدِ، فهناكَ الكثيرُ من جثامينِ الطلّاب تنتظرُ ذويها!

هل أنتَ يا رحمو بينَها ؟

أنا في الطريقِ و الآن أقفُ على بابِ المسّجدِ!

ما يَقربُ من عشرين طفلًا مُسجى داخلَ المسّجدِ، بعضُهم مُغطّى بقميصٍ أو بطانيّةٍ وآخرون قُطعتْ أوصالُهم وتغيَرت معالمُهم، والدماءُ التي تَجري منهم تُشكّل القاسمَ المشترَكَ بينهم!

أنْ تبحثَ عنْ ابنكَ في سوقٍ أو ملعبٍ أو مدرسةٍ، قد تجد الهمّةَ والعزيمةَ على متابعةِ تلكَ المهمّةِ الشاقّةِ، و لكنْ أن تكشفَ عن وجوهٍ المَوتى علّكَ تحظى بجثمانهِ، هو أكبرُ من طاقةِ الإنسانِ، ذاك ما كنتُ أتخيّله وأنا أنظرُ إلى الجثامينِ المسجاةِ على حصيرِ الجامعِ!

الأوَّل و الثانِي لِبنتينِ في عمرِ الورودِ،  و ما زالتْ الحقيبةُ تتعلّقُ بالأكتافِ، والآن أكشفُ  الغطاءَ  عن وجههِ، يا إلهي ! هو وجهُ رحمو وإنْ غطّى الدمُ بعضَ وجههِ و غابتْ إحدى عينيهِ لكنْ باقي ملامحَه تؤكّدُ أنّه ابني، إضافةً إلى أنّ قميصَه الأسود و بنطالَ ( الجنزِ ) يدعمانِ ذلك !

الله !، الله !، يا رحمو، يا ابني، هربنَا من الموتِ و ها هو يلحقُ بنا، لا اعتراضَ على حكمكَ يا ربّ!

في البيّتِ تَحلَّقتْ أمّهُ و إخوتُه و عددٌ قليلٌ من الجيرانِ حولَ جثمانِ رحمو لوداعهِ قبل نقلهِ إلى بلدتِنا في ريفِ حماةَ لمواراتِه الثَرى، و لا بأسَ منْ أنْ ألتقطَ لهُ صورةَ الوداعِ!

ابنتِي الصغيرةُ صاحتْ من بينِ الدموعِ أنّ ( قشاطَ) بنطالِ رحمو لونُه أزرقٌ و هذا بُنّي و ليسَ عندهُ غيرُ الأزرقِ!

لم يلتفتْ أحدٌ لملاحظةِ الصغيرةِ في الوقتِ الذي أخبرونا أنّ بلدتَنا تتعرّضُ في هذه الأثناءِ للقصفِ، والأفضلُ دفنُه في مقبرةِ البلدةِ التي لاقى وجهَ ربّه فيها.

ورشةُ عملٍ بدتْ المقبرةُ لي في هذا اليومِ الرماديّ الحزين، البعضُ يحفرُ في الأرضِ بحثًا عن قبرٍ، وآخرونَ يمشونَ على غيرِ هدًى، وأعدادٌ غفيرةٌ من النسوةِ اللاتي ينتحبْنَ وأغلب من شاهدتُهم حفاة يمشونَ فوقَ الشَوكِ وآثارُ الدمِ باديةٌ على وجوههِم، ومنهم منْ يْنادي على بعضِ الجثامينِ المجهولةِ للتعرفِ عليها!

مؤلمٌ انْ تفقدَ في طَرفةِ عينٍ من كنتَ  تتحلّقُ معهم حول مائدةِ الإفطارِ قبلَ قليلٍ!

يتابعُ أبو رحمو :

لِأوّلِ مرةٍ أرى أمواتًا يُدفنونَ بثيابهم، بدمائهم، ببعضِ أشلائهم، حتى النّاس هنا يسعَونَ مُهرولينَ وعيونُهم تجوبُ التجمعاتِ بحثًا عن صاحبٍ أو قريبٍ.

بعدَ أن وجدتُ قبرا لابني جلستُ لأستريحَ قليلا سمعتُ حوارًا بين شابٍّ يحملُ( كاميرا )و يتنقّلُ لاهثًا بين القبورِ و بين رجلٍ خمسيني بداّ منهكًا و مُغبرّا وهو يحثُو الترابَ في القبرِ.

ناداه الشابُّ  : انتظر يا عمّ ريثما  نسجّلُ  أسماءَ من دفنتَ هنا؟

ابتسمَ الرجلُ _ نعم شاهدتُهُ بعيني يبتسمُ_ وقالَ :

ابني حسن وبنتي آية !

رحماك ربي!

بعدَ عودتِنا بقليلٍ من المقبرةِ وإذْ بابني (رحمو ) يدخلُ  البابَ سالمًا معافًى يحملُ حقيبةَ كتبهِ مُعلّلا غيابَه بأنّه اختبأ في أحدِ الأقبيةِ القريبةِ من المدرسةِ مع عددٍ من الطلابِ.

يا إلهي من هو الصبيُّ الذي دفناهُ قبل قليلٍ!

رحتُ أبحث عن أهالي المفقودينَ وأنا أحملُ الصورةَ التي التقطتُها للطفلِ الشهيدِ حتى عثرتُ عليهمْ.

صاحت الأمُّ الثَكلى :

إنّها صورةُ ابني، هو أحمد، أين هو الآن ؟

نعم أحمدُ و( رحمو ) تشابهٌ كبيرٌ في الشكلِ والحجمِ واللباسِ و لكننَا لم نلتفتْ لملاحظةِ الصغيرةِ!

أحمدُ ورفاقهُ الآن في ضيافتِك يا كريم!

(من مجزرة الأقلام في حاس ٢٠١٦)

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى