مقالات

شروط “المجتمع الدولي” لقبول طالبان في قفصه الاستعماري!

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

شروط ضباع الاستعمار

فور انهيار قوات النظام الهش في كابول وقبل اكتمال إنسحاب القوات الغازية تسارعت تصريحات المسؤولين في عواصم الاستعمار تحدد الشروط التي يجب على طالبان تنفيذها ليتم النظرفي قبولها في منظومة “المجتمع الدولي” ، ومن هذه التصريحات، على سبيل المثال لا الحصر:

  • –          ترأست المملكة المتحدة اجتماعا افتراضيا لمجموعة السبع بخصوص أفغانستان في 24 آب الماضي،  انضم إليه الأمينان العامان للأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي، صدر عنه  بيان مشترك  جاء فيه:”يجب على أي حكومة أفغانية في المستقبل أن تلتزم بواجبات أفغانستان الدولية والتزامها بالحماية من الإرهاب؛ والحفاظ على حقوق الإنسان لجميع الأفغان، وخاصةً النساء والأطفال وأبناء الأقليات العرقية والدينية؛ واحترام سيادة القانون؛ والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق ودون شروط؛ ومكافحة الاتجار بالبشر والمخدرات بشكل فعال. وندعو جميع الأطراف في أفغانستان إلى العمل بحسن نية لتشكيل حكومة تمثل كافة أطياف الشعب، ويشارك فيها النساء وأبناء الأقليات مشاركة حقيقية.” كما أكد البيان “على نحو خاص على أن طالبان ستتحمّل مسؤولية ما تقوم به في منعها للإرهاب، وبشأن حقوق الإنسان، ولا سيما حقوق النساء والفتيات والأقليات، والسعي لتحقيق تسوية سياسية شاملة في أفغانستان. إن شرعية أي حكومة في المستقبل تعتمد على النهج الذي تتبناه الآن للوفاء بالتزاماتها الدولية وتعهداتها بضمان استقرار أفغانستان”
  • هذه البنود المذكورة كررها وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي على هامش اجتماعهم في سلوفينيا في   3-9-2021، وقال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل،  إنه حتى تعمل طالبان مع الاتحاد الأوروبي يجب عليها ألا تدع أفغانستان تأوي الإرهابيين الذين يمكن أن يخططوا لشن هجمات على الدول الأخرى، كما كان الحال في الماضي. وأضاف أنه بدلا من ذلك يجب على الحركة أن تحترم حقوق الإنسان، خصوصا النساء، وأن تشكل حكومة شاملة، وتسمح بوصول المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى السماح للمواطنين الأجانب والفئات الضعيفة من الأفغان بمغادرة البلاد.
  • وفي الوقت نفسه، حذّر وزير خارجية المانيا هايكو ماس طالبان من عدم الالتزام بالشروط الأساسية التي صاغها الاتحاد الأوروبي بناء على مبادرة فرنسية-ألمانية عقب استيلاء الحركة على مقاليد الأمور في أفغانستان. وكان ماس في تصريح آخر حذر طالبان من أن المانيا لن تدفع سنتا واحدا،من المساعدات المالية، إذا قررت طالبان تطبيق الشريعة.
  • وكان وزير الخارجية الفرنسي لودريان أول من طرح هذه الشروط في تغريدة له عبر التويتر في 18-8-2021، وتم اعتمادها لاحقا في اجتماع مجموعة السبع  والاتحاد الأوروبي، و ختم لودريان تغريدته بالقول:”هذه هي الشروط للحصول على اعتراف دولي. بعدها سنرى، لكن في الوقت الحالي يجب عليهم أن يقوموا بهذه الاجراءات،فهي لم تتحقق حتى الآن” وإلا، حذر لودريان، طالبان من أنهم إذا لم يلبوا هذه المطالب “فسيكونون منبوذين من المجتمع الدولي، وسيتعين جعلها يعيشون وضع المنبوذين…هذا سيتطلب الأمر قدرا كبيرا من الحزم”(فرنسا 24). ووقوله “بعدها سنرى” يفتح الباب لمزيد من الشروط و الإذلال!
  • حتى روسيا والصين وايران والهند يرصدون بدقة مواقف طالبان في تفاصيلها  ويراهنون على أن طالبان تعلمت الدروس اللازمة من تجربتها السابقة في الحكم بين 1995-2001، مع استعدادهم لفتح صفحة جديدة للحيلولة دون تحول أفغانستان إلى بؤرة متفجرة تصيب شظاياها أمن المنطقة، ولكن مع الاستعداد لما هو أسوأ لحفظ أمنها الوطني فيما لو تدهورت الأمور إلى الأسوأ في أفغانستان.
  • أعلاه هو غيض من فيض التصريحات الغربية، وقد عبر ساسة أمريكان عن مواقف شبيهة لا داعي للإطالة بذكرها.

معضلة طالبان

فطالبان أمام واقع صعب: البلاد ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية كبرى، خاصة بعد تجميد الأصول المالية في الخارج، و لازالت القلاقل الأمنية في وادي بانشير تنذر بتكرار سابقة حكمهم الماضي حين استعصى أحمد شاه مسعود، والد أحمد مسعود الحالي، في وادي بانشير رافعاً راية تحالف الشمال الذي سبب صداعاً لطالبان حتى العدوان الأمريكي في 2001. فضلا عن وجود خلايا لما يسمى تنظيم الدولة الاسلامية-خراسان والذي ينذر بتفجير موجة من أعمال العنف و الارهاب لا يوفر المدنيين ولا الشيعة…ما يدفع الأقلية الشيعية للاستعداد للأمن الذاتي، أو يتذرعون بذلك على الأقل، بدعم سخي من إيران….بالإضافة إلى مهام رعاية شعب من 40 مليونا تتطلب استنفار الطاقات كلها لبناء المجتمع والدولة في ورشة عمل كبرى لا تهدأ مدار الليل والنهار…

تدور هذه الأعباء التي تحيط بفريق طالبان في الحكم وسط طمع الأطراف الخارجية:سواء في دول الجوار:روسيا التي تدعم طاجيكستان واوزبكستان وتركمنستان وتخشى انتشار شظايا الأعمال الجهادية لتضرب استقرار الأمن، و الصين التي تخشى من استعمال حركة تركستان الشرقية مطيةً لضرب الاستقرار الأمني في تركستان الشرقية،موطن الأويغور المضطهدين، ثم هناك باكستان التي تخشى من دخول طابور، أو طوابير، خامسة من المخابرات الأجنبية لتجنّد “خلايا منفردة” تقوم بشن أعمال ارهابية في العمق الباكستاني، تحت ذارئع شتى، منها الدعوة إلى استقلال بلوشستان، والدعوة إلى وحدة القومية الباشتونية عبر جانبي خط  الحدود دوراند الذي رسمه الاستعمار البريطاني بين باكستان وأفغانستان. وطبعا بوجود التهديد الدائم من أمريكا أن على طالبان أن تفي بالتزاماتها التي تضمنتها إتفاقية الدوحة بعدم إيواء أي عنصر أو منظمة “قد” تهدد الأمن القومي الأمريكي، مع تحكم أمريكا بتعريف و تحديد من هو هذا الفرد أو المنظمة فقد يكون معلما للقرآن الكريم تلصق به تهمة خراسان، أو قد يكون مزارعاً صلّى خلف شخص زعمت المخابرات الأمريكية أنه من تنظيم خراسان وهكذا!! هذا دون أن نذكر تحكم أمريكا بالتجارة الدولية عبر تحكمها بمعاملات الدولار.

ونذكر، في هذا السياق، الاجتماع العاصف الذي دار في أنكوراج-الاسكا في شهر آذار الماضي بين الوفد الامريكي الذي ضم وزيري الخارجية بلينكن و مستشار الأمن القومي جيك سوليفان وبين الوفد الصيني الذي ضم وزيري الخارجية وانغ و  عضو البوليتبارو  جيشي ..في بداية اللقاء أعطيت الفرصة للإعلاميين لإلتقاط الصور المعهودة للقاء الوفدين وفي بداية “الدردشة” قال بلينكن إن تصرفات الصين في قضايا هونغ كونغ و سينكيانغ(تركستان الشرقية) وتايوان تهدد النظام الدولي القائم على قواعد السلوك الدولية  Rules-Based-International Order، وفيما كان من المفترض أن يخرج رجال الإعلام بعد دقائق الافتتاحية لتبدأ النقاشات بين الطرفين، فوجيء بلينكن برد صاعق من الوزير الصيني وانغ  الذي أوقف رجال الإعلام  من الخروج من القاعة، طالباً منهم، بالانجليزية، البقاء ليسمعوا رده على بلينكن وينقلوه، معترضاً ورافضاً ما أطلق عليه بلينكن منظومة Rules-Based-International-Order ، قائلاً له:من أنت(أو أمريكا)  لتحدد قواعد السلوك للنظام الدولي. أمريكا ليست في موضع يخوّلها تعريف هذه القواعد التي نرفضها، كما نرفض أن يُملى علينا أحد كيفية التعامل..واستمر هذا التناوش اللفظي بين الفريقين لمدة 45 دقيقة، في سابقة غير معهودة.

الطريق أمام طالبان

أما فيما يتعلق بطالبان، فهل لديها القدرة على مواجهة ضباع المنظومة الاستعمارية في الغرب- بشقيه الأوروبي والأمريكي والشرق- بشقّيه الروسي والصيني بل والهندي؟؟ طبعا قواعد النظام الدولي تقوم على منطق شريعة الغاب: القوي يفرض ما يريده وعلى الضعيف تجرع مرارة الذل والمهانة التي يُلزمه ضعفه بهما.

إذن هل البديل أن تتصرف طالبان وكأنها في المريخ: تغلق أبوابها وسماءها، وترمي بالمفتاح كما فعل حكام اليابان لقرنين من الزمن قبل أن تدق أبوابهم مدافع البحرية الأمريكية (1854م) ثم البريطانية ثم الفرنسية وهم نائمون لتفرض عليهم معاهدات الذل والعبودية  ؟؟ أم أنه “ليس بالإمكان أحسن مما كان” وعلى طالبان تجرع كأس مرارة اختلال موازين القوى لصالح خصومها، وترضخ إلى حين يشتد عودها حتى تتمكن من استرداد بعض الحقوق المنهوبة في سوق نخاسة ضباع الاستعمار؟

فعلا قامت طالبان بجهود دبلوماسية وإعلامية ضخمة في محاولة لتجميل صورتها، وإعطاء مواقف تؤكد فيها للجميع أنها اليوم غير الأمس(2001) كما قال المتحدث باسمها ذبيح الله مجاهد إنه سيكون هناك اختلاف كبير في إدارة البلاد. وهذا ما أقر به الوزير الفرنسي لودريان “أعلم أنهم (طالبان) يبذلون جهودا كثيرة في محاولة للحصول على اعتراف دولي، لكن لا يكفي إصدار تصريحات نقرأها هنا وهناك بشأن احترام حقوق المرأة، فالمطلوب هو أفعال” (فرنس 24 18-8-2021)

هذه معضلة ليس من السهل معالجتها، فمنطق موزاين القوة خال من الضمير الإنساني أو الأخلاقي أو الروحي. طبعا يخطر بالبال بشكل فوري أن على طالبان أن تستعين بالإخوة الأشقاء من المسلمين، وهم كثر و بالتحديد 55 دولة من إمارة و جمهورية ومملكة و و ، كل منها مزهوة بعلمها الوطني الذي اصطنعه المستعمر الأوروبي لها، و تستميت في الدفاع عن الحدود “الوطنية” التي خطها المستعمر الأوروبي ولو قبل 150 عاما..كما أن كل منها يخشى غضب ضباع الاستعمار في الشرق والغرب، فما من دولة تجرؤ على تهب لمساعدة إخوة الدين و الإيمان، مهما أمرت الآيات القرآنية بذلك أو الأحاديث النبوية الشريفة، فهؤلاء الحكام يخشون أصنامهم في واشنطن ولندن وباريس وموسكو أكثر من خشيتهم لخالق الأرض والسموات، إذا فرضنا أنهم يؤمنون به( وهذا افتراض يحتاج إلى بحث منفصل).

طبعا الحكمة التقليدية المعروفة في العالم كله تقول: في الوحدة قوة. وقديما قال الشاعر:  ( تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا    وإذا إفترقنا تكسرت آحادا)، ولذا نجد أن المسرح الدولي اليوم يتجه نحو ما يسمى ب “تعدد الأقطاب” والأقطاب جمع قطب، فمع أن أمريكا هي الدولة الأقوى عالميا وصاحبة النفوذ الأكبر في السياسة الدولية إلا أن هناك من يطمح للحصول على حصة أكبر من الكعكة الاستعمارية..والصين، على ما لها من حجم وثقل، تخشى الدخول في صدام مباشر مع أمريكا، بل تجتهد لتدوير الزوايا قدر الإمكان؛ وقد شاهدنا موقف أوروبا حين شهر ترامب في وجهها العقوبات فحاولت إمتصاص غضبه ببعض التنازلات هنا وهناك.

وواضح أن طالبان لا حول لها ولا قوة مقارنة بهؤلاء الأقطاب. إلا إذا سعت للاستقواء بإخوانها في الدين والعقيدة؛ والأمة ، متى خلعت أوثان الاستعمار المسماة أوطاناً زوراً و بهتاناً، حين تلتقي على صعيد واحد يربط بينها برباط الدين والإيمان، كما نشهد كل عام في شعيرة الحج، فالأمة تملك من الثروات والرجال والطاقات، وأولها طاقة الرسالة الإسلامية التي تنشر الأمن والأمان و العدل والرحمة بين الشعوب، ما يمكنها من أن تذود عن حياضها و تردع أي طامع في ثرواتها، فضلا عن أنها في هذه الحال بغنى عن أن “تستجدي” اعتراف ضباع الاستعمار….فهذا هو السبيل: الإعتصام بحبل الله جميعا فتعود الأمة كما كانت “خير أمة أخرجت للناس” أو الرضوخ تحت قيود الذل والهوان التي تفرضها ضباع المنظومة الاستعمارية العالمية عبر شروط ومطالبات لا تنتهي من حقوق المرأة المزعومة إلى طبيعة نظام الحكم إلى قبول قيود التبعية على الاقتصاد والتجارة.طبعا تحقيق هذه الوحدة التي ندعو لها لن يتم بين عشية وضحاها، وتحتاج الى الكثير من الجهود وإعمال الفكر، ولكن هذا ميسور وممكن متى تمت بلورة الخيارات الكبرى لتحديد وجهة السير في غابة الصراع الدولي التي لا ترحم الضعيف.

 نسأله سبحانه أن يهدينا إلى أرشد أمرنا والله الهادي إلى سواء السبيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى