مقالات

مفهوم رأس المال المعرفي وعلاقته برأس المال الاجتماعي – رؤية سوسيولوجية –

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع- جامعة ماردين ارتوقلو – حلب سابقاً
عرض مقالات الكاتب

رافقت المعرفة الإنسان منذ أن وُجِدَ على سطح هذه البسيطة، وارتقت معه من مستوياتها البدائية إلى قمة ذروتها الحالية. والمتأمل في تاريخ البشرية يجد أن كل مجتمع من المجتمعات يتمتع بقدر معين من العلم والمعرفة، مما يعكس لنا مدى تطور تلك المجتمعات من عدمه.

وفي حقيقة الأمر، ساعد على تراكم هذا الكم الهائل من المعارف العلمية وتعاظم دورها في تخطيط وتنظيم الحياة البشرية من ألفها إلى يائها منجزات الثورة المعلوماتية والتكنولوجية الأخيرة. حتى أصبحت المعلومات والمعرفة مورداً من الموارد الاقتصادية، إضافةً للموارد الطبيعية، فبرز على الساحة الأكاديمية تخصص جديد يُعرف باسم ” اقتصاد المعرفة “، وبالأخص خلال العقد الحالي من القرن الحادي والعشرين الذي يُعنى بدراسة أهمية اقتصاد المعرفة كواحد من أهم محركات التقدم والتطور في المجتمعات الإنسانية حالياً، بحيث أصبحت المعرفة ركيزة أساسية لأي مجتمع يسعى إلى التقدم وتبوء مكانة لائقة بين المجتمعات الحديثة.

وتشير الإحصاءات في مختلف دول العالم إلى أن هناك ميل كبير في نمو الوظائف ذات الطابع المعرفي. وتشكل هذه الوظائف قوة عظيمة للمنظمات وعامل مساعد في بقائها ومنافستها في السوق، الذي يتسم بحركة تطورية سريعة. والملاحظ أن المنظمات الناجحة في العالم الصناعي المتقدم هي منظمات ذات اهتمام كبير بالمعرفة حيث تشكل لها هذه المعرفة ميزات تنافسية كبيرة.

مما جعل رأس المال المعرفي والتكنولوجي من أهم العوامل الأساسية في عوامل الإنتاج في ظل التحول لاقتصاديات ما بعد الصناعة، حيث تحول المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلوماتي ومجتمعات المعرفة. فأصبحت الثروة الحقيقية للشعوب والأمم تكمن في عقول أبنائها بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى رأس المال المادي، مما غير مفهوم الاستثمار وتوجهاته، وبالأخص فيما يتعلق بالاستثمار في المجال البشري والمعرفي، الذي بات حالياً يتربع على قائمة الاستثمارات الرابحة في وقتنا الحالي لما له من تأثير مباشر على نجاح وتراكم رؤوس الأموال الأخرى.

وفي المقابل ينظر علماء الاجتماع  للعلاقات والروابط الإنسانية بين البشر بوصفها مورداً اجتماعياً هاماً وقادراً على لعب أدواراً أكثر أهمية في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية بأي مجتمع معاصر، وأن المجتمعات التي تملك رأس مال قوي لديها قدرة على التعاون البناء بين أفرادها كما يكون لديها أيضاً قدرة على التطور النمو. وهذا يعني أن رأس المال الاجتماعي يتشابه مع الأصول الإنتاجية أو الرأسمالية في المجتمع ويؤثر على العلاقات البشرية والاقتصادية في المجتمع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا ما هو رأس المال المعرفي وما هي طبيعة علاقته برأس المال الاجتماعي؟

في بداية الأمر سنحاول تعريف رأس المال بشكل عام، ثم نتعرف على طبيعة مفهومي رأس المال المعرفي  والاجتماعي، ومحدداتهما وطبيعة العلاقة القائمة بينهما.

– مفهوم رأس المال The Capital : هو مصطلح اقتصادي يقصد به الأموال والمواد والأدوات اللازمة لإنشاء نشاط اقتصادي أو تجاري ويكون الهدف من المشروع الربح أو الإعلام أو الأعمال الإنسانية.

ويعتبر رأس المال هو المحرك الأساسي لأي مشروع أو عمل استثماري يهدف لزيادة القدرة الإنتاجية لأي جهة، ويتكون من مجموعات أساسية غير متجانسة يتفرع من كل منها أشكال فرعية من المستخدمات القادرة على الإنتاج مثل الأدوات والمواد الخام، وربما القدرات البشرية النادرة، والمواد المساعدة في الإنتاج. وقد قسم ” كارل ماركس ” رأس المال إلى رأس المال الثابت وهي المواد التي لا تتغير ولا تدخل في التبادل التجاري أو الاستهلاك ضمن دورات الإنتاج، ومن أهم الأمثلة عن رأس المال الثابت. ومن أهم الأمثلة عليه ( الأرض، والبناء، والمنشآت، والآلات، والتجهيزات الضرورية، والطاقة المحركة ). أما الثاني فهو رأس المال المتحرك وهو كل المواد والسلع التي تدخل في الإنتاج ولها قيمة مباشرة في قيمة السلعة المنتجة وبشكل مختصر هو كل المواد التي تدخل في دروة اقتصادية متجددة، وأهم أمثلة حول رأس المال في مجال الصناعة مثلاً ( المواد الخام التي يتم تصنيعها، والأيدي العاملة ). وقد ذكر ماركس في كتابه رأس المال أن العصور الوسطى خلفت شكلين متميزين من أشكال رأس المال، وهما رأس المال الربوي ورأس المال التجاري.

– مفهوم رأس المال المعرفي Knowledge Capital : في حقيقة الأمر يعتبر مفهوم رأس المال المعرفي من المفاهيم الحديثة نسبياً ولا تزال بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتحديد، وبالتالي يصعب علينا صياغة تعريف شامل وموحد له، لكن يمكننا بطبيعة الحال تعريفه بأنه المعرفة والخبرة والقوة العقلية للعاملين، فضلاً عن الموارد المعرفية المخزونة في قاعدة معلومات المنظمة والعلميات وثقافتها وفلسفتها. بمعنى آخر هو مجموع القدرات والخبرات والمعرفة لدى العاملين في أي منظمة، بحيث يكون هذان العنصران (المعرفة، والخبرة) متميزين لا توجد لدى منظمة أخرى وهما بطبيعة الحال يشكلان الموارد الاقتصادية  للمنظمة. ويضم رأس المال المعرفي ضمن نطاقه، مكونات واسعة مثل: (الملكية الذهنية، براءات الاختراع، حقوق الطبع والنشر، قواعد البيانات، رأس المال البشري، الذكاء، المعرفة، الشهرة والقيمة).

ومن خصائصه أنه غير ملموس، ومن الصعوبة قياسه بدقة، يتراكم بالاستعمال، ويتجسد من خلال مجموعة من الأشخاص القدرين على حمله، سريع الزوال والفقدان. بالإضافة إلى أن له تأثير كبير على تطور المنظمة. كما أنه ينعكس على الأفراد الذين يمثلونه بمجموعة من الخصائص السلوكية والشخصية، تنحصر بما يلي:

  1. المثابرة والاتقان في العمل.
  2. التمتع بالثقة العالية في العمل.
  3. الميل إلى تحمل المخاطر في بدأ العمل بدرجة كبيرة.
  4. تقديم الأفكار البناءة بهدف السعي إلى التجديد والإبداع والابتكار.
  5. الميل إلى المعرفة وعدم الجمود.

 – مفهوم رأس المال الاجتماعي Social Capital : يشكل رأس المال الأصول المعنوية التي تحسب في الحياة اليومية للناس، مثل النية الحسنة، الثقة، الزمالة، التعاطف، والاتصال الجماعي بين الأفراد والعائلات الذين يشكلون. ويمكن لنا تعريفه بأنه: مجموع الموارد الفعلية أو المحتملة المرتبطة بامتلاك شبكة متينة من العلاقات الاجتماعية التي تتجسد في التعرف والاعتراف المتبادل الممارس يومياً.

بذلك يتكون رأس المال الاجتماعي من الالتزامات الاجتماعية ” اتصالات ” التي هي قابلة للتحويل في ظروف معينة إلى رأس المال الاقتصادي وبأن العلاقات الاجتماعية بين أشكال رأس المال تتغير من خلال مسارات الفضاء الاجتماعي، وهذا ما يمكننا تسميته “باستراتيجيات إعادة التحويل” التي من الممكن أن تحول الأصول من شكل رأس المال لشكل آخر عبر الزمن حسب بورديو.

وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن العلاقات الاجتماعية المتطورة في مواقع  العمل وخارجه، إذ ما تأصلت بأواصرها بمرور الزمن ستساهم في تعلم العاملين لقيم التعاون الذي يسهل عملية طرح الأفكار ونشر المعرفة والمشاركة في طرح المعلومات التي تحقق التقدم والازدهار الاقتصادي. فرأس المال الاجتماعي بناءً على ما تقدم هو بمثابة كيان حيوي متماسك بضم شبكات العمل المترابطة والمتفاعلة، من خلال تعزيز الإحساس بالجماعة والابتعاد عن الفردية، ويسهم العمل بالمقابل على تطوير رأس المال الاجتماعي في المؤسسات في تحقيق الآتي:

  1. ترسيخ قيم الالتزام التنظيمي.
  2. تحقيق ما يسمى بالعمل ذو الأداء العالي.
  3. المساهمة في تعزيز قيم وممارسة العمل الجماعي.
  4. تقليل كلفة المحافظة على العاملين وزيادة الدعم لهم.
  5. زيادة فرض الإبداع وتعزيز قوة التعليم الفردي والجماعي.

 – العلاقة بين رأس المال المعرفي ورأس المال الاجتماعي: في حقيقة الأمر يمكننا تسمية العلاقة القائمة بينهما بالعلاقة التبادلية، حيث إن أحد المزايا المترتبة على الاهتمام بتطوير وتحسين رأس المال المعرفي للمؤسسات هو رأس المال الاجتماعي الذي يعد أحد أهم الوسائل العامة لصناعة وتطوير رأس المال المعرفي. وذلك من خلال الدور الأساسي والإيجابي الذي تقوم به شبكات العلاقات الاجتماعية في زيادة نشر المعرفة وتبادلها والمشاركة الجماعية في تكوين الشبكات الفكرية، التي تساهم في التغلب على مقاومة المهنيين والمختصين والإداريين لمشاركة الآخرين معارفهم على أساس توفيقي جماعي. وذلك من خلال  قدرتها المتواصلة على إقامة علاقات اجتماعية متماسكة إيجابية بين العاملين في المؤسسة بهدف توفير الوسائل المناسبة لنشر المعرفة وتبادلها. كما يؤدي إلى بناء المنظمات الاجتماعية الفاعلة والمرتبطة بالبيئة، وتفعيل تبوء الإدارة وتعدد قنوات الاتصال بين المنظمات والبيئة وتقويم أداء المنظمات.

ومعنى ذلك، أنه – حسب رؤية علم الاجتماع – لا يمكن بناء وتشييد رأس المال المعرفي لمؤسسة ما دون إقامة شبكة من العلاقات الاجتماعية القائمة على التعاون، والتآزر، والمحبة، والتعاطف، وحسن النية، فرأس المال الاجتماعي من خلال روح العمل الجماعي هو السبيل الحقيقي لعزيز قدرة رأس المال المعرفي عبر الزمن، مما يسهم في تقدم وازدهار المنظمات والمؤسسات الاقتصادية والمعرفية.

وفي النهاية يمكننا القول بأن الثقة التي يجسدها رأس المال الاجتماعي تلعب دوراً كبيراً بين أعضاء شبكة العمل، وهذا ما يساعد على زيادة نقل المعرفة بين أعضاء المؤسسة بسهولة، وتعتبر مستويات الثقة المرتفعة نتيجة منطقية للعمل الجماعي، مما يساعد على زيادة النشاط الإبداعي لديهم، فيراكم رأس المال المعرفي الفاعل والمنفعل بشكل مطرد. 

– المراجع:

  1. عبد الرحمن كساب عامر: رأس المال المعرفي، درا الكتاب للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014.
  2. طلعت مصطفى السروجي: رأس المال الاجتماعي، مكتبة الانجلو مصرية، القاهرة، ط1، 2009.
  3. كارل ماركس: رأس المال نقد الاقتصاد السياسي، دار التقدم، موسكو، الطبعة العربية، 1985.
  4. مجموعة مؤلفين: دراسة الجدوى في المنشآت الصغيرة والمتوسطة، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط1، 2012.

الله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى