ثقافة وأدب

كتاب تحرير المرأة بين قاسم أمين ومحمد عبده (هل كتب محمد عبده بعض فصول ذلك الكتاب؟)

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب


فى سنة 1899م أصدر قاسم أمين كتابه: “تحرير المرأة”، وفيه يدعو إلى تعليمها وإطلاقها من سجن البيت ومشاركتها فى الحياة العامة وإعطائها الفرص والحقوق المعطاة للرجل. وقد أثار الكتاب عند ظهوره على مؤلفه عاصفة من الانتقاد والتشنيع، فضلا عن أن أبواب قصر عابدين قد سُدَّتْ فى وجهه، فلم يعد يُسْمَح له بالدخول كما كان الحال قبلا (انظر العقاد/ سعد زغلول/ القاهرة/ 1936م/ 21).
وقد رأى البعض أن محمد عبده هو الذى ألف هذا الكتاب لكنه فضَّل وضع اسم قاسم أمين على غلافه تجنبا للحرج وتفاديا للعاصفة التى كانت متوقعا هبوبها عليه لو عرف الناس أنه مؤلفه، وهو الشيخ الأزهرى ذو المناصب الدينية الكبرى، ومنها منصب الإفتاء (انظر “الأعمال الكاملة لقاسم أمين”/ تحقيق د. محمد عمارة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 1976م/ 1/ 133). كما قيل إن بعض فقرات هذا الكتاب تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده نفسه (د. إبراهيم عبده ودرية شفيق/ تطور النهضة النسائية فى مصر/ القاهرة/ 1945م/ 75).
وقد تلقف د. محمد عمارة هذا الكلام وقبض عليه بكل قوة، وراح يورد الأدلة التى يراها قاطعة فى أن محمد عبده هو مؤلف الفصول التى تعرض رأى الدين فى قضايا المرأة فى ذلك الكتاب، وهى فصول “الحجاب الشرعى” و”تعدد الزوجات” و”الطلاق” (انظر “الأعمال الكاملة لقاسم أمين”/ 1/ 143).
أما الأدلة التى رآها د. عمارة حججا قاطعة على صدق هذا الادعاء فهى كالآتى: 1- أن درية شفيق قد ذكرت “تقسيم العمل” فى كتاب “تحرير المرأة” بين محمد عبده وقاسم أمين، وأن الأول قد تناول القضية من الناحية الدينية على حين تناولها الآخر من الناحية الاجتماعية (السابق/ 1/ 139). 2-أن أفكار محمد عبده فى مقالاته فى “الوقائع المصرية” وفى حديثه مع محمد رشيد رضا سنة 1897م تتطابق مع ما فى كتاب قاسم أمين (السابق/ 1/ 140). 3- ومن القرائن الدالة فى نظر د. عمارة موقف محمد عبده من كتاب “تحرير المرأة” عند صدوره، فقد أيده ودافع عنه بطريقة غير مباشرة من خلال تلميذه رشيد رضا، الذى تناول الكتاب فى “المنار” بالثناء فى الوقت الذى سكت هو فلم يعلق على الكتاب بنفسه (السابق/ 1/141). 4- كما يرى د. عمارة أن أسلوب قاسم أمين أسلوب أدبى فيه حلاوة وطلاوة بل وشاعرية فى بعض الأحيان مما لا نجده فى كتابات محمد عبده، التى تصدر عن العقل مباشرة. وبالمقارنة بين الفصول التى لا يشك فى نسبتها من “تحرير المرأة” إلى قاسم أمين والفصول التى يرى د. عمارة أنها لمحمد عبده نلاحظ على أسلوب الأولى طابع قاسم أمين، وعلى أسلوب الأخرى ميسم محمد عبده، علاوة على أن هذه الفصول الأخيرة تخلو من الاستشهاد بكتابات الغربيين على عكس تلك (السابق/ 143). 5- أنه توجد فى الفصول التى تتناول قضايا المرأة من الوجهة الدينية آراء ومناقشات فقهية ليست فى طاقة قاسم أمين، مثل القول بأن الشىء الوحيد الذى ميز فيه الشارع الرجال على النساء هو تعدد الزوجات. ففى رأى د. عمارة أن هذا الكلام يدل على استقصاء للموضوع لا يقدر عليه مثل قاسم أمين. وبالمثل يستبعد د. عمارة أن يعرف قاسم أمين كل هذه المصادر والمراجع الفقهية القديمة المذكورة فى “تحرير المرأة” (السابق/ 144- 146). 6- أن قاسم أمين فى “تحرير المرأة” قد رجع عن آرائه فى كتابه: “المصريون”، الذى كان قد ألفه قبل خمس سنوات ودافع فيه عن حجاب المرأة ورفض اشتراط وقوع الطلاق أمام القاضى على أساس أن هذه خصوصية من خصوصيات الزوجين لا ينبغى نشرها على رؤوس الأشهاد. لقد درس قاسم أمين الشريعة فى مدرسة الحقوق بين عامى 1881 و1885م ثم اشتغل بعد ذلك نائبا ومستشارا فى محكمة الاستئناف، فما معنى أن يرجع عن آرائه القديمة التى دافع عنها فى كتاب “المصريون” على أساس أنها رأى الدين ويعتنق أفكارا مناقضة لها إلا إذا كانت هذه الأخيرة هى أفكار محمد عبده؟ (السابق/ 1/ 70- 71).
هذه أهم الحجج التى استعملها د. عمارة وقطع على أساسها بأن الفصول الدينية من كتاب “تحرير المرأة” ليست لقاسم، وإنما هى لمحمد عبده. وها نحن أولاء موردون رأيا يخالف رأى الأستاذ الباحث ومعضدوه بحجج نرى أنها أقوى من حججه، ولكننا مع ذلك لا نستطيع القطع بشىء، بل كل ما نقدر عليه هو القول بأن هذا هو ما يغلب على ظننا وتطمئن إليه عقولنا لأنه، فيما نرى، هو الأقرب إلى المنطق وإلى طبيعة الأشياء. والآن نبدأ على بركة الله.
فأما بالنسبة إلى ما ورد فى كتاب “النهضة النسائية فى مصر” للدكتور إبراهيم عبده ودرية شفيق فالملاحظ أنه لم يتجاوز العبارة الآتية: “وقيل إن بعض فقرات الكتاب تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده”. وتعليقنا على ذلك هو أن الأمر كله لا يعدو أنه “قيل” بصيغة التجهيل دون أن نعرف من الذى قال ذلك. ثم إن الذى “قيل” هو أن “بعض” فقرات الكتاب (بعض فقراته لا بعض فصوله بله كله) تنم (لاحظ أنها “تنم” فقط مجرد نَمٍّ) عن أسلوب الشيخ محمد عبده.
هذا ولا أظن درية شفيق قد تحدثت عن تقسيم العمل فى كتاب “تحرير المرأة” بين محمد عبده وقاسم أمين، بل الذى فهمتُه من عبارتها أنها تشير إلى ما كان محمد عبده قد كتبه فى هذا الموضوع فى مقالاته وكتبه عن قضايا المرأة من وجهة نظر المصلح الدينى على حين تناولها قاسم أمين فى كتاباته من زاوية المصلح الاجتماعى.
وعلى أية حال فها هى ذى درية شفيق نفسها فى كتابها:”المرأة المصرية من الفراعنة إلى اليوم” تنسب كتاب “تحرير المرأة” والعمل من أجل تعليمها ومساواتها بالرجل إلى قاسم أمين وحده (انظر درية شفيق/ المرأة المصرية من الفراعنة إلى اليوم/ مطبعة مصر/ 105- 108، 277- 279)، وذلك رغم أنها تحدثت فى ذات الكتاب عن جهود محمد عبده قبل هذا فى نفس الميدان فى فصل خاص به (المرجع السابق/ 102- 1-4). كما أنها هى نفسها قد ذكرت، فى نفس الكتاب بل فى نفس الموضع الذى وردت فيه عبارتها السابقة الخاصة بأن بعض فقرات الكتاب تنم عن أسلوب محمد عبده، أن قاسم أمين قد اجتمع فى سنة 1897م بمحمد عبده وسعد زغلول ولطفى السيد فى جنيف وأنه تلا على الإمام بعض فصول من كتابه المذكور، فكان الأستاذ الإمام يوافق على ما فيها. إذن فدور محمد عبده بالنسبة لكتاب “تحرير المرأة” لا يتعدى دور “السامع”: على الأقل. ولا نستبعد أن يكون قد أشار على المؤلف ببعض الملاحظات. لكن هذا شىء، والزعم بأنه قد ألف بعض فصوله شىء آخر.
ذلك أن قاسم أمين لم يكن طالبا صغيرا ولا رجلا هين الشأن، بل كان مثقفا واسع الثقافة تخصصه الأصلى هو الشريعة والقانون، وهو نفس تخصص والده، الذى كانت عنده مكتبة قانونية كبيرة (انظر د. ماهر حسن فهمى/ قاسم أمين/ أعلام العرب/ العدد 10/ 29، 32). فهو إذن قانونى من ظهر قانونى. وكان من تلامذة الأفغانى ومن أصدقاء محمد عبده والنديم وسعد زغلول وأخيه فتحى ولطفى السيد (السابق/ 34). فإذا عرفنا أنه كان منهوما بالقراءة فى فنون مختلفة من العلم وأنه كانت له مكتبة تقع فى ثلاث غرف يقضى فيها عددا من الساعات كل يوم (السابق/ 70)، وكان مستشارا قضائيا يشار إليه بالبنان، وكانت أحكامه تدل على سعة معرفة بكتب الشريعة (السابق/ 59- 64)، كان من الصعب تماما علينا التصديق بأنه كان محتاجا إلى من يضع له بعض فصول كتابه المذكور. ولقد وصفه د. زكى مبارك بأنه كان من أقطاب التشريع (انظر كتابه: “عبقرية الشريف الرضى”/ المكتبة العصرية/ صيدا/ 1/ 19).
على أن الذى يقرأ كتاب “تحرير المرأة” يجد قاسم أمين ينقل عن كتاب “رسالة التوحيد” لمحمد عبده مشيرا إليه (انظر “تحرير المرأة”/ دار المعارف/ سوسة/1990م/ 128- 131). فلماذا، لو كانت بعض فصول كتابه فعلا من وضع محمد عبده، لم يشر إلى أخذه إياها منه؟ يرى د. عمارة أن محمد عبده لم يشأ أن يظهر للناس بوصفه مؤلف تلك الفصول تجنبا للإحراج إذا عرفوا أن المفتى هو صاحب هذه الأفكار التحررية (انظر “الأعمال الكاملة لقاسم أمين”/ 1/ 133). بيد أن محمد عبده كان قد قال مثل هذا الكلام قبل نحو عشرين عاما من صدور كتاب قاسم أمين على ما ذكر د. عمارة نفسه، فلم إذن الخشية من الإحراج؟ ولماذا لم يخش الإحراج محمد رشيد رضا، الذى ذكر د. عمارة أيضا أنه استقبل كتاب “تحرير المرأة” بالثناء، وقد كان رشيد رضا عالما دينيا شهيرا هو أيضا وصاحب واحدة من كبريات المجلات الدينية فى العالم الإسلامى آنذاك؟
كذلك كيف يصوَّر محمد عبده على أنه كان خوافا بهذا الشكل؟ ألم يكن أحدَ الذين اشتركوا فى الثورة العرابية؟ أليس هو الذى كان يقول عنه الخديوى عباس إنه يشعر كلما دخل عليه كأنه فرعون؟ (انظر العقاد/ محمد عبده/ وزارة التربية والتعليم/ القاهرة/ 1383هـ – 1963م/ 143). أليس هو صاحب الفتاوى المشهورة بجواز لبس المسلم للقبعة وأكله من اللحم الذى يذبحه النصارى بعد ضربه بالبلطة لتدويخه… تلك الفتاوى التى ألبت عليه أعداءه المتربصين من أنصار الخديوى والعلماء الحاقدين عليه أو المخالفين له فى الرأى، فلم يبال بشىء من ذلك؟ أليس هو صاحب التأويلات الخاصة بآدم عليه السلام والجن والطير الأبابيل مما خالف فيه الشائع من التفاسير فى تلك الموضوعات؟ أليس هو الذى أدخل الإصلاحات الإدارية والصحية والدراسية الجريئة فى الأزهر وتحمل تبعاتها الثقال وما جرته من مؤامرات واتهامات وقيل وقال؟ فلماذا يُظَنّ أنه هو الذى ألف القسم الهام من كتاب “تحرير المرأة” وترك قاسم أمين يضع اسمه عليه كله ليتلقى بدلا منه الهجمات والضربات؟ بل كيف يسكت بعد ذلك وهو يرى صديقه المسكين يتعرض لتلك الهجمات والضربات فعلا؟ إن هذا ليدل على لؤم فى الطبع وخسة ونذالة، ولا أحسب عاقلا يستطيع أن يتهم محمد عبده بذلك مهما يكن اختلافه معه أو رأيه فى مواقفه السياسية وآرائه الاجتماعية والدينية. وإذا ساغ الصمت من محمد عبده لسبب أو لآخر فكيف صمت قاسم أمين فلم يحاول أن يرد عن نفسه عادية الهجوم الضارى بالتصريح، ولو عن طريق أحد أصدقائه، بأن محمد عبده شريك له فى تأليف الكتاب؟
ومما يسوقه د. عمارة من حجج على صحة رأيه إشارته إلى أن ظاهرة تخفى المؤلفين تحت لقب “عالم فاضل” أو “مؤرخ”… كانت شائعة فى ذلك الوقت (انظر “الأعمال الكاملة لقاسم أمين”/ 1/ 139). يريد أن يقول إنه ليس هناك شىء غريب فى أن يتخفى محمد عبده وراء اسم قاسم أمين. لكن فاته أن هذا غير ذلك، فالتخفى تحت لقب من الألقاب شىء، ونسبة مؤلفٍ كتابا عمله إلى شخص غيره شىء مختلف تماما، وبخاصة إذا كان يتوقع سلفا ان ذلك الكتاب سوف يثير على من يُنْسَب إليه مثل تلك العاصفة الهوجاء التى أثارها كتاب “تحرير المرأة” على قاسم أمين. ثم لماذا لم يلجأ محمد عبده إلى الاستتار وراء لقب من هذه الألقاب فيريح ويستريح؟
لكأن د. محمد حسين هيكل يرد على من يزعمون أن محمد عبده هو صاحب الفصول التى تناولت قضايا المرأة فى كتاب قاسم أمين من الناحية الدينية إذ ينسب إلى قاسم أمين دون أى غموض أو لجلجة البحوث الفقهية التى التجأ إليها لتبرير مذهبه بإزاء الشريعة الإسلامية (انظر د. محمد حسين هيكل/ شخصيات مصرية وغربية/ كتاب روز اليوسف/ العدد 2/ 1953م/ 69). ولنلاحظ أن د. هيكل كان صديقا للطرفين، وكانت أمامه ندحة من الوقت ليعلن الحقيقة لو كان محمد عبده هو مؤلف بعض فصول الكتاب المنسوب لقاسم أمين، إذ عاش بعد أن مات الرجلان نحو نصف قرن، ولكنه لم يفعل، فما دلالة ذلك؟
ولا يفوتنى هنا التنبيه إلى أن د. هيكل ليس هو الوحيد من بين أصدقاء الرجلين ومعاصريهما والمحيطين بسيرتيهما وأسرار حياتيهما الذى نسب الكتاب المذكور كله دون تلجلج إلى قاسم أمين، بل ذلك أيضا هو موقف أحمد شفيق باشا وأحمد لطفى السيد وسعد زغلول وفتحى زغلول وإبراهيم رمزى والعقاد، وكذلك هدى شعراوى (فى مذكراتها المسماة: “مذكرات رائدة المرأة العربية الحديثة هدى شعراوى”/ كتاب الهلال/ العدد 369/ سبتمبر 1981م/ 102- 103)، وجرجى زيدان (فى كتابه: “بناة النهضة العربية”، الذى خصص فيه فصلا كاملا لقاسم أمين).
ولو كان محمد عبده هو مؤلف الفصول محل البحث فلماذا لم يذكر ذلك فى رده على الكتاب الزعيم مصطفى كامل، الذى كانت بينه وبين الأستاذ الإمام خلافات شديدة فى المواقف والاتجاهات السياسية، وذلك للإضرار به وإسقاطه فى أعين الناس؟ ولماذا حُرِّم قصر عابدين على قاسم أمين ولم يُتَّخَذْ شىء ضد محمد عبده، وقد كان مصطفى كامل متصلا بالقصر فى ذلك الوقت أوثق اتصال،وله رأى مسموع عند صاحبه حتى إن أحمد شفيق باشا ينسب إليه أنه استطاع هو وعلى يوسف تغيير قلب عباس حلمى على المفتى؟ (انظر أحمد شفيق باشا/ مذكراتى فى نصف قرن/ مطبعة مصر/ 1936م/ 2/ 413).
ومن ناحية أسلوب الكتاب فقد كتب إبراهيم رمزى فى “الجريدة” فى السنة التى تُوُفِّىَ فيها قاسم أمين ينفى تمام النفى أن يكون لمحمد عبده يد فى الكتاب، قائلا بالحرف: “ونحن لا نعرف لهذه الدعوى حقيقة لأن أسلوب الإنشاء فى الكتاب كان من أساليب قاسم الخاصة” (انظر مقاله: “مصابنا فى الرجال” بـ”الجريدة” بتاريخ 23 فبراير 1908م). والحق أن ملاحظة إبراهيم رمزى على أسلوب الكتاب ملاحظة صحيحة، فإن الأسلوب الذى كتبت به فصول الكتاب جميعا هو هو نفسه، وهو الأسلوب الذى نعرفه لقاسم أمين من بساطة فى اللفظ والتركيب وبعد عن السجع بخلاف أسلوب محمد عبده، الذى يبدو أكثر فخامة وجلالا، وتبدو تراكيبه أكثر تعقيدا، ويظهر فيه السجع بوضوح.
وقد لاحظت فى الفصول المشكوك فيها، علاوة على ذلك، احتواءها على بعض الألفاظ والعبارات التى تتكرر فى كتابات قاسم أمين الأخرى، مثل “وبالجملة فإن…”، والفعل “استلفت”، والنسبة إلى أوربا على “أورباوى” فى كثير من الأحيان، وعدم حذف الياء عند النسب إلى “طبيعة وغريزة وبديهة”،واستخدام الفعل “يعتبر” بمعنى “ينظر إلى الشخص أو الشىء على أنه كذا”، وتكرار كلمة “خَوَّلَ”، وكذلك عبارة “انظر إلى كذا تجد كيت وكيت”، إلى جانب استعانته بالإحصاءات والأرقام، والإشارة فى الهامش إلى المصدر أو المرجع الذى ينقل عنه مع ذكر رقم الصفحة، وهو ما لا نجده عند محمد عبده فى حدود ما استطعنا ملاحظته من كتاباته التى ظهرت فى تاريخ قريب من كتابات قاسم أمين.
وفى موضع من المواضع التى تُنُووِلَتْ فيها قضايا المرأة من الوجهة الدينية من كتاب “تحرير المرأة”، وهى المواضع التى يجزم د. عمارة بأنها من وضع الشيخ محمد عبده، نقرأ كلاما عن المرأة التى تضع على وجهها برقعا وترتدى ملابس تستر كل جسدها، ومع ذلك تفتن الرجال بحركاتها المتخلعة ونظراتها التى ترسلها من تحت البرقع مهيجة للشهوات. وهذا الكلام يشبه فى خطوطه العامة بل وفى بعض ألفاظه أيضا ما كتبه قاسم أمين فى مذكراته التى نشرت بعد وفاته بعنوان “كلمات” (انظر “تحرير المرأة”/ 82- 83، ود. محمد عمارة/ قاسم أمين وتحرير المرأة/ كتاب الهلال/ العدد 352/ إبريل 1980م/ 162- 163). وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بانهما قد صدرا عن سن قلم واحد.
كذلك ورد فى بعض المواضع من كتاب “تحرير المرأة” الحديثان الشريفان التاليان: “اتقوا الله فى الضعيفين: المرأة واليتيم” و”حُبِّبَ إلىَّ من دنياكم ثلاث…”، ويجد القارئ هذين الحديثين أنفسهما فى كتاب “المصريون” (انظر على التوالى “تحرير المرأة”/ 116، 151، وكتاب قاسم أمين: “Les Égyptiens, Jules Barbier, Le Caire, 1894, pp. 169- 170”). وهذه، فيما أحسب، قرينة قوية على أن المؤلف فى الحالتين واحد. ومثل ذلك ما جاء فى مفتتح فصل “حجاب النساء”، وهو من الفصول التى ينسبها د. عمارة للشيخ محمد عبده، ونصه: “سبق لى البحث فى الحجاب بوجه إجمالى فى كتاب نشرتُه باللغة الفرنساوية من أربع سنين مضت ردا على دوق داركور وبينت هناك أهم المزايا التى سمح لى المقام بذكرها. ولكن لم أتكلم فيما هو الحجاب ولا فى الحد الذى يجب أن يكون عليه. وهنا أقصد أن أتكلم فى ذلك”، ثم يمضى الكلام على هذه الوتيرة التى يشعر القارئ معها أن الفصل كله من وضع نفس الشخص كاتب هذه الفقرة. وهو طبعا قاسم أمين.
وقد ادعى د. عمارة، كما رأينا، أن الفصول الدينية فى “تحرير المرأة”، وهى الفصول التى ينسبها إلى محمد عبده، تخلو من الاستشهاد بالكتاب الغربيين، مع أن الاستشهاد بالغربيين إحدى خصائص كتابات قاسم أمين التى نجدها فى بقية فصول الكتاب. فما رأيه فى أن الفصل الخاص بالحجاب، وهو من الفصول الأولى فى رأيه، تتضمن نقلا غير صغير من “لاروس”؟ (تحرير المرأة/ 70- 71). كما أن فى فصل “الطلاق”، وهو منها أيضا، نقلا آخر عن فولتير الفيلسوف والأديب الفرنسى؟ (السابق/ 165).
أما تفرقة د. عمارة بين أسلوبى محمد عبده وقاسم أمين على أساس حلاوة الثانى وطلاوته، وكذلك شاعريته فى أحيان غير قليلة، وصدور الأول عن العقل ومخاطبته العقل، فهى تفرقة على غير أساس، إذ إن أسلوب محمد عبده فى حالات كثيرة يرتجف من الانفعال وينفث لهبا ويحلق حينئذ فى أجواء من الشاعرية كما هو الأمر فى رده على هانوتو وفرح أنطون مثلا. والعكس صحيح أيضا مع أسلوب قاسم أمين، الذى لا يزيد فى كثير من الأحيان عن أن يكون أسلوبا واضحا سهلا منثالا، ثم لا شىء أكثر من ذك، فلا حلاوة ولا طلاوة ولا شاعرية. وليس فى هذا ولا ذاك أية غرابة، فالأساليب كما تختلف باختلاف الكتاب تحتلف كذلك باختلاف الموضوعات والمواقف التى تستخدم فيها. فما الغريب فى الأمر لو كان الأسلوب الذى صيغت به الفصول التى يشكك د. عمارة فى أن تكون من تأليف قاسم أمين أسلوبا عاديا يخلو من نفحات الشاعرية؟ هل كان ينتظر أن تُعْرَض آراء الفقهاء القدماء فى مسائل الطلاق والحجاب مثلا بأسلوب مجنح يطير فى أجواء الخيال؟ فكيف ذلك؟
وأما تشابه آراء قاسم أمين فى الكتاب الذى نحن بصدده مع آراء محمد عبده فيما يتعلق بقضايا المرأة فهو أمر لا ينبغى استغرابه، فقد كان الرجلان صديقين، وكانا أيضا تلميذين لأستاذ واحد هو جمال الدين الأفغانى. كما اشتغل كلاهما فى المحاكم وسافرا إلى أوربا وشاهدا مظاهر الحضارة وأوضاع الحياة الاجتماعية هناك. وكانا يعرفان اللغة الغرنسية ويقرآن لأعلام الفكر الغربى. على أن هذا التشابه لم يكن مقصورا على الرجلين بل كان يَشْرَكهما فيه عدد آخر من رجال الفكر والمجتمع ممن تلتقى مشاربهم واتجاهاتهم مع أفكار المفتى وآرائه، ومنهم محمد رشيد رضا وسليم البشرى وأحمد شفيق باشا وسعد زغلول وحفنى ناصف ومصطفى عبد الرازق… إلخ.
ومثل هذه الحجة إغراقا فى النزع استبعاد د. عمارة أن يكون قاسم أمين قادرا على المناقشات الفقهية الموجودة فى الفصول التى ينفى نسبتها عنه من كتاب “تحرير المرأة”، إذ ليس فى الفصول المذكورة أية مناقشات عميقة بل مجرد سرد لآراء بعض الفقهاء السابقين وتعليق سريع عليها. وبالمناسبة فعدد المراجع التى أخذ منها قاسم أمين اقتباساته لا تزيد على ثلاثة، وهى كتاب للزيلعى، وآخر لابن عابدين، وكتاب “الروض” فى الفقه الشافعى، فضلا عن كتاب لأحد الهنود المعاصرين له.
وقد أشار قاسم أمين فى كتابه: “المصريون”، الذى ألفه قبل ذلك بأربعة أعوام، إلى عدد أكبر من هذا كثيرا جدا من الكتب والمؤلفين القدماء، واقتبس من بعضهم. فما وجه الغرابة فى أن يعرف، وهو رجل القانون الضليع، ثلاثة مراجع فقهية قديمة بعد مرور أربع سنوات زاد فيها، ولا شك، اطلاعه ونمت ثقافته؟ ترى هل يصعب على أحد المتخصصين فى الأدب مثلا أن يرجع إلى ما يريد من كتب الفقه أو الكلام أو الفلسفة القديمة؟ بالطبع لا وألف لا. فلماذا نتصور أنه يصعب على رجل كقاسم أمين متخصص فى الشريعة والقانون ومعروف بنهمه فى القراءة وبغنى مكتبته، وهو فوق ذلك ابن رجل من دارسى القانون، أن يرجع إلى ثلاثة من الفقهاء القدماء وينقل عنهم بعض الاقتباسات فى موضوع من مواضيع الأحوال الشخصية، وهى أشيع الموضوعات الفقهية فى عصرنا هذا حيث لم يعد القانون فى معظم بلاد المسلمين مرتبطا بالشريعة الإسلامية إلا فى أضيق الحدود؟ ولقد ذكر إبراهيم الهلباوى القانونى الشهير وخريج الأزهر أن قاسم كان “دائب البحث فى الشريعة الإسلامية” (نقلا عن أحمد خاكى/ قاسم أمين/ سلسلة “أعلام الإسلام”/ ديسمبر 1944/ 6). وبالمناسبة فقد استشهد قاسم أمين فى غير الفصول التى لا يصدق د. عمارة أنه هو صاحبها بعدد من المؤلفات الإسلامية القديمة فى التربية والتاريخ والفقه (انظر “تحرير المرأة”/ 51، 140- 142، 150).
ولعل من المفيد أن نسوق للقارئ مثالا على الآراء والمناقشات الفقهية العميقة التى تفوق طاقة قاسم أمين فى رأى د. عمارة، وهو قوله إن الشىء الوحيد الذى ميز فيه الشارع الرجال على النساء هو تعدد الزوجات. ففى هذا الكلام، كما يقول د. عمارة، استقصاء فى الموضوع لا يقدر عليه قاسم أمين (انظر “الأعمال الكاملة لقاسم أمين”/ 1/ 144). ولكن ما أسهل الرد على هذه الحجة! فليس فى هذا الكلام ما يجهله أجهل مسلم أو حتى أى إنسان لديه علم بوجود شىء اسمه الإسلام، علاوة على أن ليس فى المسألة أى استقصاء، إذ هناك تمييزات أخرى للرجل على المرأة فى الإسلام، وذلك فى مسائل الشهادة والقوامة والعورة والخلافة. والطريف أن قاسم أمين، فى أحد الفصول التى لا يشكك د. عمارة فى نسبتها إليه،قد ذكر من هذه التمييزات الخلافة والإمامة والشهادة (انظر “تحرير المرأة”/ 142)، فكان أقرب إلى الاستقصاء هناك منه فى الفصل الذى ينسبه إلى محمد عبده.
ثم إن د. عمارة، كما سلف البيان، يتخذ من تحول قاسم أمين فى آرائه التى أبداها فى كتاب “المصريون” قبل أربع سنوات من إصداره “تحرير المرأة” دليلا على أن الآراء الجديدة ليست له، وإنما هى لمحمد عبده. وهى حجة داحضة لأن قاسم أمين إما أن يكون قد رجع عن آرائه فعلا كما يقول كتابه الجديد أو لا: فإن كانت الأولى فلا مشكلة، وأما إن كانت الثانية فمعنى ذلك أنه قد تبنى فى كتاب “تحرير المرأة” آراء يؤمن بعكسها، ومع ذلك يدافع عنها ويعرض نفسه للانتقاد والإحراج العنيف جراءها. وهذا أمر لا يدخل العقل. على أن قاسم أمين قد ابتعد خطوة أخرى بل خطوات فى كتابه: “المرأة الجديدة” بعد ذلك، فهل ينبغى أن نبحث لهذا الكتاب أيضا عن مؤلف غير قاسم فنقول مثلا إنه هو دوق داركور نفسه؟
إن د. عمارة يرى أن السنوات الأربع التى تفصل بين “المصريون” و”تحرير المرأة” غير كافية لوقوع مثل هذا التحول. فما رأيه فى أن التحول الجديد الذى فى “المرأة الجديدة” لم يستغرق إلا ربع هذه المدة؟ ثم إن الإنسان قد يتحول فيما هو أخطر من ذلك فى أقل من هذا الوقت كثيرا. ألم يكن عمر بن الخطاب فى طريقه إلى قتل الرسول عليه السلام فى دار الأرقم بعدما ضرب أخته وبرك على صدر ختنه وآذاه أذى شديدا لدخولهما فى الإسلام، لينتهى أمره بإعلان الإيمان بالدين الجديد بعد دقائق؟ ألم يتحول حمزة من اللامبالاة بالإسلام إلى الإيمان به عقب علمه أن ابا جهل قد اعتدى على ابن أخيه؟ ألم يرتد عبد الله بن أبى السرح فى مكة إلى الكفر بعد أن كان يكتب الوحى للرسول عليه السلام، وإن كان قد عاد بعد هذا إلى الإسلام عند فتح مكة وثبت عليه إلى آخر حياته؟ ومثله فى الارتداد ثم الرجوع إلى الإيمان طلحة بن خويلد، الذى حسن إسلامه ومات شهيدا فى فتوح الإسلام أيام الصديق. وقد وقع هذا كله فى أشهر معدودات. والأمثلة المشابهة كثيرة.
ثم لا ننس أن قاسم أمين فى كتابه: “المصريون” كان يدفع هجوم دوق داركور على دينه وشعبه ووطنه، والدفاع من طبيعته التبرير. ويبدو لى أن كتاب الدوق الفرنسى ورد قاسم عليه هما اللذان دفعاه إلى دراسة ما أثاره الدوق من قضايا دراسة متعمقة بعد ذلك أدت به إلى أن تكون له آراؤه الخاصة التى تبلورت فى السنوات الأربع التالية.
هذه حجج د. عمارة، وهذه ردودنا عليها سقناها بهدوء شديد. ورغم أنى مقتنع جدا بما قلته فإنى لا أستطيع الجزم بشىء، بل أكتفى بالقول بأن هذا هو ما أقتنع به. والله أعلى وأعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى