تحقيقات

نجاح الهيئة المستقلة لمكافحة الفساد في هونغ كونغ

ياي تشين   (Yi Chen)خبير في شؤون منطقة هونغ كونغ

جهاز مستقل لمكافحة الفساد:

مرت منطقة هونغ كونغ في ستينات وسبعينات القرن الماضي بتقلبات سريعة ساعدت إلى توسع سكاني وانتشار الصناعات التحويلية، وساهم في تسريع العجلة الاجتماعية والاقتصادية. حاولت الحكومة (المتمثلة بالحكم البريطاني في آخر عقدين له من الحكم) على موازنة وتيرة النظام الاجتماعي والاقتصادي وتقديم الضروريات الأساسية في الإسكان وغيرها من الخدمات، اضافةً لسعيها تلبية الاحتياجات المهمة للمواطنين، ليس حباً بهم وإنما خشيةً على مصالحها أولاً وأخيراً من انفلات الأمن لكثرة الاحتجاجات المناهضة للحكومة. وبدأت بعدها مبادرة الحكومة في التخطيط لانشاء جهاز يختص بثلاثة أولويات على قائمة شروط النهوض بالمجتمع وتمحورت في إنقاذ القانون والتعليم المجتمعي ومكافحة الفساد.

واعتمدت الحكومة آنذاك إنشاء جهاز حكومي مستقل وصارم لمواجهة خطر مشكلة الفساد واقتلاعه، أسمته (ICAC).

هيئة مستقلة عن كافة الأجهزة الحكومية

تبنت الحكومة في عام 1974 إنشاء “اللجنة المستقلة لمكافحة الفساد” (Independent Commission Against Corruption) أو ما يعرف اختصاراً (ICAC). تذكر التقارير أن الفساد كان قد تفشى في المجتمع إلى حد عميق وتوسعت البيئة الخصبة لعديمي الضمير وغياب القانون لدرجة أنه إذا طلب المواطن سيارة إسعاف لنقل مصاب على وشك الموت، يطلب سائق الإسعاف “إكرامية” ويدخل المصاب إلى المستشفى وكذلك يطلب منه دفع “إكرامية أخرى” قُبيل إعطاء غطاء سرير أو كوب الماء. كان تقديم الرشاوي للمسؤولين أمراً إعتيادياً في كافة المجالات وصلت للشرطة الفاسدة ذاتها، تحولت مهام الشرطة حماية أماكن الدعارة وبيع المخدرات وصالات القمار المحظورة، وتذمر الشعب وقاموا بمظاهرات  كان نتيجتها قرع ناقوس الخطر وأصبح من الضروري للحكومة العمل على ردة فعل.

ردة الفعل

قام المواطنون بمظاهرات عارمة نتيجة سرقة أحد كبار مافيا الفساد (انكليزي) يدعى السيد/ (Godber) مبالغ مالية وتمكنه من الهروب إلى بريطانيا، طالبت المظاهرات العارمة حكومة المنطقة بإنشاء هيئة منفصلة تماماً عن الشرطة التي الحامي للعصابات والفساد المالي وغيرها. وأنشأت الحكومة هذه اللجنة يقودها رجال من ذوي الرتب العالية والمكانة المرموقة في المجتمع يمكنها تكريس كل وقتها للقضاء على هذا السرطان وانتشاله. ترافق دعم الجماهير في إنشاء تلك الهيئة المنفصلة عن أي إدارة حكومية، بما فيها الشرطة والسياسيين أو كبار الموظفين.  

ولكي تثبت الحكومة عزم نيتها، قامت بأول محاكمة عادلة عام 1975، وتم استدعاء مافيا الاجرام جودبر (Godber) وهو أحد كبار المافيا والمرتشين من بريطانيا وتسليمه للعدالة وتجريمه والحكم عليه أربعة أعوام بالسجن مع كل من شاركه لتكون هذه القضية التاريخية الأولى التي بدأت اللجنة قصتها ضد الفساد وبداية ثقة المواطنين مع هذه اللجنة.

ثقة وبناء وجني ثمار

اعتمدت اللجنة على دعائم أولها الاستقلالية التامة وحماية القضاة والمحققين ورجال الأمن من أي عمل انتقامي، كما عملت على انتقاء طاقمها والعاملين بها ليكونوا من خيرة المتقدمين وإعطائهم رواتب وميزات مالية جيدة.

ساهم العمل الجاد لـ (ICAC) على بناء الثقة بين المواطن والحكومة مما هيئة البيئة المناسبة لجذب الاستثمارات والشركات وتم إنشاء سلطة النقد (المماثلة للمصرف المركزي بأي دولة) وهذا الجهاز مَّكن هونغ كونغ لأن تصبح ثالث أكبر مركز مالي في العالم –بعد نيويورك ولندن، ولا تزال هونغ كونغ تحتفظ بهذا الترتيب حتى يومنا هذا.

أعطت هذه التجربة منطقة هونغ كونغ تعطي ثمارها منذ الوهلة الأولى وتسارعت الدول الراغبة بمكافحة الفساد إلى إرسال وفودها وتستدعي المدراء السابقين لمؤسسيها، وساعد الخبراء فيها العديد من حكومات دول العالم على إنشاء ورش وفعاليات مع دعم لتلك الدول، وتولى المدراء السابقين للهيئة مراكز عالمية منها إدارة مشاريع مكافحة الفساد في المصارف الدولية مثل (World Bank) ومصرف التنمية الآسيوي، والمفوضية الأوروبية، ومؤسسة آسيا وغيرها من المناصب العالمية على سبيل المثال لا الحصر.

وتحولت منطقة هونغ كونغ إلى مركز عالمي لحل النزاعات الدولية وحل النزاعات بين الشركات الكبرى العالمية، كما ساهم القانون القضائي في وضع منطقة هونغ كونغ بالمراتب الأولى في العديد من الاعتبارات مثل؛ المكان الأكثر ستقراراً للشركات، والمدينة الأكثر جاذبية للاستثمار، وسوق الأسهم الأكثر رواجاً واستقراراً، وأصبح الدولار المحلي هو الأقوى في المنطق إذ يرتبط بسعر صرف شبه ثابت مع الدولار الأمريكي وغيرها من الميزات التي استفادت هونغ كونغ حكومة وشعباً من هذه اللجنة المستقلة لمكافحة الفساد.

دروس للصين

يعتبر النجاح الذي قامت به لجنة (ICBC) بمثابة نموذج للبر الصيني، والذي يتبع إلى حد كبير استراتيجية (ICBC) ثلاثية المحاور للردع والوقاية والتعليم. ولكن ثمة فرق، إذ أنه في الصين لا يمكن فصل الحزب عن الحكومة، وبالتالي هناك العديد من المنظمات الحكومية والحزبية المسؤولة عن مكافحة الفساد، وكذلك على المستويات المتعددة –الإقليمية والمدنية والريفية. وللإنصاف نستطيع القول بأن تفشي الفساد في الصين توقف عن نموه بل وتراجع كثيراً في السنوات العشرة الأخيرة، وذلك ضمن حزمة قرارات وقوانين رادعة تطبقها أدت إلى مجتمع أكثر شفافية وأمناً.

تحديات

على الرغم من نجاح تجربة مكافحة الفساد، عانت اللجنة في بدايتها من فقدان  الكثير من كوادرها في حملات تصفية من قبل المافيا المنظمة والتي ساعدت اللجنة القضاء عليها، كما بذلت اللجنة الكثير من الجهد والمال ودراسات مكثفة للوصول إلى مرحلة التنفيذ. ولا زالت جهات عديدة ومنها الإعلام الموجه من بعض الدول يحاول التقليل من أهمية هذا الجهاز المستقل. إلا أنه وبالرغم من ذلك وجدت اللجنة في الفترة الأخيرة أن استقلاليتها موضوع تساؤل وخاصة في المسائل المتعلقة بالقضايا المرتبطة بالأمور الدولية أو ما تعارض مع الحكومة المركزية في الصين، إذ فرضت الصين قانون الأمن القومي على منطقة هونغ كونغ، وهذا القانون يقيد استقلالية اللجنة، ناهيك عن تقييد كافة المؤسسسات الحكومية. وبالرغم من ذلك، يصر المؤسسين على أن مزاعم التدخل السياسي في (ICAC) لا أساس لها من الصحة (وكان المقصود هنا تدخل الحكومة المركزية في بكين)

، إذ يوجد نظام فعال للغاية من الضوابط والتوازنات مع اللجان المستقلة التي تراقب كافة جوانب عمل الهيئة، وفي حال سيطرت التدخلات الصينية في هذه اللجنة فسوف يؤدي إلى تصدع اللجنة وإعادة تفشي الفساد في المنطقة مرة أخرى وفقدان هونغ كونغ للمراكز المتقدمة التي اكتسبتها عالمياً.

وتحتل هونغ كونغ المرتبة السادسة عالمياً الأقل فساداً متعادلةً مع كلٍ من كندا واستراليا في آخر بيان لعام 2020. وبالمقارنة تتربع كلاً من الصومال واليمن وسورية في مؤخرة الترتيب العالمي لمكافحة الفساد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى