ثقافة وأدب

جوهر الفن

الأستاذ خالد درويش
فنان تشكيلي

جوهر الفن
إنّ من أكثر الأسئلة التي توجّه للفنان ماذا تعني هذه اللوحة؟ وما المقصود منها؟ مع احتفاظ السائل بمعلومات ألف باء عن اللون ورمزيته العامة. كاللون الأحمر في رمزيته للحب والثورة أو الأسود للحزن والكآبة أو الأزرق للصفاء والراحة متخطياً الدرجات اللونية فكل درجات الأحمر هي واحدة وكذلك باقي الألوان وهذا دلالة على اضمحلال الثقافة الفنية. فالصورة المفهومة للمتلقي هي العمل الجميل وإن تجرّدت الصورة من خصائصها الشكلية إلى خطوط أو بقع لونية فهي شخبطة. ففي ظل هذا النقص في الثقافة الفنية لدى المتلقي العادي تبقى الأعمال الفنية المنتمية للمدارس الكلاسيكية والواقعية والانطباعية الأقرب لدى المشاهد العادي ويثيره فن الغرافيتي الرسم الجداري أو فن الأرصفة، أما الرمزية والتجريدية والسريالية رغم إثارتها لتفكيره وتساؤله والتحريض المعرفي لديه فهي لمنظومة المثقفين فنياً.
إن الاستماع لموسيقا أغنية مرتبط بكلمات الأغنية؛ أي بموضوعها الأساسي كلغة ثانية ولا يمكن الفصل بينهما أغلب الأحيان وقد يؤدي الفصل لتشويه العمل الفني.
أما الاستماع لموسيقا كلغة أحادية بدون كلمات فهي تبقي الباب مشرعاً أمام خيال المستمع وتدفق مشاعره وأحاسيسه ليحلق كل مستمع في فضائه الخاص المختلف عن الآخر.
كذلك الأعمال الفنية ذات التبقيع اللوني أو الكتلة المنحوتة المجردة عن الصورة المألوفة . وهذا التوصيف إن جُرِّد أيضاً من مفهومه العام أعطى صورة غير صحيحة لكثير من الأعمال كما يفعل ذوو أنصاف المواهب الفنية. فليس كل عمل فني لم يفهم هو مجرّد تبقيع لوني وبدون موضوع. فالعمل الفني الأكاديمي كل نقطة فيه أو خط أو شكل هندسي أو دوائر لها دلالاتها. حيث تُظهر المستطيلات والمربعات الاستقرار والقوة . أما الأشكال الدائرية والبيضاوية تمثل الحركة المستمرة وعلامات للخصب. والمثلث المقلوب يعطي شعوراً بالتوتر وعدم الاتزان . وكذلك اللون فهو العنصر الأقوى في إظهار الحركة أو الانسجام أو المزاج أو الأسلوب. وكذلك الفراغ الذي يعطي الشعور بالعمق وباقي الأبعاد.
إن فهم اللوحات وقراءاتها ليس بالأمر الصعب، وليس عملاً رياضياً أو علمياً بحتاً. فالفن لا توجد له قاعدة مكتوبة له كالقواعد العلمية.
الفن يتجاهل الحقائق بل يتجاهلها عمداً؛ لأنه يبحث عن الصدق في الأشياء؛ لذلك نجد الفن التجريدي يميل إلى حذف كل شبه بالعالم الخارجي معطياً للشكل واللون معنىً روحياً.
وفي هذا السياق يقول علي عزت بيجو فيتش في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب): “إن جوهر الأعمال الفنية غامض غموض المعتقدات القلبية وغموض الحس الداخلي بالحرية، ولقد باءت جميع المحاولات لتعريف جوهر الفن تعريفاً عقلياً بالفشل”.
إن ما أنتجته التكنولوجيا الحديثة من تطور للصورة ومن دقة لن يكون بديلاً عن اللوحة الفنية للفنان الذي يرسم أو ينحت بيده. فاللوحة الفنية هي انعكاس روح الفنان وشخصه ووجدانه وأحاسيسه كإنسان وليس كآلة. لذلك يكون العمل الفني أصدق من الصورة الفوتوغرافية التي يمكن تكرارها إلى ما لانهاية. أما اللوحة الفنية فلا يمكن تكرارها فما صُبغ بلون الفنان أو تشكل بصلصاله فهو مشاعره ووجدانه لايمكن لآلة أو ناسخ الوصول إلى تلك الحالة. ولايمكن أن تتكرر عند الفنان ذاته وكل منسوخ في الفن قبيح. فالآلة تنقل الواقع والفنان يعبر عنه بجمالية، وقد يستنبط من القبح جمالاً.

أهمية الفن وأثره في المجتمع والدين

إن الأثر الحميد يبدو واضحا في سلوكيات الفرد والمجتمعات إثر تعرضه للجماليات الفنية . ودور الانشطة الفنية الاجتماعية كان له تهذيب في السلوكيات الفردية وزيادة الثقة بالنفس. فمن خلال الفن يعبر الإنسان عن نفسه ويتفاعل مع محيطه ويحسن مداركه ويزيد من تواصله مع المجتمع ويحسن المهارات اللغوية والقدرة المعرفية وينمو تذوقه الجمالي.
كما أنه يخلق فرصاً اقتصادية وإن كانت ضئيلة في مجتمعاتنا قياساً بالمجتمعات الغربية. كما أن الفن يخفف التوتر والإجهاد ويجعل الإنسان مُقدراً لذاته من خلال القيم الإيجابية التي يرسخها الفن في المجتمعات. والشعور بالحرية. ويهذب النفس البشرية ويجعلها أكثر مقدرة على التسامح والسلام مع المجتمعات المختلفة عرقياً أو إثنياً أودينياً. ويقوي علاقة التلاقح الفكري فيما بينها، هذا أثر الفن. أما عملية الإبداع الفني فتبقى مرتبطة بالفنان ولامجال لفرق العمل أو التجمعات بإنتاج عمل فني .
غاية الفن والدين هي الإنسانية وتعزيز القيم الأخلاقية والسلوكيات الحميدة .
إن مانراه من فن العمارة للمساجد والكنائس والمعابد و الخط والزخرفة والفسيفساء والمنمنمات واللوحات والتماثيل والأقنعة والإنشاد والجوقات والرقصات هو رابط مازال مستمراً في خدمة الفن للدين. وإن إحدى سمات الفن روحه الصوفية النقية. ومازال معارضي ارتباط الفن بالدين يرتادون أماكن العبادة التي يبدعها الفنان مندهشين من الجمال والإبداع الفني ومحل اهتمام السائح الباحث عن المعرفة والجمال والمتعة والترويح عن النفس.
ما أصاب بعض منظري الدين في عدائهم وتحريماتهم المطلقة للفن ماهو إلا جهل معرفي في المقاصد . كما إن استخدام تقنية الفن بشكل غير سوي للمبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية هو تقبيح لجوهر الفن وغاياته الانسانية.
الفنان التشكيلي والناقد
خالد درويش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى