تحقيقات

انتصار طالبان وبصمات سياسة قطرية

أنس حافظ

باحث وكاتب في العلاقات الاستراتيجية التركية العربية والدراسات العثمانية
عرض مقالات الكاتب

السياسة القطرية تخرج الاحتلال الأمريكي وتنسج انتصار الطالبان

ها هي قطر ومرةٌ أخرى تنجح دبلوماسيتها الهادئة أن تحقق انتصاراً سياسيا باهرا، في اتفاق (طالبان – أمريكا) نتج عنه انسحاب الأمريكي من أفغانستان أقل إذلالاً من انسحابها من فيتنام عام 1974، الذي سيكون له ما بعده على مستوى المنطقة والعالم كله، والذي يضيف إلى صفحات قطر راية بيضاء من رايات الاحتكام وحل المنازعات التي تعد الأصعب في العالم، وليست مجاملةً وصف قطر بعد اليوم بسويسرا الشرق، وقد تتراجع مكانة سويسرا الغرب وأهميتها كمنطقة محايدة يجتمع فيها الخصوم ليحلوا مشاكلهم برعاية أممية لحساب قطر

     تجاوزت قطر بخبرتها الدبلوماسية الرصينة أن تعدل سلوك الطالبان من التطرف إلى الاعتدال، ومن العنف إلى اللين واللطف، ومن التشدد القبلي إلى التسامح والعفو، ومن العسكرة والحرب إلى السياسة والمفاوضات، ومن رجال حرب ودين إلى رجال إعمار دنيا وقيادة أمة، وبناء دولة مؤسسات واستقرار وأمن وتنمية واقتصاد وتطور وتقدم وتقنية عالية وانفتاح على العالم، وتلك وربي معجزة كبيرة في عصر قلت فيه المعجزات أو انعدمت.

وسجل لقطر احتضانها للمقاتلين الأفغان منذ 11عاماً وبذكاء وتنقل الطالبان من الكهوف الموحشة، والأنفاق المظلمة، وبيئة العقول المحفوظة منذ الانقلاب على محمد ظاهر شاه إلى الفنادق الفارهة، والسيارات الحديثة، والقاعات المزخرفة، والطاولات المستطيلة والمستديرة، ودرب القطريون الأخوة الأفغان على المزايدات السياسة والحوار وخاصة مع أدهى أعداء العصر الحالي بلغة العقل والمنطق والحجة والدليل، والدفاع عن الحق بالكلمة الهادئة، والمفاوضات العاقلة، بدل لغة الرصاص والقتل والدماء والدمار والخطف. ولا نبالغ لو ذكرنا أن قطر مثلت الدور الأبوي لهذه الحركة، وساندتها لتكون لها مرجعية صادقة، ليست على الورق بل من خلال إطار قضية إسلامية عادلة، وهذه البصمات للسياسة القطرية تنتصر في يد طالبان اليوم.    

يئس شعب أمريكا كان قد يئست من إلهامات بوش الربانية، وإيحاءاته الشيطانية، وحروبه الصليبية، ومغامراته العدوانية، ونزعاته التوسعية، وعقيدته الحربية العسكرية؛ التي كلفت أمريكا مئات المليارات من الدولارات، وآلاف القتلى من الجنود، وأنهكت الاقتصاد والجيش والشعب، وساعدت في انتشار الروح العدوانية في قلب بلاده، وازدهار الجريمة المسلحة المنظمة منها والخفية، وتراجعت مكانة البلاد تراجعا كبيرا، لحساب الصين الصاعد بقوة ، والروس الذين يحاولون العودة إلى الساحة على حساب التراجع الأمريكي المطّرد ظناً منهم بدراية التضاريس، ولم تعد أمريكا القوة الوحيدة المتحكمة بالعالم كما كانت قبل بوش وبارجاته على سواحل بحر العرب، إلا أنها ولحفظ ما الوجه بغطاء يجنبهم تكرار ذل فيتنام؛ لتأتي قطر بالحنكة المرنة وتسحب أو تنتشل قواعد ورجال الكابوي بأقل الخسائر، وللمفارقة عن الهرولة من فيتنام وخطابات الانسحاب التكتيكي للرئيس ريتشارد نيكسون وقتها، يخرج لنا الرئيس بايدن بخطابه مماثل معلناً الهزيمة، مرغماً معها عدم التطرق بكلمة واحدة ضد أيٍ من مقاتلي طالبان، أو حركتهم أو نعتهم بالإرهاب كما جرت العادة في خطابات رؤساء أمريكا المتعاقبين. واضطر الرئيس بايدن احترامهم لأنهم مقاتلين رجال وأصحاب حق. كان لا بد لهم من ترك الشعب الأفغاني، ولم تستطع حكومات أمريكا وضع الطالبان تحت لائحة الإرهاب. ربما صياغاً لنصائح قطرية، والتي لولاها لم يجلس طالبان معهم أبداً. ومؤخراً شكر الرئيس بايدن الجهود القطرية والأميرية التي بذلتها الحكومة لإنجاح الانسحاب وتأمين القاعدة الأمريكية في قطر لاستقبال المرافقين المتعاونين مع الجيش الامريكي ومن ثم نقلهم إلى جهات أخرى. وبرأي سطرت قطر اسمها بأعلى اللوائح للدول الراعية لاحتواء النزاعات الدولية المستعصية للعقود القادمة من هذا القرن.

كان على بايدن وسبقه ترامب أن يتخذ أحدهم القرار الصعب بعد أن نقلت لهم مخابراتهم تقاريرها الموثقة باستحالة الانتصار على طالبان والقضاء عليها؛ كون مقاتلي طالبان حركة تحرر وطني مؤمنة مخلصة لقضيتها ولا سبيل لها سوى المقاومة مدفوعة بأجيال وراء أجيال، وكافة أطياف الشعب الأفغاني يلتف حولها، والطبقة السياسية الأفغانية فاسدة ضعيفة هزيلة لا خير فيها مثلها مثل كل السياسيين الذين يصنعهم الأجنبي ويستخدمهم لحسابه خلال حكومات الرؤساء الأمريكان الأربعة، وغطرستهم في شؤون الوطن العربي والعالم الإسلامي على حساب وطنه وشعبه ودينه وعقيدته وأمته، وأن أفغانستان مقبلة على ربيع جديد كما كان الربيع العربي، وكما حصل في أمريكا اللاتينية عندما سقط كافة عملاء أمريكا، وقبلهم في أوروبا الشرقية وتفكك الاتحاد الجمهوريات السوفيتية.

    لقد باتت أمريكا في مأزق خطير؛ مهددة بالتفكك والتراجع والانهيار، وما عليها إلا أن تتخذ القرار الصعب، وتجلس إلى طاولة المفاوضات وجها لوجه مع الملا عبد الحفيظ الأفغاني ومجموعة الشيوخ والملالي بلباسهم التقليدي، وهيكلهم وشكلهم الإسلامي ودون منصات العلم الأمريكي أو علم حكومة شريف غني، وقد حصل ذلك في قطر بفضل جهود الدبلوماسية القطرية الحكيمة الرصينة.

          وشاهد العالم بأسره احتفال الشعب الأفغاني في دومينو استحواذه على المدن والولايات الأفغانية واحدة تلوى الأخرى بدون عنف، بل وترحيب. ربما لم يكن هذا الانسحاب السلس ليكون دون براعة السياسة في قطر، وكيف لا ولقطر شعب عربي مسلم اعتاد أبنائه على التواضع والصدق وقاموا بحل نزاع دموي معقد غير متوازن القوى، من جهة؛ مجاهدين أشداء رغم بداوتهم وفقرهم وشح إمكاناتهم بعيدون عن الترف بمواجهة جيش جلب معه قوات تحالف الناتو المتمثلة بأقوى جيوش العالم التقنية والإعلام والمال.

بحنكتها أنقذت أمريكا وتخرجها من مأزقها الخطير الذي أوقعت نفسها ومعها أوروبا فيه، أمريكا مُدِينةً لقطر وسياستها، وكذلك إخواننا في أفغانستان اختاروا قطر كراعٍ لأكبر ملف في تاريخ أفغانستان منذ الفتح الاسلامي للدولة الساسانية، واختار حكمائهم في الخارج الدوحة كقاعدة دبلوماسية لهم ومقر التفاوض.

قطر احتضنت الطالبان من قمم الجبال إلى دوحة العمران، واحتفت فيهم بكل تآخي، ومكنتهم من استلام بلادهم بدون خسائر بشرية، لينعم أجيال أفغانستان بالأمن والبناء والتقدم والتطور والحداثة والفكر والعلم والانفتاح على العالم كله، والمساهمة في حقن الدماء، وإعادة البناء، وإشباع الناس، والحفاظ على الرونق القبلي ونهجها السياسي الذي قامت من أجله الحركة منذ ثلاثة عقود، وإسعاد البشر بعيداً عن رائحة البارود.

  مدت قطر جسور الأخوة معها، واقترحت تعديل سلوك اخوتنا، وتغيير نهجهم والحفاظ على نخوتهم وعزهم بشعبهم، وبدء عهد جديد؛ مبني على أساس من المصالح المتبادلة، والتعاون المشترك، والاتفاقيات المعلنة منها والسرية التي في ظني أنها ستصب في مصلحة الشعوب الإسلامية.

      لقد تحولت طالبان بفضل الجهد والمنظومة القطرية من منظمة إرهابية ملاحقة من قبل العالم كله، إلى حركة تحرر وطني مقبول في المجتمع الدولي كله، وسيكون لها مقعدها في هيئة الأمم، ومكانها في المنظمات العالمية، ومكانتها بين شعوب العالم كَشعب كافح وناضل وثبت وتحمل وكافح واجتهد حتى نال حريته واستقلاله، وحقق انتصاره الحلم على أكبر قوة في العالم، وأعظم دولة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945.

          يتستلم طالبان البلاد، وبكل رقي وحضاري ويتسلم قياداتها أنبل ممثلي العشائر والقبائل الأفغانية، في الوقت الذي ترك الموظفون الأفغان الذين هيئتهم العسكرة الأمريكية على قمع طالبان، تركوا منصاتهم ومحالهم وثكناتهم العسكرية ومراكزهم القتالية هكذا دون أي مقاومة أو تخريب أو نهب. استلم أفراد طالبان مقرات الحكومة المركزية في كابل ودخلوا القصر الرئاسي دون أن يمس أحدهم بخدش أيٍ من أثاث البناء أو تسجيل حالة سرقة. تسلم أشاوس الطالبان البلاد ولم يكن يرتدي أحداً منهم بسطال عسكري واحد، كل صورة رأيتها، كان المسلحين يرتدون الملابس المهترئة، لم تغرهم فخامة القصور التي شيدها المحتل الأمريكي. وعلى ذكر التركة الأمريكية، لم تبنى مدرسةُ واحدة ولا مشافي، بل بقي التعليم في العراء ويفتقر على أبسط سبل التدريس.

     يتمتع الأفغان بثقافة الشعبٌ الراقي، ذو عقيدة عجز الغزاة عن الاستمرار باخضاعها. حاولت أمريكا، وقبلها شيوعيو موسكو وسبقهم الإنكليز والصينيون والمغول. كلهم عجزوا عن تفكيك الأفغان. فقط كان للإسلام دخولٌ سلس على عرقياتهم، وحل أهلاً على ثقافتهم وأسلم شعبهم في معركةٍ واحدة زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سميت معركة نهاوند عام 21 للهجرة بقيادة النعمان بن مقرن، وسجل هذا الفتح العظيم أروع فتوحاته التاريخية.

          هذا الانتصار لحركة طالبان في يومنا هذا يدون في التاريخ انتصارًا لكل الشعوب المظلومة المضطهدة المقهورة المنهوبة المسلوبة، وكان درسا بليغا، وإنه سيكون رافعة لكل من يريد أن يعمل لحرية وطنه، وكرامة شعبه، وهاديا لكل ثائر حر شريف؛ مؤمن بعدالة قضيته، ومستعد للتضحية من أجلها، والمطاولة والثبات والتمسك بالحقوق وعدم التفريط بها، وعدم الارتهان للأجنبي، والتسول والارتزاق على أعتابه، والعمالة والخيانة والتآمر على شعبه وأمته ووطنه ودينه.

هذا الانتصار الطالباني جلب تعاطف كافة الشعوب المقهورة والإسلامية والعربية خاصة، كما وغيّر وسيغير الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، إذا لم نقول أنه غير استراتيجية أي محتل وغازٍ لشعب مسالم اتهم ظلماً بأحداث الحادي عشر من أيلول او سبتمبر، وسيكون عاملًا مساعدًا مهما في المنطقة على تحرر الشعوب العربية من وطأة حكامها المدعومين أمريكيا، ودافعا للشعوب العربية ولاسيما الثوار منهم للتمسك بثوابتهم وحقوقهم، وعدم التفريط بها لحساب حاكم خائن عميل جبان مستبد قاتل ظالم، وتعرية للمعارضات السياسية الفاشلة المنافقة المستسلمة الرخيصة، والقادة العسكريين الذين تحولوا إلى أمراء حرب على طريقة دوستم وغني ومن شاكلهم من الخونة الأفغان أو تابعيهم.

      ولماذا قطر؟  لأنها أثبت أنها ليست دولة غاز ونفط، بل لأنها استثمرت خلال العقدين الأخيرين في بناء شعبها وبناء الإنسان وشاهدٌ على ذلك المعاهد والجامعات العالمية لتعليم السياسة، وأجزم على أنه ستكون المحور السياسي والركن الذي يُرتكز عليه، وأصبح المرء القطري في طليعة النخب العربية المثقفة، على غرار بلدانٍ مجاورة بنت المباني العالية وأبدعت بجذب المستثمرين ذوي السمعة المشبوهة وركزت على تجنيد الذباب السيبراني واحترفت نصب المكائد واحتلال الموانئ.

حفظ الله قطر؛ قيادةً وشعبًا ووطنًا عزيزًا، وسدد خطاها، ووفقها لما هو قادم من انتصارات سياسية دبلوماسية؛ إقليميًا وعالميًا وأهم عربيًا.

بزغ يوم جديد، وفتح جديد، وبداية تغير كبير ستشهده المنطقة إن شاء الله، ليس أقله زوال حكم الطاغية المجرم بشار أسد، ونظامه المهترئ المتهالك المصنف بوصف الميت سريرياً، ولو عقد ثوار الشام العزم وتوجهوا من الشمال الذي كان محررًا إلى دمشق؛ لدخلوها دون قتال. ندعو الله سبحانه وتعالى أن تبدأ مرحلة الانتصار لشعبنا المسلم، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.. وما ذلك على الله بعزيز..

US officials meet with Taliban leaders in Qatarإعداد: أنس حافظ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى