مقالات

عائلة ” الشاورما” والمحارق.. خمسون عاماً نزداد إجراماً..

الكاتبة

نحن أبناء الضحايا القدامى.. نحن أبناء الصمت والسجون والفجيعة.. تلك التي زاد “بلتها” صمتنا المزمن.. نحن الجيل الذي يشهد أكثر وأكثر على حجم الكارثة..       نحن أبناء المحارق والمشانق.. نحن المنتمون هناك، ولسنا منتمين إلى وطن على مقاس عائلة. سلخوه منا إليها, فانسلخنا نبحث عن هوية وطن خارج مسمى” سورية الأسد”، فكانت الثورة بعد خمسين عجاف.. فعاقبَنا العالمُ كلّه لأننا ثرنا على خادمهم وعلّقوا مشانقنا بدلاً من مشانقه.. واليوم, وكل يوم منذ عشر سنوات, بل منذ خمسين عاماً ونحن نعد للعالم تلك المحارق ومراسم تشييع الجثث..                                                          نحن المنحدرون من صخور الحضارات, لكننا لأزمنة طويلة قاسية مارسنا هشاشتنا أمام الاستبداد.  ولازال آل الأسد يحكمون بإرادة البعض، حتى يكاد البعض يصير كلاً، بل ويصير التطبيع مع “آل الأسد” بقيمة التطبيع مع إسرائيل عند العالم المسمى بهتاناً بالعالم الحر.. فيقبلك العالم ” القذر” إن طبَّعت مع آل الأسد, كما لو أن ذلك جواز عبور لتعلن  تطرّف الفساد في قلبك.. وعلى سيرة إسرائيل، فإننا نذكر جميعاً في بداية الثورة كيف ذكَّر آلُ الأسد العالمَ, وبواسطة رامي مخلوف, بالدين والولاء والوفاء، عندما قال ولم يكذب: (أمن سورية من أمن إسرائيل..) وليس ببعيد، وبعد عام يذكّر مندوب فرنسا في مجلس الأمن العالم برسالة “جد بشار”  لفرنسا التي لاتزال موجودة في عهدة الفرنسيين وأرشيف وزارة خارجيتهم، وثيقة  تشهد أيضاً كيف تم زرع العائلة هناك على أرض سورية لتكون العائلة الخادمة لعالم يخدمها الآن برد الجميل، والتذاكي على قلوبنا ووجداننا بأنهم حماة حقوق إنسان, تماماً كخديعة أن “حُماة الديار”  يحموننا من إسرائيل.. العدو النظري..!

يوماً ما وبعد “حَماة الدم”.. وكان السياسيون وقتها يعرفون ما حدث تماماً في حماة المحرقة, فمخابراتهم تعرف قبل الحدث.. آنذاك تطوع صحفي واحد ليخبر العالم ماذا حدث في حماة.. لكن جيلاً سوريا كاملاً كان يعرف، ثم فضّل الصمت. فالصمت خيار سهل ومتاح للحياة أمام خيار الموت لو نطق السوري..! اليوم وقبل عشر سنوات.. جيل سوري كامل دفع الفاتورة مضاعفة.. تضاف إليها فاتورة للصمت, ذلك الإرث الرهيب الذي تركه الأجداد لنا. إنهم معذورون حقاً.. ونحن الذين نعذرهم -لكن على مضص- لأننا عشنا ردة الفعل من حاكمنا، ومن العالم.. 

خمسون عاماً، كيف مرت.. ؟! أهكذا مرّت على مرأى الدنيا دون التفات..!؟

ومنها عشر سنوات من مأساة تزداد اشتعالاً كلما ظن العاقل أنها ستخبو، والسبب  أننا ظننا أنَّ العالم المتصالح مع حق الإنسان لن يسمح بمرور المزيد من الضحايا.. لكنه ظل يسمح وسيظل كذلك، حتى لو رأى بشار الأسد يجمع ما تبقى من سوريين ويعلقهم مثل ” سيخ” شاورما..! هذا العالم الذي أطال “أمده السيء” لنراه يتسكع فوق دمنا وكأنّ شيئاً لم يحصل. وكأنه ليس ابن ابيه, ذلك الذي ترك له إرث اللحم والدم.. وكأنه عندما أراد أن يمثل التواضع بانفصال رهيب عن الواقع اختار وجبة الشاورما التي تذكِّره بالدم والضحايا والأشلاء، و”أسياخ” التعذيب..                     ذات مرة في بداية الثورة قالت هيلاري كلينتون:( رأس النظام السوري إما مجنون أو منفصل عن الواقع..) رداً على تصريح قال فيه، (إنه لايعرف فيما إذا كان الجيش يقتل الشعب وأنه ليس مسؤولاً عن ذلك لو حدث..) هي صدقت، لكن فقط بهذا، فهم من سمح له أن يتمادى. وكلينتون وقتها كانت وزيرة خارجية، وابنة عهد أوباما الوفي للمارقين، والذي أباح لبشار وإيران التوغل في دمنا دون أن يكترث. وهم أبناء السياسة الأمريكية الملتوية المتساهلة مع المارقين الذين يخدمون مصالح أمريكا والغرب، ثم بقليل من التنديد يحاولون التذاكي علينا بشعارات حقوق الانسان.. وعلى سيرة الشاورما, فإن الشاورما والسياسة لاتجتمعان معاً.. لكن “سندويشة الشاورما” صارت حلماً آخرَ لأحلام السوريين الحائرة. فالأحلام لها نقلة نوعية في حياة السوريين. فأنت في مزرعة آل الأسد أو (عائلة الشاورما) تنتقل من حلم كبير إلى صغير.. والمفروض أن يكون العكس. فأنت تنتقل من وطن إلى أنقاض وطن.. ومن بيت يسمونه “شقى العمر” إلى خيمة لايتسلل منها المطر ولاتنال منها الريح.. ومن صاحب نعمة إلى حالم  بثمن “سندويشة” للشاورما..                  بل وتصير “ربطة” الخبز أكبر الأحلام.. ثم يأتي الطاغية ليقسم فوق كل ذاك الدم، وينهي قسمه بحفلة الشاورما.. وكأنه يقول: (خمسون عاماً نزداد إجراماً)..                  

وليس خطاب القسم بغريب ولا مسرحية التواصل الشعبي المرتبة بهوى استخباراتي أو أمني.. وكأننا لانعرف إن مر ظل الطاغية المجرم في الحلم على ضيعة سورية يتم إفراغها من أهلها، هذا إن لم تتم تصفيتهم..

في سورية يحدث ذلك.. في سورية قوات الأمن لاترتبط بالأمن بقدر ما ترتبط بذلك الوحش الذي جعل الإنسان السوري يشك بجدران منزله..

نحن وعائلة الشاورما لنا حكاية مختلفة بدأت قبل عقود طويلة, ربما قبل اختراع الشاورما نفسها تلك التي اعتمدتها العائلة لتبرهن تواضعها مع نبض الشارع وفقره وحاجاته وصموده.. !  

خمسون عاماً نحسبها بالدقائق.. نحسبها ونحن نعد الضحايا.. ونشم من بعيد رائحة أجساد تعلقت ليولد وطن حر..  

أشياء تشبه مسالخ الموت وتشبه سورية تلك التي حوّلها آل الأسد إلى سجن للموت والدم والخراب.. 

سورية الحياة.. وأول أبجدية وأول إنسان بنى حجراً.. تبحث اليوم عمن يبني إنسانها وحجرها..

تبحث عنا.. نحن الهاربون منها وإليها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى