مقالات

انتصار طالبان، انتصار للدبلوماسية القطرية

أ. د. عبد المجيد الحميدي الويس

سياسي وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

      استطاعت الدبلوماسية القطرية الهادئة أن تحقق انتصارا سياسيا باهرا، في اتفاق (أمريكا – طالبان) على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي سيكون له ما بعده على مستوى المنطقة والعالم كله، وستصبح قطر بعد اليوم سويسرا الشرق، وقد تتراجع مكانة سويسرا الغرب وأهميتها كمنطقة محايدة يجتمع فيها الخصوم ليحلوا مشاكلهم برعاية أممية لحساب قطر، وهذا شيء يفرح الصديق، ويغيظ العدا الذين تفرغوا للكيد لقطر، وجندوا أنفسهم وأموالهم لمحاربة الربيع العربي، ونشر الفوضى والفتن والمكائد والدسائس لقطر وللربيع العربي ولكل ما يسيء لأمة العرب والمسلمين، ويدعم أنظمة الاستبداد وعصابات الجريمة المنظمة، وأفلحوا في التطبيع مع الكيان الصهيوني على حساب فلسطين والقدس وحقوق الشعب الفلسطيني.

     استطاعت قطر بدبلوماسيتها الرصينة الهادئة أن تعدل سلوك الطالبان من التطرف إلى الاعتدال، ومن العنف إلى اللين واللطف، ومن التشدد إلى التسامح والعفو، ومن العسكرة والحرب إلى السياسة والمفاوضات، ومن رجال حرب ودين إلى رجال إعمار دنيا، وبناء دولة واستقرار وأمن وتنمية واقتصاد وتطور وتقدم وتكنولوجيا وانفتاح على العالم، وتلك وربي معجزة كبيرة في عصر قلت فيه المعجزات أو انعدمت.

    استطاعت قطر أن تخرج الطالبان من الكهوف الموحشة، والأنفاق المظلمة، والعقول المغلقة، إلى الفنادق الفارهة، والسيارات الحديثة، والقاعات المزخرفة، والطاولات المستطيلة المستديرة،  إلى الحوار مع العدو بلغة العقل والمنطق والحجة والدليل، والدفاع عن الحق بالكلمة الهادئة، والمفاوضات العاقلة، بدل الحوار بالرصاص والقتل والدماء والدمار.

    كانت أمريكا قد يئست من إلهامات بوش الربانية، وإيحاءاته الشيطانية، وحروبه الصليبية، ومغامراته العدوانية، ونزعاته التوسعية، وعقيدته الحربية العسكرية؛ التي كلفت أمريكا مئآت المليارات من الدولارات، وآلاف القتلى من الجنود، وأنهكت الاقتصاد والجيش والشعب، وساعدت في انتشار الروح العدوانية في قلب أمريكا، وازدهار الجريمة المسلحة المنظمة فيها، وتراجعت مكانة أمريكا تراجعا كبيرا، لحساب الصين الصاعد بقوة وسرعة، والروس الذين يحاولون العودة إلى الساحة على حساب التراجع الأمريكي المطّرد، ولم تعد أمريكا القوة الوحيدة المتحكمة بالعالم كما كانت قبل بوش.

    كان على بايدن أن يتخذ القرار الصعب بعد أن نقلت له مخابراته تقاريرها الموثقة باستحالة الانتصار على طالبان والقضاء عليها؛ لأنها حركة تحرر وطني مؤمنة مخلصة لقضيتها، والشعب الأفغاني يلتف حولها، والطبقة السياسية الأفغانية فاسدة ضعيفة هزيلة لا خير فيها مثلها مثل كل السياسيين الذين يصنعهم الأجنبي ويستخدمهم لحسابه في الوطن العربي والعالم الإسلامي على حساب وطنه وشعبه ودينه وعقيدته وأمته، وأن أفغانستان مقبلة على ربيع جديد كما كان الربيع العربي، وكما حصل في أمريكا اللاتينية عندما سقط كل عملاء أمريكا، وقبلهم في أوربا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفييتي.

    لقد باتت أمريكا في مأزق خطير؛ مهددة بالتفكك والتراجع والانهيار، وما عليها إلا أن تتخذ القرار الصعب، وتجلس إلى طاولة المفاوضات وجها لوجه مع الملا عبد الحفيظ الأفغاني ومجموعة الشيوخ والملالي بلباسهم التقليدي، وهيكلهم وشكلهم الإسلامي، وقد حصل ذلك في قطر بفضل جهود الدبلماسية القطرية الحكيمة الرصينة.

   استطاعت قطر أن تنقذ أمريكا وتخرجها من مأزقها الخطير الذي أوقعت نفسها ومعها أوربا فيه، واستطاعت أن تخرج الطالبان من قمقمهم وتريهم النور والحضارة والعمران وحلاوة الدنيا، وجمال اللقاء مع الآخر والتآخي ونبذ العنف، والتمتع بنسائم الحرية والسلام، والأمن والبناء والتقدم والتطور والحداثة والفكر والعلم والانفتاح على العالم كله، والمساهمة في حقن الدماء، وإعادة البناء، وإشباع الناس، وإسعاد البشر.

    خرجت أمريكا من أفغانستان بأقل الخسائر، وعوضت عن ذلك بكسب ود طالبان، ومد جسور الصداقة معها، وتعديل سلوكها، وتغيير نهجها، وتصحيح علاقتها بها، وبدء عهد جديد؛ مبني على أساس من المصالح المتبادلة، والتعاون المشترك، والاتفاقيات المعلنة والسرية التي في ظني أنها ستصب في مصلحة البلدين، مع محافظة طالبان على شكلها الإسلامي، وطابعها الديني، ونهجها السياسي الذي طرأ ويطرأ عليه التغير الإيجابي على مستوى الداخل والخارج، والاجتماعي والاقتصادي، مع المحافظة على الثوابت والمبادئ والأسس التي قامت عليها ومن أجلها الحركة.

      لقد تحولت أفغانستان بفضل الجهد القطري من منظمة إرهابية ملاحقة من قبل العالم كله، إلى حركة تحرر وطني مقبول في المجتمع الدولي كله، وسيكون لها مقعدها في هيئة الأمم، ومكانها في المنظمات العالمية، ومكانتها بين شعوب العالم كشعب كافح وناضل وثبت وتحمل وكافح واجتهد حتى نال حريته واستقلاله، وحقق انتصاره الحلم على أكبر قوة في العالم، وأعظم دولة في الأرض.

     إن انتصار طالبان يعد انتصارًا لكل الشعوب المظلومة المضطهدة المقهورة المنهوبة المسلوبة، وكان درسا بليغا، وإنه سيكون رافعة لكل من يريد أن يعمل لحرية وطنه، وكرامة شعبه، وهاديا لكل ثائر حر شريف؛ مؤمن بعدالة قضيته، ومستعد للتضحية من أجلها، والمطاولة والثبات والتمسك بالحقوق وعدم التفريط بها، وعدم الارتهان للأجنبي، والتسول والارتزاق على أعتابه، والعمالة والخيانة والتآمر على شعبه وأمته ووطنه ودينه.

     إن انتصار طالبان غيّر وسيغير الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وسيكون عاملًا مساعدًا مهما في المنطقة على تحرر الشعوب العربية من وطأة حكامها المدعومين أمريكيا، ودافعا للشعوب العربية ولاسيما الثوار منهم للتمسك بثوابتهم وحقوقهم، وعدم التفريط بها لحساب الحاكم الخائن العميل الجبان المستبد القاتل الظالم، وتعرية للمعارضات السياسية الفاشلة المنافقة المستسلمة الرخيصة، وللقادة العسكريين الذين تحولوا إلى أمراء حرب على طريقة دوستم وغني ومن شاكلهم من الخونة الأفغان.   

     إن انتصار طالبان يعد أول انتصار للسنة على حساب الميليشيات الطائفية المجوسية المجرمة المدعومة إيرانيًا وإماراتيًا، التي اجتاحت المنطقة بأفكارها العنصرية الطائفية، وأحقادها المجوسية، وأخذت تقتلع الإسلام المحمدي من جذوره، وتبيد السنة في أرضهم ومهدهم، وتفتك وتمثل بجثثهم، وأهلكت الحرث والنسل؛ مدعومة من أنظمة الإجرام العربية، وأجهزة العالم المخابراتية، وقواه الاستعمارية الصهيونية.

       اليوم نحن أمام مرحلة جديدة، وفتح جديد، وبداية تغير كبير ستشهده المنطقة إن شاء الله، ليس أقله زوال حكم الطاغية المجرم بشار الأسد، ونظامه المهترئ المتهالك الذي هو في حالة موت سريري، ولو عقد الثوار العزم وتوجهوا من الشمال الذي كان محررًا إلى دمشق؛ لدخلوها دون قتال.. والبركة في ثوار درعا؛ أصحاب الأولى، وعسى أن تكون الآخرة على أيديهم، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.. وما ذلك على الله بعزيز..

      حفظ الله قطر؛ أميرًا وشعبًا ووطنًا عزيزًا، وسدد خطاها، ووفقها لما هو قادم من انتصارات سياسية دبلماسية؛ محليًا وإقليميًا وعربيًا وعالميًا أهم وأعظم وأكبر..      

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى