مقالات

من كراس ثقافة الأقلية – مفاهيم التشيع مقابل سنن المجتمع

ربيع الحافظ

كاتب وباحث عراقي
عرض مقالات الكاتب

حج السنة وعاشوراء الشيعة

هذا العنوان خاطئ؛ الحج هو الركن الخامس في الإسلام وعاشوراء هو يوم عظيم في التقويم الإسلامي لسبب وهو أنه يوم نجى فيه الله تعالى موسى عليه السلام والمسلمون أولى بنجاة موسى عليه السلام من اليهود كما أخبرهم نبيهم ﷺ.

الحج هو نقطة الذروة في السنة الهجرية، فيه تجتمع أسرار العبادات البدنية والروحية والفكرية، يطوف فيه المسلم ويضحي ويدعو وينقطع عن الدنيا فهو ذروة روحية، ويرجم الجمرات خذلاناً للشيطان وينحر إذعاناً لأمر الله فهو ذروة العبودية، ويسعى بين الصفا والمروة التحاماً برسالة أبي الأنبياء فهو ذروة فكرية، ويستوى فيه الغني والفقير والقوي والضعيف دون اعتبار للون أو لسان فهو ذروة حضارية.

ثم يتجه المسلم إلى العاصمة الأولى لدولة الحضارة الإسلامية للسلام على منقذ البشرية وتسجيل الولاء للصف الأول الذين أرسوا أسس النظام السياسي الذي بدل خريطة العالم فهو ذروة سياسية. بطرفي رحلة الحج هاتين تكتمل صورة الولاء عند المسلم بشقيها الفقهي والسياسي.

في مقابل هذا المشهد وبعد أسبوع منه ينعقد عيد غدير خم الذي يؤمه الشيعة ويمثل أحد أركان التشيع وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي رضي الله عنه بخلافة لم تنفذ، بلغة العصر هو انقلاب سياسي مبكر قاده الخليفتان الأولان وحرف عملية انتقال السلطة عن مسارها.

الحرارة السياسية للمناسبة تستمر في الصعود وتبلغ ذروتها في عاشوراء حيث البراءة من النظم السياسية التي توالت على الحضارة الإسلامية وتحميلها وزر مقتل الحسين رضي الله عنه في مشهد دموي تلطم فيه الخدود وتضرب الأجساد بالسلاسل.

مشهد اللطم والدماء والإغماء وهتافات الأخذ بالثأر التي يشاهدها المسلمون على الهواء لا تثير إعجاب الشارع (سيما على خلفية مشهد الرقي الروحي والحضاري للحج) ويسد المشهد الشهية الفكرية للشارع الذي يبني قناعاته بالمشاهدة لا بالقراءة ويترك عنده هامشا ضيقا للاختيار.

السلوك هو أداة المجتمع الأولى في بناء علاقة مع فكرة جديدة، وعناد قريش الفكري مع الدين الجديد كسره في أحايين عديدة الرصيد الأخلاقي للصادق الأمين قبل البعثة وكسره بعدها ووصف بأنه “قرآن يمشي على الأرض”.

انتشار الإسلام بين شعوب شرق آسيا لم يكن على أيدي دعاة أو ساسة أومطبوعات ملونة وإنما على أيدي تجار كانت مؤنتهم الدعائية الوحيدة هي سلوكهم وهيبة شعائرهم الدينية التي وافقت الفطرة الإنسانية لتلك الشعوب فاستهواها الإسلام بناءً على مشهد أخلاقي وروحي فارتضته.

لم يكن التحول الروحي في حياة تلك الشعوب قراراً سهلاً فهم أول من دان بدين سماوي في ذلك الركن من العالم الذي لم يعرف غير الديانات الوثنية، والأهم هو أن التحول حصل ودام من دون نظام سياسي أو حراسة أمنية وهي حالة أقرب إلى المثالية وإلى النظريات الاجتماعية منها إلى الواقع.

المثال الآسيوي هو عكس المثال الفارسي الذي قادت فيه الدولة (الصفوية) انقلاباً فكرياً دمويا في عام 900 هجرية وحملت مجتمعاً سنياً على التشيع وقامت أجهزتها الأمنية بحراسة الفكر الجديد الذي أخرج بيئته (إيران) من دائرة الحضارة الإسلامية ووقفت الأجهزة حاجزاً أمام محاولات المجتمع تصويب مساره.

ما دلت عليه محطات التاريخ هو أن التشيع بإمكانه مسك الجغرافيا لكنه ليس بإمكانه مسك التاريخ فقد حكم العبيديون (زندقة نبتت عن التشيع) شمال أفريقيا زهاء قرنين لكن التشيع (بشقيه السياسي والفقهي) زال لحظة انهيار الكيان السياسي العبيدي وعادت مصر إلى الحضارة الإسلامية وسط احتفالات شعبية على غرار احتفالات أوربا الشرقية بزوال النظم الاشتراكية.

يمكن القول: إن تمدد التشيع خارج حواضنه التقليدية يقتضي حراسة سياسية وأمنية أو حماية قوة خارجية ويمثل انتشاره أو انحساره “بارومتر” للحالة الثقافية للمجتمع.

ما يريده الناخب من أي مدرسة سياسية هو رؤية مشرقة ومقدرة على التجديد والخروج من الأزمات والتطور، وهي مقومات رصدتها عين الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه لدى الروم في مصر أوجزها في: “أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة” وهي السمة البارزة عند أنسالهم من الأوربيين المعاصرين الذين أقاموا مؤسسات للإفاقة الفردية والجماعية وإعادة التأهيل.

العكس هو عندما تكون المصيبة هي الثقافة والحداد هو سمة المجتمع والطقوس هي الضامن على استمرار المصيبة التي تنكأ الجراح كلما اندملت، لذا أباح الإسلام الحداد ونهى عن إطالته لما في الإطالة من شل للقدرات وإماتة للنفوس وتبديد للطاقات والمجتمع أولى بسرعة الخروج من الصدمة واستعادة الحيوية والالتحاق بركب الأمم.

الحج في الإسلام آلية إفاقة لكل “من حج ولم يرفث ولم يفسق” وإعادة تأهيل للنفوس التي أحبطتها الأخطاء والهموم وهذا هو الفرق بين ثقافة تستقبل عامها الجديد بالتفاؤل والنظر إلى الأمام وبإلقاء الهموم إلى الوراء وأخرى تنظر إلى الوراء وتراكم الهموم في الأمام وتستقبل عامها بالعزاء.

ارتباط التشيع بالحداد ارتباطاً عضوياً واتخاذ القبر واحة للفكر تنهض حوله المعاهد والمدن، وإدامة التوتر النفسي مع المحيط الاجتماعي الكبير وتحميله وزر مشكلة عمرها 15 قرناً عوامل استهلكت قدرات مجتمعات التشيع عبر القرون وحالت دون خروجها من حلقة مفرغة وحرمتها من التطور باتجاه أفكار جديدة وأبقتها خارج الحياة السياسية والثقافية لمجتمع الحضارة الاسلامية وخارج اختيارات الإنسان، وفي الوقت نفسه جعلت خصومتها مع المجتمع موضع اهتمام القوى الخارجية.

مزاولة الأقلية لأدوار الأغلبية يضعها تحت دائرة الضوء وتحت تدقيق صكوك فكرية أصدرتها لنفسها بلا رصيد في مصارف التاريخ، كما يفرض عليها مزاولة أدوار في العلن كانت تزاولها في الخفاء، فقد التقت مصالح “إيران الحوزة” مع مصالح قوى معادية لجاراتها المسلمة ثلاث مرات خلال عقدين تارة مع الشيوعية وتارتين مع المسيحية المتصهينة (أمريكا).

سجّل التشيع إبان قرون المعارضة نجاحات على صعيد الاستقلال المالي والثقافي واستعطاف الرأي العام وتسويق فكرة المظلمة وانتزاع ولاء الشارع الشيعي لكن أشهراً قليلة في موقع الحكم كانت كافية لإطلاق مسلسل الأخطاء لمدرسة أمضت عمرها السياسي في خندق المعارضة ولسقوط ورقة التوت أمام شارع نشأ وترعرع وقسا عوده على شعاراتها.

الحديث عن السنة والشيعة ليس حديثاً عن الطائفية ولا زالت أوربا العلمانية تقارن بين البروتستانتية والكاثوليكية لا على سبيل الفروقات المذهبية وإنما بين مآلات نمطين مختلفين من التفكير الاجتماعي؛ نمط أعجزه التجديد والتطوير فأفل في الأفق السياسي وآخر نابض متجدد هو المسؤول عن العولمة ومحاضنها الأساسية البروتستانتية.

في هذا السياق فإن النظام الاجتماعي السني هو المسؤول عن إقامة مدنيات الشرق وبارتباكه اليوم تتوقف تلك المدنيات عن الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى