بحوث ودراسات

الإصلاح السياسي و التحول الديمقراطي في الوطن العربي الأردن مثالاً

فهد السالم صقر

محلل سياسي وباحث في العلاقات الدولية
عرض مقالات الكاتب

لا يمكن بحث الإصلاح السياسي في أي بلد عربي بمعزل عن العامل الدولي المؤثر في عموم المنطقة، فهناك مُحددات دولية خارجية (External restrictions) يخضع لها أي تحول ديمقراطي أو إصلاح سياسي حقيقي في الوطن العربي – سواءا كان هذا التحول سلميا أو ثوريا داميا ، لا فرق. فلا بد أن يحوز هذا التحول على الرضا الضمني للقوى الغربية الكبرى المتحكمة في قواعد اللعبة الدولية وفي مصير شعوب المنطقة. من الأمثلة على ذلك ، ما يحدث في لبنان و العراق الآن، حيث فشل الحراكين السلميين اللبناني والعراقي في إحداث أي إصلاح أو تغيير يُذكر في الوضع القائم، بسبب تدخلات ( أو عدم تدخل) قوى إقليمية وخارجية لحماية وإدامة الوضع الراهن على ما هو عليه. كما أن سوريا تُعتبر مثالا حيا آخرا على تدخل القوى الدولية الفاعلة لمنع حدوث التغيير الثوري لقلب نظام الحكم ، و تغيير الوضع القائم الStatus quo في دمشق بما لا تهوى القوى الكبرى. وفي مصر بدا لأول وهلة أن ثورة 25 يناير 2011 قد إنتصرت و نجحت في إحداث التغيير المنشود، والإفلات من هذه اللعبة الدولية المفرغة ، والإنتقال بمصر الى مرحلة التبادل السلمي للسلطة ، لتعود العملية الديمقراطية وتنتكس بإنقلاب دموي مُدبر من الخارج ، وبتحريض و مباركة علنيه من هذه القوى إياها ، وتُعيد مصر ثانية الى عهد حسني مبارك و الى بيت الطاعة الغربي.
إذن علينا أن ندرك أن الإصلاح والتغيير بكافة أنواعه ، السلمي أو الثوري، مُقنن و يخضع للسيطرة و للفيتو الغربي بشكل أو بآخر ، و بأنه ليست كل الإصلاحات أو السياسات الإقتصادية التي تنشدها الشعوب تقع بالضرورة تحت صلاحيات أو إمتيازات (Political Prerogatives ) النظام السياسي المحلي حصريا . لأن ما لا يعرفه الكثيرون أن موظفا كبيرا في البنك الدولي، لكي لا نقول ديبلوماسي غربي متوسط الرتبة ، قد يملك من الصلاحيات أكثر مما يملكه وزير أو رئيس وزراء في دولة عربية ما. إذن، علينا ألا نُفرِط كثيرا في التفاؤل من جهة، و لا نُلقي بكل اللائمة على النظام أو رأس النظام. ومن جهة ثانية ، علينا خفض سقف توقعاتنا لما ستتمخض عليه أي عملية سلمية لإصلاح سياسي مأمول. لأنه مع الأسف ، السقف المسموح به دوليا في العالم العربي منخفض جدا ، هذا إذا إفترضنا صدق النويا في الإصلاح.
الآن في الأردن وفي ظل أوضاع إقتصادية صعبة جدا، فاقمتها جائحة كورونا ( Covid-19) عام 2020-2021 ، يعيش البلد حالة من التذمر و حراكا سياسيا سلميا على إستحياء ، حيث تتعالى الأصوات مطالبةً بوضع حد للفساد والترهل الإداري والحكومي ، وتشريع إصلاحات إقتصادية وسياسية من شأنها أن تحد من البطالة والفقر، وتضع حدا للغلاء والضرائب الحكومية الباهظة التي يتحمل تبعاتها الطبقات الوسطى والفقيرة.
إتسم الحراك الأردني أثناء و ما قبل جائحة كورونا غالبا بالطابع السلمي الإحتجاجي ، ولم يشهد حالات عنف أو قمع إلا في حالات معزولة ، كما حدث في 25 يوليو 2020 ضد إضراب نقابة المعلمين التي شملت فض إعتصام بالقوة ونتج عنه إعتقالات لقياديين ونقابيين أفرج عنهم لاحقا. ولكن هذه السمة السلمية الغالبة في التعبير الإحتجاجي لا يمكن التعويل عليها دائما ، خصوصا إذا إستمر الوضع الإقتصادي بالتردي ، ولم يشعر المواطن بتحسن نوعي في معيشته وفي جدية الحكومة بوضع حدا للفساد والمحسوبية وكبح غول الغلاء.
لقد مرت الدولة الأردنية الحديثة منذ تاسيسها في العام 1921 بتحولات جذرية كبرى، ساهمت إلى حد كبير في تَشَكُّل الوعي الجمعي للشعب ، وإثراء وصقل ثقافته السياسيه. فبالإضافة لحركة التطور والنمو الطبيعي التي تمر بها الدول، إنفردت المملكة الأردنية الهاشمية بتحقيق معدلات نمو سكانية عالية جدا جاءت على شكل قفزات تاريخية مفصلية- بفعل الهجرات القسرية المتعاقبة – في الأعوام 1948 1967، 1990 و2003 بعد إحتلال العراق ثم أخيرا ، الهجرة السورية بعد 2011. ساهمت هذه الهجرات بإحداث تغييرات ديموغرافية وإجتماعية وإقتصادية هامة وجوهرية.
لكن بالرغم من ذلك، ونتيجة للطابع السياسي الفريد لهذه الهجرات، حافظ الأردن على تركيبه سكانية تُعتبر الأكثر تجانسا بين كل دول المنطقة ، من النواحي العرقية والدينية والمذهبية ، فالغالبية الساحقة من السكان هم من العرب- المسلمين – السٌنة الذين يُشكلون ما يزيد عن 90% من السكان. وتتميز هذه التركيبة أيضا بأن غالبيتها من فئة الشباب المتعلم المُنتج ، مما يُجسِّد مقولة الملك الراحل الحسين بن طلال ( رحمه الله) ” الإنسان أغلى ما نملك”. فبالرغم من ضعف الإمكانيات وشح الموارد، إستطاع هذا الإنسان بقيادة الهاشميين الحكيمة أن يبني بلدا عصريا ، ويحقق مستويات معيشية لا بأس بها نسبيا ، وأنظمة صحية وتعليمية وبنية تحتية هي مثار إعجاب الكثيرين في المنطقة وحول العالم. أضف الى ذلك، بناءه لدولة مؤسساتية ينعم فيها الإنسان بالأمن والإستقرار وسيادة القانون ، وسقف لا بأس به من الحريات السياسية و الإجتماعية. فلا عجب إذن أن يكون هذا البلد مثار إستهداف دائم من جهات خارجية وداخلية لنفس هذه الأسباب.
لقد علمتنا تجارب ثورات الربيع العربي أن الإنفجار أو التصعيد قد يحدث فجأة ودون مقدمات، وعلى أبسط الأسباب. ولهذا تُحسن الحكومة صُنعا عندما تقوم بطرح إصلاحات هادفة وحقيقية بشكل إستباقي من أجل تحسين الظروف الإقتصادية والسياسية والإجتماعية وتلافي تحول الإستياء الشعبي إلى قنبلة موقوتة ، خاصة في ظل نسبة بطالة عالية تصل بين الشباب الى ما يزيد عن ال 25%، حسب الإحصائيات الرسمية ، بل تزيد عن ذلك. (معدل البطالة للذكور خلال الربع الأول من العام الحالي 2021 بلغت 24.2% مقابل 28.5% للإناث) المصدر: دائرة الإحصاءات العامة.
إن الإصلاح السياسي ، الذي يسبق الإصلاح الإقتصادي، ضرورة ملحة، وليس ترفا سياسيا . فأردن الستينات والسبعينات من القرن الماضي ، ليس أردن 2021 ، وبالتالي لا يستوي أن نستمر في إدارة وتنظيم أمورنا الحياتية بنفس الأدوات والأساليب القديمة . لقد شب الشعب الأردني على الطوق ويريد حكومات منتخبة يختارها الشعب تخضع للمُحاسبَة، تدير شؤونه بشفافية ومسؤولية، تحد من تغول الفساد وتعمل على تلبية طموحاته ، وتحافظ على مكتسباته. إن التلكؤ في تحقيق هذا المطلب ، لا يخدم البلد ولا يخدم المصلحة العامة على المدى البعيد، لأنه من غير المُجدي ( أو غير الممكن) تكريس الوضع الراهن ال Status quo الى ما لا نهاية. الظروف والتحديات والمستجدات تتغير، فلا بد إذن من نهج مختلف يواكب التغيرات .
بناءا على ما أسلفت في مقدمة المقال ، فإني لا أرى النظام والشعب إلا في قاربٍ واحد ، فالإصلاح حاجة ملحة للشعب والنظام معا، فأي إصلاحات حقيقية يفرضها الحراك الشعبي فهي بالضرورة تصُب أيضا في مصلحة النظام ، لجهة زيادة شعبيته وترسيخ إستقراره و شرعيته. الإصلاح ليس لعبة صفرية بين النظام والشعب،) Zero sum game) بمعنى ، أن ما يكسبه طرف يخسره الطرف الآخر، بل هو مصلحة مشتركة للطرفين. إنها معركة مشتركة يخوضها النظام والشعب معا ضد قوى الشد العكسي خارجيا وداخليا ، الكل فيها مستفيد. إن حماية النظام وديمومته وتحصينه تكمن جوهريا في إلتفاف الشعب كله حوله . وهذا لا يتأتى إلا بتحصين الجبهة الداخلية بمعاملة المواطنين كلهم جميعا على قدم المساوة في الحقوق والواجبات والإمتيازات، ومنح الناس سقفا أعلى من الحريات عن طريق تمكين ممثليهم في البرلمان.
إن أول خطوة نحو الوصول إلى هذا الهدف هو وضع قانون إنتخابي يخدم هذا التوجه ويؤدي الى إنتاج أغلبيات ( أو أكثريات) برلمانية Majority or plurality تُفضي الى حكومات وطنية منتخبة. لا بد من قانون مقبول للجميع ، عادل ، لا يستثني أحد ، ويضمن عدالة التمثيل لكل المواطنين ، بغض النظر عن أصولهم و منابتهم أو توجهاتهم الفكرية. ويسمح للأحزاب السياسية بالتنافس في كل الدوائر الإنتخابية بهدف السعي لتحقيق هذه الغاية. إن أي إقصاء أو تهميش لأي تيار فكري ، إسلامي أو علماني أو لشريحة مجتمعية بناءا على الأصول والمنابت يعني أن النظام غير جاد في الإصلاح ، الإقصاء يعني العودة الى نقطة الصفر.
الولاء للوطن وللعرش ليس حكرا على فئة أو مكون إجتماعي أو طبقة دون غيرها . إن المتاجرة بالولاء ، وتظاهر البعض بحب الملكية أكثر من الملك لتحقيق مصالح ضيقة على حساب مصلحة الكل الوطني ، لا يختلف عن المتاجرة بالدين والمتاجرة بالشعارات. لا يوجد في الأردن- ولله الحمد – أقلية و أكثرية ، ولا يوجد طائفية ولا مذهبية، فالغالبية الساحقة من السكان هم من العرب – المسلمين -السُنّة ، إختلطت أنسابهم وعوائلهم ودمائهم على مدى عقود فأصبحوا عمليا غير قابلين للتفربق أو التمييز بينهم ، كما أنه لا يوجد معارضة وموالاة ، فهناك إجماع وطني عريض وراسخ على قيادة الهاشميين وشرعية نظامهم.
إن التجانس السكاني الصلب و المتماسك في الأردن هو مصدر قوة و منعة للوطن ، وورقة رابحة بيد النظام – لو أحسن إستخدامها – و من سخريات القدر، أن يكون هذا التجانس تحديدا، مُستهدَفا من جهات خارجية ومن طابور خامس محلي يعمل بوعي وعن سابق إصرار لخلق حالة من التفرقة المجتمعية المُفبركة والمُصنّعة بتصنيف الناس الى خيار وفقوس.
هذه الفئة تختلق الذرائع غير المنطقية بناءا على تخيلات وهمية يُسمونها “مخاوف” أو ” هواجس” تضع العُقدَة أمام المنشار و العصي في عربة الإصلاح السياسي بحجج واهية، لا أساس لها من الصحة، لا تخضع للمنطق والعقل. بعضها حق يُراد به باطل، وبعضها باطل يُراد به باطل. فئة لا ترى أبعد من أنفها ، تريد الإستئثار بكل شيء على حساب الوطن بعقلية متكلسة تجمدت عند العام 1970.
إن قدر الأردن -شئنا أم أبينا- أن يبقى قلعة منيعة من قلاع هذه الأمة، بعد أن تساقطت قلاع الأمة الواحدة تلو الأخرى بأيدي الشعوبيين والطائفيين والمارقين على الدين. ( راجع تصريحات الملك عبدالله الثاني للواشنطن بوست في ديسمبر 2004 عن الهلال الشيعي). إن الإنجازات التي حققتها الدولة الأردنية الحديثة بمشاركة الجميع ، ليست مسلمات ، بل لا بد من تعزيزها وحمايتها وتحسينها للمضي قدما ، معا يدا بيد ، في خندق واحد، حكومة وملكا وشعبا ’ نحو مستقبل أفضل، فالأفضل مُمكن ، والأفضل قابل للتحقق.
يجب تنبيه هؤلاء وإعادة تذكيرهم أن مقاربتهم السياسية أصبحت مرفوضة من الغالبية العظمى من الشعب ، لأن الدهر قد أكل عليها وشرب ، ولا تصلح لعام 2021 وما وبعده، ولا يمكن أن توصلنا الى آفاق المستقبل المرجو لأبناءنا وأحفادنا. أن طريقة التفكير هذه ، في أحسن الأحوال، مُثبِطة ومُعطٍّلة للإنتاجية والإبداع ولا تخدم الوطن بأي حال من الأحوال ، و تضر بالوحدة الوطنية التي نحن في أمس الحاجة للحفاظ عليها في وجه المؤامرات الخارجية التي تستهدف ضرب أمننا وإستقرارنا. ونذكر هؤلاء ونتلوا عليهم بالحق من آيات الله : بسم الله الرحمن الرحيم،
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ” . صدق الله العظيم .
فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى