مقالات

لا تَعضّ رغيفي!

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
عرض مقالات الكاتب

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. لم يَعُدْ لشعبنا ما يرجو بقاءه ويخشى فناءه سوى رغيف الخبز! بعد تبدد الآمال وذهاب الأحلام، بعد ضياع كل مكتسبات الثورة ومعها جميع ما ورثه هذا الشعب من فتات الحريات وبقايا الحقوق، بعد أن صارت مصر مهددة تهديدا حقيقيا بأن تصبح يوما فترى نفسها بلا نيل ولا وادي ولا دلتا ولا حقول ولا خضرة ولا محصول، بعد أن أكل الغلاءُ المسعور كلَّ رغبة في عيش هانئ أو حياة كريمة، بعد أن ابتلعت السجون السوداء في غياهبها صلحاء الأمة وعلماءها وخيرة شبابها، إلا من استثناه الاختباء أو طواه الاختفاء؛ ليبتلع الفساد والإجرام والانحلال الخلقي الجيل كله إلا من رحم الله (وقليل ما هم)؛ بعد كل هذا الذي جرى لشعبنا وبلدنا على يد ذلك البلاء الجاثم فوق عرش مصر؛ لم يَعُدْ في الحياة كلها شيء يتشبث به الأحياء إلا رغيف الخبز، الذي سميناه – لكونه عندنا سبب الحياة – (رغيف العيش). إنْ أَنْسَ لا أَنْسَ يوما تجرأ فيه السادات بعد منتصف السبعينات من القرن الذي فات، على رفع ثمن رغيف الخبز من خمسة مليمات (قرش تعريفة) إلى عشرة مليمات (قرش صاغ)؛ يومها قامت قيامة مصر، وثارت جموع المصريين ثورة هوجاء عصفت بكل شيء، وكادت أن تطيع بالسادات ومعه جميع أركان نظامه بما فيهم القيسوني الذي كان أداة السادات في تنفيذ القرار، ولولا التدخل الأمنيّ البالغ العنف لكان السادات ومعه جميع ما سطر لنفسه من أمجاد بما في ذلك العبور العظيم في (خبر كان). ذلك لأنّ رغيف الخبز للشعب المصريّ خط أحمر، استمد حمرته وحدته وحرارته وشدته من دماء أبنا النيل، الذين عاشوا دهرهم معتمدين في عيشهم على توفر الخبز، ومن غير المعقول ولا المقبول – والوضع هكذا – أن يتم العدوان على شعور المواطن باستقرار سعر الرغيف؛ لأنّ ذلك العدوان يُعَدُّ عدوانا على حقه في الحياة، وهل بعد العدوان على حق الحياة عدوان؟! والدولة التي ظلت على مدى عقود طويلة تُقَايِضُ الشعب على تأمين هذا الرغيف في مقابل استلابها لمقدرات البلاد ومعها كرسيّ الحكم؛ لا يحق لها اليوم أن تمارس – بإرادة منفردة – حرمان الشعب من ذلك المقابل البسيط الذي من أجله تنازل لها عن كل شيء، عن حقه في اختيار من يحكمه، وعن سلطانه في المراقبة والمحاسبة، وعن حريته وكرامته وأمنه واستقراره، وعن حقه في الرفاه والعيش الكريم، وعن حقوق الصحة والعدالة والتعليم القويم، ومن باب أولى لا يحق لها أن تمارس المنّ والأذى بأنّها تدعم الخبز وبعض المواد التموينية؛ لأنّها تعلم قبل أيّ جهة أخرى أنّها بسوء تخطيطها وبخضوعها الكامل للهيمنة الغربية حرمت البلاد من إنتاج ما يكفيها من كل هذه السلع وعلى رأسها القمح، رغم توافر جميع المؤهلات والعوامل من تربة ومناخ ومياه ويد عاملة وغير ذلك. وقد استمعت إلى كلمة هذا الذي يمتطي صهوة الحكم في مصر، واستفزتني مقارنته الذاهبة في الغباء مذهب من شبه الأرض في سفولها بالسماء، كيف يقارن السيجارة الحقيرة بأرغفة الخبز؟ وكيف يمارس الأذى لمشاعر الناس والتضليل لعقولهم في آن واحد بهذه الوقاحة الممزوجة بالتناحة؟ ما لنا وللسيجارة، وما علاقة رغيف الخبز الذي يمثل للناس في بلادنا عصب حياتهم وأصل أقواتهم بذلك (الكيف!) الذي إن اتخذ قرارا بمنع بيعه وتداوله فلن ينعكس تيار النيل إلى الجنوب ولا تيار الرياح إلى الشمال، وهل إذا بلغ ثمن زجاجة الويسكي ألف دولار سيرفع سعر الزيت إلى عشرة أضعافه؟! أم سيغلق محلات عصير القصب لكون المواطن غير قادر على شراء الكوب بألف جنيه؟! ما هذه الطريقة الساقطة في مخاطبة الشعب، ثم ما هذه الصلافة الممزوجة بالإرهاب؛ حيث يتحدى الشعب في طريقة الإعلان؟ أَلِأَنَّه يملك القوة الغاشمة ويمارس بها الغشم في العدوان؟ فليعلم إِذَنْ أنّ هذا الشعب البسيط إذا غضب هاج كهيجان الثور الجامح الذي خرج عن طوع مالكه؛ وإِذَنْ لن ينفعه وقتها جيش ولا شرطة ولا حراس. وإن تعجب فعجب تبرير الشيخ (كريمة) بأنّ بعض الناس يستخدم الخبز في صناعة (البوظى!) ولا أرى (البوظى) إلا ذلك الكلام ال (البايظ) الذي ينحدر من فيه المهدول كانحدار الخمر من فم سكران شرب حتى الثمامة، وهب أنّ هذا صحيحا، فهل يكون له حكم؟ ألم تمر عليه يوما قاعدة: “النادر لا حكم له”؟! فكيف يحكم بالنادر على الغالب، إن صح أنّه موجود، ولا أحسبه موجودا إلا في دماغه هو وحاكمه الذي بلغ في جنوح الخيال مبلغ الخرف والخبال. يا أيها الشعب الذي يستطيع في عَشِيّةٍ كَعَشِيَّةِ الثامن والعشرين من يناير 2011م أن يكون عظيما، أما آن الأوان؟! ألم يَأْن لك بَعْدُ؟! إلى متى الانتظار؟! لقد أُهين دينك فلم تتحرك؟ وبِيعت أرضك فلم تغضب! وأُهدي نيلك العظيم للأحباش مقابل اعتراف المجتمع الأفريقيّ بشرعية زائفة للطاغية فلم نر لك خيلا ولا نفيرا، واليوم يراد كسر الحاجز للإطاحة بحقك في العيش – مجرد العيش – عبر رفع سعر رغيف الخبز؛ فلم نسمع لكم ركزا! فإلى متى هذا السكوت؟!! ويا أيها الكبار من علماء الأمة ومفكريها: أما آن الأوان لتقودوا هذا الشعب في ثورة تحرير كبرى ضد المحتل بالوكالة، أين رؤيتكم وأين مشروعكم وأين وحدتكم وأين صفكم، وقبل ذلك أين أنتم من قضايا الأمة؟ وأين الدور الكبير المنوط بكم؟! وأين شيخ الأزهر من هذا الذي يجري؟! ألا يتحرك ضميره لما يعانيه هذا الشعب، ألا يرى أن من مسئولياته الدينية والدعوية والشرعية أن يبين الحق فيما يتعلق بأقوات المسلمين؟! ألا إنّنا على أبواب خطر كبير، فاللهم نسألك الثبات، ونسألك يا ربنا أن تهيء لهذا الشعب أمر رشد وسداد، يأخذ بيده إلى طريق المقاومة والجهاد، ويهيئه للقيام بدوره في النهوض بالبلاد .. آمين، وفي الختام لن أقول للذي يعتدي على رغيفي تلك القولة التي تحمل معنى الاستجداء والتنازل: “عض قلبي ولا تعض رغيفي”، ولكن سأمحضها للرفض: “لا تعض رغيفي”.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تلك السفارة التي سهرت الليالي في وقت انقلاب 23 تموز/ يوليو عام 1952 ليتأكد السفير كافري من نجاح العسكر الذين أسماهم (my boys) في التحكم بمصر مع تحييد الآلاف من الجيش البريطاني المرابطين على قناة السويس ، زاد عدد من يعملون فيها على مدار السنين مع بقاء الغباء (و هذا وصف شعب الانجليز لهم) متحكماً فيها .
    حين قام الممثل البارع “الذي كان ممسحة للضباط الأغرار” برفع سعر الرغيف في بداية عام 1977 ، حصلت “انتفاضة الخبز” التي سماها الممثل كاذباَ “انتفاضة الحرامية” . كنت حينها معلم مدرسة امتلك من الوقت الكثير لمتابعة الأخبار ، و في مرَة أجبرت نفسي على الاستماع لإحدى خطبه الهابطة المستوى فإذا هو يتحدث عن أن مصر لا تستطيع الإنتاج بشكل مقبول لأنها “لا تقع في حزام القمح” !!
    خطر ببالي أن هنالك أغبياء إما من أزلامه أو من السفارة قد لقنوه هذا ليخدع الجهلة من أبناء الشعب و لإيجاد مبرر لضرب الشعب في أهم سلعة غذائية .
    من لديه أدنى معرفة بالقرآن الكريم ، يعلم أن سورة يوسف “عليه السلام” تحدثت عن إنتاج مصر للقمح و تصديرها له بل و التصدق بالقمح على الفقراء. من لديه معلومات في التاريخ ، يعرف جيداً أن مصر كانت سلة غذاء العالم – و من ضمنه أوروبا – أيام الإمبراطوريتين الرومانية و البيزنطية و أن تأخر وصول القمح من مصر لمدة 10 أيام حينئذ نتج عنه مجاعة في أوروبا.
    في أيام الخلافة الراشدة ، حصل قحط شديد في جزيرة العرب في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فطلب العون من والي مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه فكان المدد بقافلتين : بريَة أولها في المدينة المنورة و آخرها في مصر ، و بحرية مكونة من 20 سفينة تحمل الدقيق الجاهز للعجن .
    لقد بقيت مصر مئات أو آلاف السنين تنتج القمح ، و تغيَرت عادات الناس فيها لتضم الذرة و الشعير إلى القمح لإنتاج رغيف العيش و بقيت مصر هكذا حتى عام 1951 . تحت تحكم العسكر الفاشلين ، صار الإنتاج يتضاءل بتعليمات أعداء مصر و كان من ضمن خونة مصر “يوسف والي” الذي استلم وزارة الزراعة مدة 22 عاماً و كان صاحب سياسة زراعة الفراولة و “اللب” بدلاً من القمح و القطن تحت التبرير السخيف أن أرباحها أعلى . منذ سنوات قليلة ، أصبحت مصر (( أكبر مستورد للقمح في العالم)) و هذا مقصود حتى لا يكون هنالك أمن غذائي و قريباً بالطبع لن يكون هنالك أمن مائي .
    هذا المدعي للصدق و الشرف و الأمانة ، يقول أنه يرفع دعم رغيف الخبز لتوفير 8 مليار جنيه من أجل تغذية “أولادي !!” الطلبة في المدارس . مصر كانت في التاريخ الإسلامي تسمى “بلد النجباء” و بالتالي ليس من السهل خداع أهلها من جانب الأغبياء . قال بعض أبناء مصر الحبيبة ( ميزانية مشروع القطار الكهربائي 360 مليار جنيه / و هو مشروع لا تحتاجه مصر حاليا / و لو قسمنا 360 على 8 لكان الجواب 45 ، أي أن هذا المبلغ سيدعم الخبز 45 سنة أو ربَما 40 عاماً) ! إذن هنالك لعبة مكشوفة !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى