بحوث ودراسات

نوال السعداوي: نموذج للنُّخب الفكريَّة من أرباب الماسون 3 من 6

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

دعوة ضمنيَّة للثَّورة على الاستبداد الدّيني المؤيّد للاستبداد السّياسي

تصبح زينة، ابنة بدور، النَّاقدة والأستاذة الجامعيَّة المقهورة والمقيَّدة بأغلال الزَّواج الشَّرعي وأحكام الدّين، ونسيم، الشَّاب الثَّوري الماركسي الملحد، مطربة، تلتفُّ حولها “الجماهير المقهورة” في البلاد، الَّتي يسيطر عليها حُكم استبدادي على رأسه الفاسدون والنَّفعيون، يكتسب شرعيَّته من الغطاء الدّيني الَّذي يبرّر أخطاءه ويسوق العامَّة إلى الخضوع والاستسلام (صـ119). وكما سبقت الإشارة، يمثّل الشَّيخ أحمد الدامهيري، ابن عمّ بدور، أي أمّ زينة الحقيقيَّة، السُّلطة الدّينيَّة المنافقة الَّتي تستغلُّ الدّين بحسب الأهواء لتحقيق المصالح، بينما تمثّل زينة مصر المقهورة، الَّتي تعاني التَّشرُّد وفقدان الانتماء، ولا تجدُّ الدَّعم إلَّا من مريم، مدرّسة الموسيقى مسيحيَّة الأصل، الَّتي تمثّل بدورها الإرث القبطي لمصر؛ وكأنَّما تريد السَّعداوي أن تقول إنَّ مصر تستمدُّ أصالتها التَّاريخيَّة من أصولها القبطيَّة، الَّتي تتصَّل تاريخيًّا وعقائديًّا بالإرث الفرعوني. وعلى اعتبار أنَّ رواية زينة صدرت عام 2009م، فمن المفترَض أنَّ النّظام القمعي الَّذي تقصده السَّعداوي وتدعو إلى التَّمرُّد عليه هو نظام مبارك. وفي معرِض الحديث عن الاستبداد، تلقي الكاتبة الضَّوء على دور الصَّحافة في التَّستُّر على جرائم النّظام، بالإشارة إلى تجربة مجيدة الخرتيتي في المجال مع رئيس تحرير من رجال النّظام (صـ123):

كان رئيس التَّحرير أحد أعوان السيِّدة الأولى، نشرت صحيفة من صحف المعارضة حقائق عن اختلاسه بضعة ملايين من أموال المجلَّة، خرج النَّاس في مظاهرات يطالبون بتقديمه للمحاكمة، معظمهم من الشَّباب العاطل والشَّابات، فرقتْهم عربات البوليس بخراطيم المياه والغازات المسيِّلة للدموع، وبضع رصاصات انطلقت. سالت دماء فوق الرصيف، ذابت الدّماء في مياه المجاري بعد انفجار الماسورة.

أرادت السَّعداوي أن تعكس صورة على مدى هيمنة الهويَّة الإسلاميَّة، كما تدَّعي، على سلوك النّظام الحاكم وأعوانه؛ لدرجة التزام المسيحيين منهم بإقامة شعائر الإسلام شكلًا لإرضاء أصحاب القرار والمغيَّبين من العامَّة (صـ126):

إن كان من المؤمنين بالمسيح والإنجيل تظهر الزَّبيبة دون أن يسجد بين يدي الله، والسّبحة يحركها بين أصابعه دون أن يسبح بحمد الله، أو يتمتم بآيات من القرآن. يقول: إنه قبطي دينه المسيحيَّة لكنَّ ثقافته إسلاميَّة، يذهب إلى الجامع دون وضوء يوم الجمعة ليصلي وراء الرَّئيس أو الوزير، يبسمل ويحوقل ويقرأ الشَّهادة والفاتحة دون أن يحر َك شفتيه إلا قليلًا، يسبل جفونه مع البسملة والبربشة والحوقلة والتَّمتمة دون صوت أو مجرد هواء ساخن يخرج من بين شفتيه المتوردتين.

ينتقل المشهد إلى متابعة الشَّيخ أحمد الدَّامهيري لزينة وهي تغنّي على المسرح، وهو متخفٍّ، “ومن حوله حراس مسلَّحون متنكرون في ملابس مدنيَّة، في جيب كل منهم مسدس كاتم للصَّوت” (صـ128). يُفتتن الشَّيخ أحمد بصوت زينة، وينجذب إليها، وكأنَّما هو صوت يأتيه من الماضي، حينما كان في أحشاء أمّه، أو ربَّما هو يشبه صوت أمّه وهي تغنّي له قبل أن ينام؛ وكأنَّما رسالة السَّعداوي هي أنَّ أغاني زينة، الَّتي شبَّهتها من قبل بالتَّرانيم المقدَّسة لإيزيس أو مريم العذراء، والَّتي تعلَّمتها عن مريم ميخائيل، مدرّسة الموسيقى، هي الَّتي سمعها وهو لم يزل في رحم أمّه، قبل أن يتلقَّن تعاليم الإسلام ويتغيَّر مساره الفكري. وفي إشارة منها إلى تواطؤ السُّلطة التَّنفيذيَّة مع الدّينيَّة في فرْض السَّيطرة على الحُكم، توضح السَّعداوي انتماء الشَّيخ أحمد إلى عائلة أعضاؤها إمَّا من الضُّبَّاط أو الشُّيوخ الأزهريين (صـ132):

أبوه وجدّه وأبو جدّه تربوا جميعا في الأزهر في بيوت الله، أو داخل مدرسة الجيش والبوليس. تلمع النُّجوم الذهبية والنياشين فوق صدورهم وأكتافهم العريضة المحشوة بالقشّ أو القطن، تلتف العمامة الكبيرة حول رءوسهم الصَّغيرة، والحزام من القطيفة حول الجبَّة تحت القفطان. بين أصابعهم يقبضون على حبَّات السّبحة، أو العصا لمن عصا لها رأس الثُّعبان، أو الهراوات أو البنادق والمسدَّسات، حسب موقع الواحد منهم في سلَّم الوظائف العليا بالدَّولة والدّين.

تطعن السَّعداوي الحُكم الإسلامي الَّذي يبيح معاشرة ملك اليمين من النّساء، بادّعاء أنَّ الشَّيخ يحلُّ لنفسه امتلاك جسد أيّ أنثى، وإن كانت في عصمة رجل أو لم تزل طفلة، لإشباع شهوته، تطبيقًا لذلك الحُكم. ومن الملفت أنَّ الكاتبة تتجاهل حقيقة أنَّ الاسترقاق كان سائدًا في الماضي في كافَّة البلدان، وليس في العالم الإسلامي وَحده، وأنَّ الإسلام لا يحلُّ معاشرة امرأة دون زواج، بل ويعتبر الزّنى من الفواحش الَّتي تستوجب إقامة الحدود (صـ134):

امتلك الأمير بيَمينه ما يشاء من النِّساء العفيفات المحصنات والغواني العاهرات، العذراء البكر الغريرة، والثيِّب فاقدة العذرية الخبيرة بالرجال وألاعيب الجنس، الأرملة والمطلقة بينونة صغرى أو كبرى، النَّاضجة نُضج الثَّمرة الساقطة من الشَّجرة، والمراهقة والطّفلة الَّتي لم تبلغ الحيض. وإن أعجبته امرأة متزوّجة تخلى عنها زوجها طواعية لوجه الله لتهب نفسها للأمير؛ فالله قد أحل للأمير ما يَشتهي من النّسوة. الأمير يرتفع عن الرّجال درجة، كما يرتفع الرجال عن النّساء درجة. خلق الله البشر درجات، أعلاهم درجة النَّبي أو الرَّسول، يليه الأمير، يحق للأمير أن يملك من النّساء ما يشاء.

يحاول الشَّيخ أحمد التَّواصل مع زينة، لكنَّها تتجاهله، وحينها يفكّر وهو ساجد يصلّي في الذّهاب إليها وامتلاك جسدها، استجابةً لنداء الشَّيطان الَّذي يهمس في أذنيه في الصَّلاة، كما تصوّر السَّعداوي بعبارات تنتقص من رجال الدّين وترسّخ في الأذهان نفاقهم وازدواجيّتهم وارتكابهم في السّرّ ما لا يجرؤون على ارتكابه في العلن (صـ141):

اذهب إليها يا رجل، إنها امرأة مثل غيرها من النّسوان، ناقصة عقل ودين، ضعيفة أمام شهوتها. إن أثارها رجل تبددت قواها. أباح الله لك من النّساء ما تشاء، فأنت الأمير، مندوب الله فوق الأرض، اذهب إليها الليلة، أفرغ في جسدها غدة َّ الشيطان، لتتفرغ أنت في الغد لأعمالك الجليلة. سوف تفتتح غدًا المؤتمر الدولي للحوار بين الأديان، سوف تُلقي خطبة ضد الكفرة الذين لا يؤمنون بالله والكتب السَّماوية الثَّلاثة، القرآن والإنجيل والتَّوراة، أرسلها الله هدى ونورا للعالمين. اذهب يا رجل إليها، لا تتردد، لا تخف، فالله معك في كل خطوة، الله ينصرك يا أمير، ولا ناصر إلا الله. الله هو الحب والجمال، الله جميل يحب الجمال، الموسيقى الجميلة، الصوت الجميل نعمة من نعم الله، لماذا تحرم الموسيقى والرَّقص والغناء يا رجل؟ لماذا تنساق وراء ذلك الشَّيخ الأعمى الَّذي لا يرى الجمال لأنَّه أعمى…

تصوّب السَّعداوي سهامها من جديد على الإيمان بالقدر، مطلقةً عبارة تشاؤميَّة تعبّر عن السَّخط من أمر الله تعالى، على لسان مجيدة، وهي تتحدَّث عن صور الظُّلم الاجتماعي الَّذي لا يجد ما يرفعه عن الملايين، بينما يلتهي الأمير، صاحب المشروع الإسلامي ورافع شعار ‘‘الإسلام هو الحلّ’’ بإمتاع رغباته الحسيَّة، في إشارة ضمنيَّة إلى أنَّ الحلَّ الفعلي يكمن في تطبيق الاشتراكيَّة العادلة، بدءً من تنحية الدّين ورموزه عن المشهد والتَّحرُّر من قيوده (صـ162):

ربنا راضي بالظُّلم…وإلا ما كانش ثلاثة مليون طفل يعيشوا في الشوارع، وخمسين في المية من الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر، والآلاف والملايين البريئة تموت في الحرب في فلسطين والعراق وأفغانستان والصُّومال والسُّودان، والظُّلم في كلّ أنحاء العالم…ربنا راضي بالظُّلم!

تعترف مجيدة بأنَّها “كفرت” بالله، بعد أن أُدرج اسم زينة المطربة، أختها من أمّها وهي لا تعلم، في “قوائم الموت” بحجَّة تحريم الغناء وتجريم الدَّعوة إلى الانتفاض ضدَّ الظُّلم، مشيرة إلى أنَّ النّظام الحاكم يتواطأ مع الجماعات الإسلاميَّة وأميرها، الشَّيخ أحمد، لخدمة مصالحه، ولو كان في ذلك خطورة على سلامة المواطنين (صـ162). يعني ذلك أنَّ الشَّيخ يخطّط لقتل زينة لأنَّها تمتنع عن تسليمه جسدها، في إشارة جديدة إلى استغلال الدّين بحسب الأهواء وانخراط الإسلاميين في أعمال إرهابيَّة لقمع الدَّاعين إلى مواجهة الفاسدين. توظّف السَّعداوي شخصيَّة زكريَّا، والد مجيدة الصُّحافي المنافق المنكبّ على الشَّهوات، لإرسال رسالة تحذيريَّة عبر مقاله اليومي من ثورة، ليس ضدَّ الجوع وحده، إنَّما كذلك ضدَّ القيود الاجتماعيَّة، المغلَّفة بثوب الأخلاق والقيم الدّينيَّة. يتشدَّق الصُّحافي الموالي للنّظام بعبارات تحضُّ على الفضيلة، الَّتي هو أبعد النَّاس عنها، وتدعو إلى تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة لدرء المفاسد. بالطَّبع، تسعى الكاتبة بذلك من جديد إلى إبراز نفاق مدَّعي الالتزام بأحكام الإسلام، الَّتي تصير كذلك مجرَّد أداة لإمداد الحاكم بشرعيَّة حُكمه (صـ167-168):

تمرُّ بلادنا بمرحلة خطيرة. مدينة القاهرة أيُّها القراء الأعزاء لم تعد هي المدينة الَّتي عرفناها، كل يوم نسمع عن أحداث يقولون عنها مؤسفة وهي أحداث خطيرة، تنبئ بانفجار وشيك، ثورة الجياع والرعاع من أولاد الشَّوارع، ثورة النّساء المقلدات لنساء الغرب يعارضن القيم الأخلاقيَّة الَّتي درجنا عليها، وتقاليدنا العريقة، وأحكام الله في ديننا الحنيف…الإسلام أيها القراء الأعزاء هو دين الله الحق، الإسلام صالح لكلّ زمان ومكان، فيه من الكمال مما يفرض علينا الالتزام به في كلّ مكان وزمان…

ومن المفارقات أنَّ الكاتبة تدَّعي القبض على صحافي شابّ، وتعذيبه في المعتقل، واتّهامه بازدراء الأديان؛ لأنَّه كَتَب مقالًا انتقد فيه غُسل الميّت وقال عنه إنَّه “عادة قديمة لا علاقة لها بالأديان”، مبرّرًا ذلك بأنَّ ” الإسلام بُني على العقل، كل ما يبني العقل والمعرفة يدخل في الإسلام” (صـ183). والسُّؤال: لو أنَّ الَّذين يطعنون في الإسلام تعاقبهم الأجهزة الأمنيَّة، فكيف جرأت السَّعداوي أن تطعن في الذَّات الإلهيَّة وتسخر من ثواب الدّين منذ سبعينات القرن العشرين وحتَّى نشرت هذه الرُّواية عام 2009م؟! على كلّ حال، توصل الكاتبة رسالة تمرُّديَّة على لسان الصُّحافي الشَّاب تعلن فيها تحرُّرها الكامل من قيود الدّين، في استنكار تامّ لعواقب تطبيق أحكام الدّين في الحياة العامَّة، ولا تفوّت الفرصة دون إنكار العذاب في الآخرة (صـ184):

نحن نرث الدّين عن الأب والجد، سلوكنا الأخلاقي يعتمد على الوعي والضَّمير وليس على الدّين. هناك قساوسة ومشايخ يغتصبون الأطفال ويختلسون الأموال، هناك نساء ورجال لا يؤمنون بأيّ دين، لكن أخلاقهم مستقيمة، يدافعون عن الحقّ، يموتون من أجل الدفاع عن العدل والحريَّة. الموسيقى ترفع الروح، توقظ الضمير، الموسيقى لا تسبِّب الفتن ولا الحروب، الأديان تسبِّب الفتن الطائفيَّة والمذابح، لا علاقة بين العدل والدين. يمكن أن يكون هناك عدل في عالم ليس فيه دين، لا علاقة بين الأخلاق والدّين، يمكن أن يتحلى النَّاس بالأخلاق دون أن يكون لهم دين، بل إنَّ الدّين له مكيالين أو أكثر للقيَم والأخلاق، مكيال للرجال ومكيال للنّساء، مكيال للحاكم المالك، ومكيال للعبيد المحكومين المملوكين، الأُجراء، الفقراء، أنا تعبان تعبان، مرهق، أريحوني من عذابكم. الجحيم هنا فوق أرضكم وليس بعد الموت، الموت راحة منكم، ولا جحيم في الموت أو بعده.

يموت الصُّحافي المعارض، لأحكام الشَّريعة قبل النّظام الحاكم، شهيدًا شهيد لتحدّي قيود الدّين، بـ 3 رصاصات يخترقن صدره أثناء التَّحقيق، لتنطلق ثورة شعبيَّة تضمُّ كافَّة أطياف الشَّعب المصري من أصحاب المظالم. أمَّا عن شعار الثَّورة، فهو (صـ185):

كفاية دين عاوزين (نريد) تموين.

كفاية طقوس عاوزين غموس.

كفاية صيام وصلا (صلاة) عاوزين ميَّه وهوا.

كفاية مسابح عاوزين مخابز.

كفاية كنايس ومساجد عاوزين مدارس

تتقدَّم زينة بنت زينات صفوف الجماهير الثَّائرة، وهي تغنّي وتعزف على العود، بينما تجهَّز رجال الأمن بالسّلاح لمواجهة التَّحرُّك الجماهيري، وكأنَّما يتأهَّبون لملاقاة العدوّ في معركة حربيَّة. وبينما هي تغنّي وتلهب حماسة الجماهير، تُصاب زينة برصاصة ترديها ميتةً، بعد أن أشعلت الثَّورة على القيود، وشجَّعت النَّاس على المطالبة بحقوقهم. في حين تموت أمُّها البيولوجيَّة، بدور الدَّامهيري، قهرًا بعد عجزها عن البوح بحقيقة علاقتها بزينة، وكذلك عن تحرير المرأى من العنف الزَّوجي، وعن الدّفاع عن حقوق أبناء الشَّوارع والنُّهوض بأحوالهم. وآخر ما يفاقم الشُّعور بالفشل وخيبة الأمل لدى بدور رفْض البرلمان المصري مشروع قانون بنوده هي: “تقديم الرجال للمحاكمة في حالة ثبوت الخيانة الزَّوجيَّة؛ ولا يحقُّ للزَّوج معاشرة زوجته جنسيًّا بالقوَّة والعنف في أي وقت؛ ويحق للأم أن تعطي اسمها لطفلها غير المعروف الأب” (صـ191). وكان الأزهر الشَّريف قد رَفَض عام 2008م بالفعل مشروع قانون يسمح بنسب الطّفل لأمَّه، بينما تردَّدت أقاويل في يونيو 2021م عن دراسة مقترح قانوني يعاقب الأزواج في حالات “الاغتصاب الزَّوجي”، ويُلزم الأزواج بأخذ موافقة من الزَّوجة قبل المعاشرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى