مقالات

الغباء ومتلازمة عوز التهندس!

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب

بداية من المهم الإشارة إلىٰ أنَّ هٰذا المقال جزء من كتابي: فلسفة الأغبياء وفنونهم في الغباء، الذي صدر في ا لعام الماضي، عام 2020م.
في أحيان كثيرة، في هٰذه الأيام من عصرنا عصر العجائب الجنونية، لا تستطيع إلا أن تنعت تعاظم الفساد بأنه مؤامرة، وتتلمس خيوط المؤامرة بسهولة من خلال ترابطات تفرض ذاتها عليك شئت أم أبيت.
حمى الدكترة التي كتبت عليها منذ نحو خمس سنوات متتبعاً هٰذه الظاهرة التي تخرج منها رائحة الفساد بشدة، لم أفكر فيها تفكيراً مؤامراتيًّا، وإنَّمَا حللتها بوصفها ظاهرة اجتماعية منتشرة، ولم أتعمق كثيراً في تحليل هٰذه الظاهرة وسبر أسبابها وأبعادها ومخاطرها، وإنَّمَا أوجزت تبعاً للهدف المحدد الذي تتبعت من أجله تلك الظاهرة.
ظاهرة حمى الدكترة لم تكن وليد ذٰلك العام، أي قبل نحو خمس سنوات، بل وليد أعوام سابقة تصل إلىٰ ما قبل ذٰلك بما ينوف علىٰ العقد ونصفه تقريباً عندما بدأت بالاستشراء علىٰ نحو خجل، ثُمَّ صارت ظاهرة عامة من دون أي حياء أو خجل فدعك بعد ذٰلك من الشعور بالعار.
ما إن تمكنت تلك الظاهرة واستحكمت وفقدت الدكترة قيمتها ومعنويتها وهيبتا وجلالها حَتَّىٰ بدأت الخطوة التالية من الفساد العقلي والقيمي. وكأنَّ ثَمَّةَ مخرج يمرر حلقات المسلسل المخطط تباعاً؛ خطوة تلو خطوة.
مثلي مثل أي إنسان لا بُدَّ أن يكون له في كل عام من الأقرباء أو الأصدقاء أو المعارف أومن أبنائهم من ينجح في الثانوية العامة ويريد الالتحاق بالجامعة، وتدور الأحاديث في ذٰلك والمشاورات وما شابهها.
ـ ماذا سجلت/ ستسجل في الجامعة؟
ـ هندسة بيولوجية.
هندسة بيولوجية. اسم أو اصطلاح مستخدم منذ نحو عقدين علىٰ الأقل. فيه وجهة نظر. هو في الحقيقة بيولوجيا لا أكثر. كل ما في الهندسة الوراثية كان يقوم به البيولوجيون عبر قرون سبقت.كل ما في الأمر هو زيادة مساحة علم الوراثة وقواعده البيانية وآفاق عمله. ومع ذٰلك فيه وجهة نظر؛ من المنطقي بعد التطورات الهائلة في علم الوراثة أن يسمى هندسة وراثية.
عندما كنا طلاباً في الجامعة لم يكن هناك سوَىٰ أربع أو خمس هندسات: الهندسة المدنية، والهندسة المعمارية، الهندسة الإلكترونية ومعها الهندسة المكانيكية واعتبرهما هندستان وهما كذٰلك. والهندسة الزراعية. ثُمَّ في تلك الأيام نشأت تقريبا استحدثت الهندسة البترولية وقد كانت موجودة في العالم الغربي قبل ذٰلك بسنوات.
ثُمَّ ما لبثنا أن سمعنا بالهندسة المعلوماتية التي كانت فرعاً في الهندسة الإلكترونية ثُمَّ انفصلت عنها وليداً هندسيًّا علىٰ الفور. اعترض بعضهم علىٰ تسمية المعلوماتية بالهندسة لعدم حملها مقومات الهندسة، وفرح بعضهم بالتَّسمية… ومضى الأمر.
ولم تمض سنوات قليلة حَتَّىٰ ولدت الهندسة الوراثية وكانت إثر الكشف عن الخريطة الوراثية للإنسان والبدء بعمليات الاستنساخ والتحكم بالمورثات فلم تجد الهندسة الوراثية من اعتراضات علىٰ هٰذه التسمية بسبب الصدمة التي ولدت بها هٰذه الهندسة، علىٰ الرَّغمِ من أَنَّهَا عمل بيولوجي، علوم أحياء.
وفجأة ولد اختصاص جديد هو الهندسة الطبيَّة!!
وما الهندسة الطبية؟
إنَّهَا صناعة الأجهزة الطبيَّة.
أين الهندسة في صناعة هٰذه الأجهزة؟
اسكت ولا تعترض. هي هندسة وحسب.
وفجأة برز أيضاً للوجود اصطلاح جديد هو الهندس الكيميائية.
وما الهندسة الكيميائية؟
إنَّهَا صناعة المنظفات والمركبات الكيميائية.
ولٰكنَّ هٰذا عمل الكيميائي منذ أيام الحضارة العربية الإسلامية قبل مئات السنين وإلى الآن. فماذا عدا وبدا حتى صارت الكيمياء هندسة؟
انس، واسكت، ولا تناقش. هي كذٰلك الآن هندسة.
الغريب في الأمر في هٰذا السِّياق أن الصِّناعة الصَّيدلانيَّة التي هي كيمياء لم تسمَّ: هندسة الأدوية، ولا الهندسة الطبية. لقد ناضل الصَّيادلة في سوريا، ولأسباب سياسية، استصدروا قراراً رئاسيًّا بتسمية الصيدلاني بالدكتور. الصيدلاني دكتور. كيف ولماذا وبأي حق وبأي صفة؟!؟!؟ لا أحد يعلم.
علىٰ أيِّ حال، دعك من هندسة الصيادلة ودكترتها. ليست موضوعنا.
الهندسات المستجدة السابقة صارت أمراً واقعاً، بعضها فيه وجهة نظر، وبعض مثار شك وارتياب… ولٰكنَّهَا كلها بمعنى من المعاني مبلوعة، ومهضومة. وعنها شأت فروع أو تخصصات جديدة حملت اسم الهندسة بحكم الوراثة مثل الهندسة البرتوكيماوية… وغيرها. وأيضاً بحكم الوراثة كانت مبلوعة ومهضومة.
المفاجأة كانت أن تسمع بالهندسة الإدارية. ومعه بالهندسة الاقتصادية… ولا تضحك وأنت تتابع تحول كل العلوم ما عدا الطِّبيَّة إلىٰ هندسات: هندسة الحسابات، هندسة المعادن أو هندسة التعدين… هندسة مناجم، هندسة فيزيائية، هندسة دوائية، هندسة غذائية، هندسة أخشاب، هندسة بلاستيكية، هندسة ورقية…
والأغرب ذٰلك والأعجب والمدهش أن العلوم الأدبية صارت هندسات أيضاً: هندسة اجتماعية، هندسة تربوية، هندسة لغوية، هندسة موسيقية…
هٰذه التسميات تسميات رسمية في أكثر الجامعات العالمية اليوم وليست تسميات طلابية علىٰ غرار ما يفعل الطلاب في كل كلية بإطلاق ألقاب وأسماء وصفات علىٰ كلياتهم واختصاصاتهم.
ما هٰذا؟
ما الذي يدور؟
ماذا حدث في الدنيا وللدنيا؟
لما تمت هندسة كل شيء؟!
لما صارت كل العلوم هندسات؟
العجيب أَنَّهُ عندما كانت العلوم علوماً بمسمياتها الطبيعية والحقيقية كانت الحياة البشرية تسير علىٰ نحو جيِّد. وعندما صارت كل العلوم هندسات فقدت الحياة البشرية هندستها الطبيعية وتحولت إلىٰ سيول وفيضانات فساد ولا إنسانية.
لماذا هٰذا الغباء في تسمية الأشياء والأمور والعلوم بغير مسمياتها؟
أحمق كتب علىٰ كيس السكر: هٰذا كيس ملح. كي لا يأتي إليه التمل.
ماذا سيحدث إذا غيرنا هٰذه الأسماء؟
هل ستتغير طبائع الأشياء؟
إِنَّهُ عقدة النقص الغبية الحمقاء التي لا تقتنع بقيمتها ومكانتها وسقفها وتحسب أَنَّهَا بتغيير هٰذه التسميات ستتساوى مع الآخرين من المهندسين. وفي الوقت ذاته هي استغباء من أصحاب الجامعات ومديريها. القائمون علىٰ الجامعات يستغبون الطلاب من أجل كسب المال وكسب الطلاب بهذه الإغراءات اللفظية.
وفي الأحوال كلها هي ممارسة غبية بامتياز تستلب الإنسان وتقوم بتحويل البشرية إلىٰ مجتمع رقمي، كل الشهادات إما دكاترة أو مهندسون. والأدهى من ذٰلك كله هو انعدام فرص العمل أمام الجميع إلا بالاستثناء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى