مقالات

مأساة التعليم في سوريا

د. صابر جيدوري

أكاديمي وباحث سوري.
عرض مقالات الكاتب


من المعروف تاريخياً أن سوريا، قبل وصول النظام السياسي الحالي إلى سدة الحكم فيها، كانت بلداً يمتلك تجربة تعليمية واعدة، وكان فيها من المقومات ما يجعلها قادرة على منافسة الكثير من الدول في مجالات التنمية المختلفة، ففي سوريا تتوافر القدرات البشرية الذكية والمناسبة لكي تؤدي دوراً متميزاً على الصعيد المجتمعي، وكان يوجد فيها قيادة وطنية مستوعبة ومدركة لما تملكه سوريا من قدرات وعقول قادرة على وضعها في مقدمة الدول التي تتنافس على توفير الطاقات البشرية اللازمة لحاجات سوق العمل العربي والدولي، إلا ان هذا الطموح لم يتحقق، وبخاصة بعد أن سيطر البعث على السلطة، وما مارسه في السنوات العشر الماضية من تدمير ممنهج لكل مقومات الحياة في المجتمع السوري، والتي حولته من مجتمع للارتكاز العلمي الابداعي الى بؤرة سلبية تُضرب بمنظومته التعليمية كل الأمثلة السيئة، فضلاً عما أصاب المنظومات الأخرى من فساد وتشويه أدى إلى خراب المجتمع على المستويات كافة.
لا شك أن الحديث عن مأساة التعليم في سوريا له أبعاد كثيرة لا يستطيع مقال واحد أن يغطيها جميعاً، ولكن لابأس من الإشارة إلى بعضها، والتأكيد بداية على أنه لم يثبت في سوريا بعد أكثر من خمسين سنة من حكم السلطة القائمة أن منظومة التربية والتعليم تُمكن الشباب من المهارات التي يحتاجها سوق العمل بالمعايير المعتمدة دولياً، وما زالت مخرجات التعليم تفتقد إلى أهم الكفايات اللغوية، وتلك الخاصة بمهارات تكنولوجيا المعلومات، فضلاً عن عدم تمكين الشياب من كفايات التفكير المنطقي لمواجهة تيار التغيير بمنهج علمي في ميادين الحياة المختلفة.
كما لم يثبت أن فلسفة النظام التعليمي قائمة على مرجعية محددة مبنية على تصورات علمية غير تلك الفلسفة التي تفرضها السلطة وتنسجم مع نسقها السياسي، هذا النسق الذي لم ينتج للمجتمع السوري إلا الأمية والجهل، ولا أقصد هنا الأمية الأبجدية مع أن نسبتها ارتفعت في السنوات الأخيرة في المجتمع السوري، وإنما الأمية التكنولوجية والحضارية والقيمية، ولم يفرز هذا النسق السياسي إلا الفشل المدرسي بأشكاله كافة، والدفع بآلاف الخريجين إلى حيز البطالة، مما جعل منظومة التعليم برمتها معطوبة غير قادرة على ضبط مسارها، وتحسين كفاياتها.
إن هذا الكلام لا تستدعيه هنا الرغبة في تشريح منظومة التربية والتعليم بالمعطيات والإحصاءات المعاشة، وهي محزنة ودامعة بكل المقاييس، ويكفي أن كل التقارير الدولية المهتمة بتقييم الأنظمة التعليمية تضع التعليم السوري اليوم في الرتبة الأخيرة بعد أن كان نموذجاً مشرقاً في التربية والتعليم والبحث العلمي، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على الأزمة التي يمر بها قطاع التربية والتعليم، والناتجة أساساً عن الأزمة السياسية، وإخفاق المسؤولين في إصلاح هذا القطاع، وما أحدثته حرب النظام على الشعب من كوارث على الصعيدين التربوي التعليمي.
إن كل تشخيصات خبراء التعليم تفيد أن الواقع التعليمي في سوريا اليوم هو واقع كارثي بكل المقاييس، وإن أبرز صور هذه الكارثة لا يتوقف عند وضع التعليم السوري في رتبة متأخرة في التقارير الدولية، ولا يتوقف أيضاً عند قضية الانتماء الوطني، وانما هناك هدماً منظماً وممنهجاً للتعليم قامت به السلطة الحاكمة في السنوات العشر الأخيرة، فقد بين تقرير اليونيسف بشأن الفرص التعليمية إن أطفال سوريا اللاجئين هم الآن من بين الفئات الأكثر تهميشاً في العالم، ووفقاً لأرقام رسمية صادرة عن الأمم المتحدة في نهاية عام 2014، فإن معدل الالتحاق بالمدارس للأطفال السوريين اللاجئين هو فقط 38٪ (UNICIF, 2015)، ولو كانت بيانات اللاجئين السوريين غير المسجلين لدى الأمم المتحدة متوفرة، لكان لدينا أرقاماً مفزعة ومثيرة للقلق أكثر مما هو الآن.
مع ملحوظة أن مأساة التعليم السوري تعكسها الكثير من المؤشرات، ويتحمل مسؤوليتها كل من النظام والمعارضة المرتهنة للخارج، فقد رصد تقرير اليونيسيف نفسه، حالة تعليم الأطفال في سوريا منذ 2011 وحتى نهاية 2014، موضحاً أن التعليم في حالة انهيار شامل مع وصول نسبة الأطفال غير الملتحقين بالتعليم الأساسي من إجمالي عدد الأطفال في هذه الفئة العمرية إلى 50.8% خلال العام الدراسي 2014 – 2015، في حين أن نصف الأطفال تقريباً خسروا ثلاث سنوات من الدراسة (UNICIF, 2015).
ومن المؤشرات التي تعكس مأساة التعليم، الانهيار شبه التام للمدارس، وما يرتبط بها من ظواهر سلبية خطيرة منها: الاكتظاظ الشديد داخل الفصول الدراسية، وضعف التعليم، واهتراء البنية التحتية، وتدهور الوضعية المادية والمعنوية للمدرسين، وتدهور مستوى الخرجين، وعدم ملاءمة مخرجات النظام التعليمي مع حاجات سوق العمل، فضلاً عن الإخفاق الكبير في السياسات اللغوية التي لم تُمكن الطلبة لا من اللغة الوطنية، ولا من اللغة الإنكليزية، ولا من اللغات الحية الأكثر ارتباطاً بتطور العلم والتكنولوجيات الجديدة.
كل ما سبق وغيره كثير، لم يكن إلا بسبب نظام سياسي لا يهمه من سوريا إلا الاستمرار في السلطة، وبسبب معارضة أهدرت الملايين من الدولارات التي خصصتها الدول والمنظمات الإنسانية لتعليم اللاجئين السوريين، فلم ينظروا إلى قطاع التعليم إلا من بوابة توظيفه لدعم النسق السياسي السائد لكل منهما.
وعليه، يجب العمل مستقبلاً على مواجهة هذه المأساة من خلال إصلاح التعليم، وبث القيم العلمية، وما تتطلبه من قيم الحرية والديمقراطية، وتكوين الفكر النقدي، وتدريب النشء على أساليب الحكم الصحيح والمحاكمة السليمة، وتوجيه مناهج التعليم وطرائقه إلى تدريب الطلاب على مناهج اكتشاف المعرفة والحقائق العلمية، وخلق عقلية تؤمن بالتغيير، لأن خلق مثل هذه العقلية هو المدخل الأساس للخروج من مأساة التعليم التي أنتجها النظام بفعل سياساته الأمنية الهمجية، وبفعل ممارسات المعارضة التي تسلقت على ثورة السوريين بدعم من الدول التي لا تريد الخير إلى سورية وشعبها العظيم.

مرجع المقال

  • UNICIF. (2015). Education under fire. how conflict in the middle east is depriving children of their schooling. September 2015, retrieved
    fromhttp://www.unicef.org/education/files/EDUCATION-under-fire-September-2015.pdf on 01/ 08/2016.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كان في الوطن العربي تعليم نوعي جيد أيام الدولة العثمانية و أيام الاستعمار القديم (فرنسا ، بريطانيا) و دليلي على ذلك بسيط : جدَي الشيخ المجاهد رحمه الله مؤسس أول مدرسة في قريته كنموذج على العصر الأول و والدي الشيخ الفقيه العالم المهني المحترف الشاعر رحمه الله كنموذج على العصر الثاني .
    أنا لا أمدح الاستعمار القديم فلقد كان سيئاً من عدة جوانب لكن تدخله في سير العملية التعليمية كان محدوداً و لذلك كان بإمكان المخلصين في التعليم المدرسي و التعليم الجامعي إنجاز منتجات ذات جودة تتمثل بمن أنهوا المدارس و هم مؤهلون للعمل في سلك التعليم و تتمثل بمن حصلوا على الدرجة الجامعية الأولى و هم علماء بمعنى الكلمة قادرين على القيام بوظائفهم بكفاءة عالية .
    أنا الآن رجل كبير السن و رأيت على أرض الواقع متى وكيف انتقلت المدارس و الجامعات من “البدايات المشرقة” القديمة إلى “النهايات المحرقة” الحالية . مثلاً ، كان الأزهر في مصر ينتج علماء يشار لهم بالبنان قبل انقلاب تموز/يوليو عام 1952 و كان يكفي أن يقال أن الشيخ فلان أزهري ليعني ذلك المعلَم الجيَد و الخطيب المتألق الذي ينهل الناس من علمه ثم إن الانقلابيين تدخلوا في شؤون الأزهر فأفقدوه جوهر عمله و تدنَت مكانته فصار غير متميز في شيء . مثال آخر ، كان الطبيب الذي يتخرج من جامعة دمشق نطاسياً بارعاً دقيق التشخيص للمرض و دقيق الوصف للعلاج و حين يتحدث في العلم تراه يغرف من بحر و يقع في قلبك هيبة منه و لا تزال عندي كتب من إنتاج أطباء ذلك الزمان و من المؤسف أنني أضعت أعداد مجلة “طبيبك” -التي كنت أحرص على اقتنائها باستمرار – عبر إعطائها لأصدقاء لا يعيدون ما استعاروه.
    حصل التدهور في التعليم المدرسي و التعليم الجامعي في سوريا عقب انقلاب آذار /مارس عام 1963 و بشكل متدرج لوجود بقية من أولي الألباب في المجالين و صار المنحنى يسير هابطاً نحو هاوية سحيقة .
    القاسم المشترك بين مصر و سوريا أن التردَي قد حصل في كليهما بعد انتقال السيطرة عليهما إلى الاستعمار الفرعوني الجديد و هو استعمار فظَ يتدخل في كل شيء مهما كان صغيراً و له طراطير نواطير يتحكمون بالعباد و البلاد من خلال قبضة أمنية حديدية . هؤلاء المتحكمون لا مانع عندهم أن يكون وزير التعليم طبيباً بيطرياً و يجيزون أن يكون رئيس جامعة تافهاً أزعر يعمل على تحويل الجامعة إلى فرع من فروع المخابرات . حين يكون مدير التعليم من أزلام أبي جعفر و حين يكون عميد كلية من أزلام أبي حيدر و حين تكون الواسطة و المحسوبية هي أساس التعيينات و حين يتقاعد العالم ليحلَ مكانه المتعالم … حينها اقرأ على روح التعليم الفاتحة . يبقى الإعلام الدجال مستمراً في بثَ أكاذيبه فيتصور الساذج المتلقي أن الأمور بخير و أن حمار الرياضيات هو عبقري الرياضيات لكن الواقع المحسوس يصرخ بأن البلد قد عادت بالفعل إلى العصر الحجري على أيدي من إذا خاصموا فجروا في الخصومة ، و لا حول و لا قوة إلا بالله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى