ثقافة وأدب

مقدمة شيخ العربية الأستاذ الدكتور سعد مصلوح لديوان بالنار على جسد ميت للشاعر السوري إبراهيم الأسود

د. سعد مصلوح

هـذا الـديـوان، ومـا أدراك مـا هـو!!
مُتعةٌ أن تقرأ شِعراً ؛
ومتعةٌ مضاعفَةٌ أن يكون ما تقرأ من شعر هو ما هو في بابه جَزالةً وأصالةً؛
أما المتعةُ المثلثة التي تُحيزُكَ اللذة محضاً لا يشوبها نقصٌ أو كُدُورة، وتُوفِي بِكَ على الغاية من العَجَب والإعجاب – فأن يكون الشاعر من صنيفة صاحب هذا الديوان.لقيتُ الشاعر من سنوات قِلال، حين عرَّفني إليه الابن والصديق (والدكتورُ غيرَ بعيدٍ بإذن الله) عبد الله عيسى. وفي ذلكم المجلس الكريم الذي ضمنا أعثرتني المقادير بكنـزٍ لـمَّا يُعرف خبْؤُهُ. وعلى عادة الشعراء في كل زمان، تناشدنا القصيد؛ فأسمعني وأَسمعتُه. بيد أني كنتُ أحظى بالسماع مني بالإسماع؛ إذ أفاءت عليَّ عرائسه المجلوَّات من بهجة السمع والفكر ما هو معجوبٌ منه، ومعجوزٌ عن وصفه. من يومها تعلقت أسبابي بأسبابه، ووجدتُ في شعرهِ ملاذاً ووَزَراً من صحبة نفرٍ غير قليل في هذا الزمان، ممن احتازوا شارة الشعر بِلَيِّ الذراع زوراً ودعوى، واستظلوا من صناعة القصيد بشجرة صلعاء نفضتْ أوراقَها، ومَعْطُوبَ ثمراتِها، حتى جاءوا إلى الناس بالشعر وقد ضَغَثُوا فيه الكلام، وأركبوا بعضه بعضاً، وجعلوا فيه من المعاني كل ما طُوِيَ ونُشر وابتُذِلَ رُؤاهُ، وتلافظته الفِكَرْ. وأين أولئكم من شاعرنا إبراهيم عبد الحميد!؛ وإني لأحسبهُ ممن رضيَهم الإبداع له أهلاً، فنـزع به وبشعره إلى عِرقٍ كريم ضاربٍ بجذوره في عمق النغم العربي الأصيل.

إنك لترى شاعرنا من أمر اللغة العالية المُبِينَة على مَثْرَاةٍ من الدراية والرواية، وتشهدُ في شعره فرسانَ القريض وقد استدعاهم فاستجابوا له، وإذا أطيافهم تُلِمُّ به؛ تُداخِلُهُ وتُحاوِرُهُ في نسيقٍ فريدٍ من الأنغام المتجاوبةِ الشاجية؛ يعيشون معه عصرنا، ويتذاوقون ما لأيامنا من مرارة وحلاوة في نمط من القول الشعري صَعْبٍ ومذهلٍ ومخيف.
مع قصيد “إبراهيم” تجد النفس مُرسَلَةً إلى غاية التخيل، وتُحِسُّ ماء الشعر ينطفُ بكلماته رقَّـةً وصفاءً وعذوبة، وبأصداء النغم تتجاوب في جوانبه بالعزف المُتْقَن والأداء البارع. وإن أنامله لتتهدَّى إلى مواقع الضرب على الأوتار، وتتعرَّفُ رشاقة الانتقال بينها من مقام إلى مقام، وتُجيدُ في أناقةٍ إبداعَ النمنمات والزخرف النغمي، فتستدعي بذلك أسرار الصناعة عند الفحول العظام من سادة الكلام. واستمع منه لهذا الشاهد البديع من مفتتح قصيدة “الفتـح” – وهي مِدحةٌ نبوية باذخة – وفيه يقول:
رَقَى بِيَ الوَجْدُ لكن ما التَمَسْتُ رُقَـى ولا تمنَيْتُ دَمْعـي أن يَكـونَ رَقَـا
وأَخْلَـقَ الحُبُّ وجداني، فما وَجَـدَتْ نَفسي، وما قُلتُ: لَيْتَ الحُبَّ ما خُلِقا
أيَّـانَ أَصْرِفُ وَجْهي عَـن ثَنـاكَ ولي حَشْـوَ التَرائِبِ نَفْسٌ تَعْـشَقُ الأَلَقـا
وكيفَ أُغْمِـضُ عَنْ لأْلائِـهِ بَصَـراً ما عَايَـنَ البَـرْقَ إلا كَـادَ أو بَرِقـا
رُحْمى جَمَالِكَ، لَمْ تُـبْقِ الصَّبَابَـةُ لي صُـبَابَـةً فَـأُداري دُونَـها الوَمَقـا

ولم أشأ للاستدلال أن أصفح الديوان كله أو أقرأهُ على مُكثٍ لأختار منه على تلَبُّثٍ. وإنما مفتتح القصيدة التي اخترتُ منها هو مفتتح الديوان، وكلُّ ديوانهِ شاهدٌ على ما ذكرتُ من مهارةٍ ظاهرةٍ بالعزف على أصوات العربية، واستخراج لَطِيفٍ لدقائق العلائق المعجمية بين كلماتها.
والشاعر لا يبدهُكَ ببراعة الاستهلال حتى يُسلمكَ لبداعة الختام. ولهذه الخصيصة حضور ظاهر في كل قصائد الديوان. وحسبنا تصديقاً لذلك أن نَقْبِسَ ثلاثة الأبيات الخاتمة لقصيدته “بغداد”، وهو مَثَلٌ يدُلُّكَ على سائر ما يرد في هذا الموقع:

يا أُمَّـةَ الإسلامِ صَبْـرا! إنَّما للهِ فيـنـا رَجْعَـةٌ ومَعَـادُ
تا اللهِ ما ماتَ العِـراقُ وإنَّما هي هَـزَّةٌ كَي يَصْحُـوَ الرُّقَّادُ
ما هذه أعْراضُ موتٍ. أبْشِري يـا أُمَّـتي؛ فلَـعَلَّـهُ الميـلادُ

إلى ذلكم يستيقظ النَظَرَ في ديواننا هذا – ولعلها السمة الغالبة على جميع شعره – أمور:
أولها : بروز الجُرح العربي وآلامُ الوجيعة العربية في المحتوى الشعري حيثما وليتَ وجهك، والوعيُ الحادُّ بأزمة الإنسان العربي في صراعه مع السلطة الجائرة المستبيحة، وفي نضاله ضد التخلف الذي يربط عجلة التقدم بمقابر الأجداد. والشاعرُ صَدَدَ هذه الجوائح لا يُلاوذ أو يراوغ، وهو يرى بنيان الأجداد وقد تداعت قوائمه، وانخفست أركانه، وتهاوت القيم الراشدة التي كانت تحفظ على الأمة كينونتها، فإذا أبناؤها وقد تقطعوا أمرهم بينهم زُبُراً كل حزب بما لديهم فرحون.
والثاني : تلكم الموهبة الفاذَّةُ القادرة على استثمار الخبرة باللغة، وترويض عصيِّها لصناعة السخرية اللاسعة، الناكئة للجروح، والفاضحة لفوادح المشائن والعيوب في غير ما رفق ولا هوادة ولا تَحَسُس.
وآخرها : الإلحاح على توثيق الصلات الشابكة بين حاضر الإبداع في الأمة وماضيه، في اتكاءٍ ظاهر على رياضة تقنيات الفن الشعري؛ محاوراً بالتشطير لقصيدة السموأل بن عادياء، أو مستنطقاً فرسان المقال كعمرو بن كلثوم، في رؤىً عصرية كاشفة عن بُعْدِ البونِ بين ما كان وما هو كائن. والشاعر في هذا لا يُدابِرُ رَحِمَهُ فَيَقْطَعَها، ولا يُرْخِصُ في بضاعته، ولا يُراودُ قُرَّاءهُ عن عقولهم أو يُداجي عواطفهم، وتلك لعمري أمانة المواجهة وبالغ تأثيرها؛ حين تعتضِدُ بِرَوعة الفن، وعُرامِ الكلمة الصادقة التي استوفت تمام حظها من الجمال والجلال.

وأقول تماماً على ما قدّمتُ من حديث لكل من شاء من ذَاقَةِ الشعر وعاشقيهِ أن يلتمس لنفسه رَوحَاً ورَاحَةً: ما لكَ إلا أن تَسْتَكِنَّ مِن رَمضاء حياتنا الضنينة بالمواهب في ظلال هذه الواحة؛ فإنك واجد فيها من لذائذ التلقي ما يعطفك إلى الشعر الأصيل، ويردك إلى رحاب المُرَّادِ من عمالقة الشعر العربي القديم في زمن فَسَحَ مجالَ القول رَحْباً لمن يخردلون علينا المجالس، ولا يميزون بالبصائر المؤوفة بين الليل الدامس والصبح الشامس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى