مقالات

التيار الوطني المنشود وحراسة الديمقراطية – “تركيا نموذجا”

محمد عماد صابر

برلماني مصري سابق
عرض مقالات الكاتب

في منتصف شهر يوليو الجاري تحل الذكرى الخامسة لتصدي الشعب التركي لانقلاب العام 2016 و هو حدث شعبي يستحق الإشادة والاحتفاء والعزة والفخار ، لأن تاريخ وحاضر الانقلابات العسكرية والتي تقع أغلبها في أفريقيا والمنطقة العربية لم تشهد هذا النوع من الإيجابية الشعبية غير المعهودة ، لأن المعهود عندما تنزل الدبابات والآليات إلى الشارع بالتزامن مع البيان التليفزيوني بحدوث الانقلاب لا ينزل الشارع إلا المؤيد والداعم لهذه الجريمة القانونية والدستورية الشنعاء ، لكن الجديد هو أن تملأ الشوارع بشلالات من البشر الرافضين للانقلاب بتصد وصمود واشتباك خشن ومنع الدبابات من السير والحركة وهو ما يذكرنا ببسالة وبطولة مدن القناة المصرية في التصدي للاحتلال وقد تكرر عدة مرات منها العام 1956 والعام 1973 ، أكرر شلالات من البشر تصدت للدبابات والآليات وحاصرت بعض المناطق والوحدات بل والمرافئ والمطارات وليس مجرد اعتصامات وتظاهرات ،

شلالات جارفة وتيارات شعبية زاحفة من كل الألوان والأطياف والأفكار والمذاهب والمعتقدات والأعمار ، نزل الشعب التركي ليقول لقطاعات الجيش المنقلبة و لدول العالم المتآمرة ” هنا الشعب ، صاحب السيادة والكلمة والاختيار ، وأن زمن الانقلابات العسكرية قد ولى بلا رجعه تصدى للانقلاب من هم مع اردوغان ومن هم ضده ، من انتخبه ومن حاولوا إسقاطه ، من يؤيدونه ومن يعارضوه ، لكنهم جميعا يريدون تركيا الجديدة ومسارها الديمقراطي كلمة السر في التغيير والتدبير والحقوق والحريات والكرامة والمكرمات ،

نموذج من الوعي الفكري والعقلي والوجداني الراقي الذي بنته التجربة الديمقراطية منذ التسعينيات وما قبلها من الستينيات بالتزامن مع مرحلة الشهيد البطل عدنان مندريس ، هذه الجموع البشرية متعددة الألوان والأفكار ورصيد التجربة والعقل الجمعي التركي أيقنت أن المسار الديمقراطي هو الأسلوب الأمثل لحل كل المشكلات التي يعانيها الشعب وان تأخرت بعض الحلول لكنها قادمة حتما ، وأن الحكم العسكري لا يقدم حلول ولا صلة له بالحياة المدنية و له مهمة وظيفية محددة من خلال مؤسسة تابعة للدولة كباقي المؤسسات ، وليس مؤسسة سيادية ولا من فيها سادة على غيرهم ،

التيار الوطني العام الذي تصدى للانقلاب أفرزته التجربة والمسار الديمقراطي حين اتسعت مساحات الحرية والحركة والتعبير والمشاركة و المسؤلية واستطاع أن يوازن بين طرفي معادلة الحقوق والواجبات ولم يضحي بالدولة ككيان ولا بالمسار الديمقراطي كمنهج ولا بقيادات التجربة كنموذج من أجل مطالب فئوية يمكن الصبر عليها بعض الوقت ، ولا من أجل مكايدة سياسية للتخلص من أشخاص وكيانات على أمل أن تخلى الساحة للآخرين ثم يأتي العسكر ليأكلوا الثور الأبيض وبعدها يهلكوا البشر والشجر والحجر معا كعادتهم ،

التيار الوطني العام الذي تصدى للانقلاب كان الحصن لحماية رئيس الدولة المنتخب حين طلب ، والدعم لمؤسسات الدولة حين ارتبكت واهتزت ، وحائط الصد بصدور عارية أمام تقدم كتائب الانقلاب المتمردة ،

التيار الوطني العام الذي تصدى للانقلاب ، قام بدور الدولة ومؤسساتها حين كان الاشتباك والارتباك والفوضى ودفع البعض دمه وروحه فداء لأمته وشعبه وأهله حتى لا ينهار الصرح الديمقراطي الذي عاشوا فيه حياة البشر والسادة وليس حياة العبيد ،

التيار الوطني العام الذي تصدى للانقلاب ، تكون بالتراكم خلال عقود ، تيار يملك أدوات الوعي والمعرفة فلم يضلله إعلام ولم يغيب عقله فقر أو حاجة لذا لم يتنازل عن عقله ولم يبيع ضميره ؛

التيار الوطني العام هو جملة العناصر والأفكار والقيم الموجودة في الشارع والحزب والجامع والجامعة والكنيسة ومؤسسات الدولة والأحزاب التي تحكم والتي تعارض معا ، والموجود في الأجهزة الأمنية والمخابراتية والمؤسسة العسكرية نفسها ، لذا لم يكن هناك إجماع من مؤسسة الجيش ولا مؤسسات الدولة على هذه الجريمة الدستورية والقانونية فكان الذين تصدوا للانقلاب أضعاف مضاعفة للذين قاموا به أو أيدوه ،

التيار الوطني العام ، أمل منشود لحماية إرادة الشعب حين تغيب المؤسسات ، وحراسة المكتسبات حين تحضر المكائد والمؤامرات ، وصمام آمان ووثيقة ضمان ضد من يغلب عليه الهوى والمغامرات .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. على عكس الأنظمة الوضعية الغربية ، التي في حقيقتها تجعل السيادة نظرياً للأغلبية على الأقلية و عملياً لقلة قليلة من الأقوياء صناع الحكام فيما يسمى الدولة العميقة أو ( بالانجليزية grey eminence ، بالفرنسية éminence grise ) تتخذ القرارات الهامة و تمارس أعمالها من وراء الستار ، فإن الإسلام قد جعل “السيادة للشرع” فلا يستعبد القوي الضعيف، ولا الغني الفقير، بل الجميع عبيد لله يخضعون لشرعه القويم .
    بما أن الله قد خاطب المسلمين جميعاً بتنفيذ الأحكام الشرعية في الأمور العامة ، فقد جعل للأمة سلطان التنفيذ و هذا لا يكون إلا من خلال اختيار الأمة بشكل رضائي لمن يحكمها بشرع الله أو يقوم بتطبيق الشرع و هذه قاعدة تسمى “السلطان للأمة ” .
    من كوارث هذا العصر ، أن شعوب الأمة قد تخلت عن ما منحه الله لها من سلطان و أسلمت رقابها و رعاية شؤونها و مقدراتها و ثرواتها لأحذية الاستعمار الفرعوني نتيجة للجبن و العجز و الكسل و البخل و وهم انتظار الفارس الأسمر على الحصان الأبيض ليقوم بانتشالها من الهاوية من دون أن تفعل شيئاً يرضي ربها ثم يخدم مصلحتها و مصلحة الأجيال المستقبلية. هذا مؤداه زيادة التردي أو السقوط و التخلف أو التراجع و هذه عقوبة الخضوع و الاستسلام للرويبضات التافهين.
    العسكر – و بمساعدة المخابرات – هو من انتزع “سلطان الأمة” بتخطيط من الاستعمار الفرعوني و بتمويل من سفهاء الأعراب بأوامر الاستعمار . من أفظع الجرائم أن يصل إلى التحكم بمصائر الناس قهراً عسكر جهلة ، فهؤلاء لا دراية عندهم بالحكم و الاقتصاد و القضاء و الإعلام و التعليم و غيرها من المجالات . حين يتدخلوا بما لا يفهمون فيه ، يكونون مثل الجزار “أو اللحام” الذي يرى في نفسه القدرة على إجراء عملية جراحية لإنسان حتى و لو كانت قص الزائدة الدودية.
    العسكريون من الانقلابيين خونة بمعنى الكلمة ، حيث أن خانوا واجباتهم التي انخرطوا في الجيش من أجلها . إن حصل تغيير إيجابي في هذه الأمة ، أوصيكم يا شباب الأمة وصية رجل عجوز قريب المغادرة للدنيا أن تعيدوا النظر في كل العسكر و المخابرات فهؤلاء قد أخضعهم الاستعمار لتربية فاسدة و لتدريبات سيئة و لغسيل أدمغة جعلتهم أعداء لأمتهم بدل أن يكونوا حريصين عليها و رحيمين بها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى